عملت إيران منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والقرار بحلّ الجيش العراقي، على ممارسة نفوذها داخل العراق عبر استراتيجية متعددة الأبعاد، تضمّن أهم بعد فيها دعم الجماعات والميليشيات الشيعية، سواء التي تشكلت خلال الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات وظلت على علاقة وثيقة بإيران، أو تلك التي تشكلت بعد سقوط نظام صدام حسين.
وقد عملت إيران عبر هذه الآلية على تشكيل جماعات إرهابية مسلحة تقدم لهم التسليح والتدريب، يُضغط بها على الحكومة المركزية، لكن من الملاحظ تحوّل تلك الجماعات المسلحة إلى العمل السياسي والتنافس على الانتخابات، مع الاحتفاظ بجناحها العسكري.
في حين تظلّ الجماعات السنية الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، كالقاعدة ومثيلاتها، خارج نطاق السلطة والحكم، فضلاً عن التوافق إقليميا ودوليا على كونها تنظيمات إرهابية خارج الشرعية، يختلف الوضع فيما يخص الجماعات والميليشيات التي شكلتها إيران، حيث تقوم إيران بخلق الكيانات الشيعية المسلحة لأهداف سياسية، وتعمل على صبغها بالشرعية فيما بعد، وذلك من خلال تحويل تلك الكيانات المقاتلة والموالية لها إلى كيانات سياسية.
ومن ذلك "منظمة بدر" بالعراق بقيادة هادي العامري ذي العلاقة القوية بالإيرانيين، وبخاصة قاسم سليماني، الذي لعب دوراً في تجنيدها وتدريبها وتسليحها بواسطة الحرس الثوري الإيراني، واندمجت في قوات الأمن العراقية، ثم اندمجت في العملية السياسية العراقية، وبسطت المنظمة نفوذها في العراق حتى أنه تم تعيين أحد أعضائها وزيراً للداخلية في الحكومة العراقية، وتعيين قائدها هادي العامري وزيراً للنقل والمواصلات، وأسست المنظمة مركزا ثقافيا لتدريب الشباب العراقي على أفكار "الجمهورية الإسلامية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد سقوط الموصل في يد تنظيم "داعش"، أسند رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى "منظمة بدر" القتال في الصفوف الأولى في محافظة ديالى. وهنا تحوّل كثير من المقاتلين الشيعة المدعومين من إيران خارج سيطرة الحكومة العراقية. ومنذ 2003 نجحت إيران في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية بالعراق من خلال توظيف تلك الميليشيات لخلق درجة من الفوضى، بحيث تكون سهلة الانقياد (وذلك لإحداث اضطراب مطوّل ولكن قابل للسيطرة عليه)، وهو ما لُقب بالفوضى المدارة أو المنضبطة أو المحكومة.
وخلال الحرب السورية، قدمت إيران الدعم الميداني لنظام بشار الأسد عبر مقاتلين من حزب الله والميليشيات العراقية، بل وتجنيد وتشكيل ميليشيات شيعية للقتال في سوريا. فقد جنّدت إيران الشيعة الأفغان والباكستانيين للمحاربة في سوريا، ومنهم فيلق "زينبون" من اللاجئين الباكستانيين، و"فاطميون" من اللاجئين الأفغان، وحركة "النجباء" وكتائب "الخراساني" بالعراق وغيرهم.
والجدير بالذكر أن تلك الميليشيات تم تسليحها وتدريبها في معسكرات من خلال عناصر من حزب الله اللبناني وعناصر من فيلق "قوة القدس"، التابع للحرس الثوري الإيراني.
وقد انشقت بعض تلك الميليشيات إلى جماعات وميليشيات أخرى، لكنها ما زالت تدين بالولاء لإيران. فقد استخدمت إيران الأيديولوجيا الشيعية لخلق ولاءات روحية بينها وبين تلك الميليشيات لاستنهاض قوتهم للدفاع عن المزارات والأماكن الشيعية المقدسة.
الخطورة هنا تكمن في أن تداعيات تشكيل وتجنيد تلك الميليشيات لن تقتصر عند حدود المعركة والميدان فقط، إذ يبدو أن إيران تريد الاستثمار في تلك الميليشيات لمرحلة ما بعد الحرب والقتال، أي استنساخ نموذج حزب الله اللبناني وتطبيقه في دول النزاع. حدث ذلك في لبنان ثم العراق وسوريا الآن. كما يتم التشبيك بين تلك الميليشيات بحيث تحارب في أي ميدان.
ومن تداعيات استنساخ التجربة، أن تلك الميليشيات الشيعية تبدأ عسكرية لأغراض قتالية، ثم ما تلبث أن تعمل إيران على دمجها في العملية السياسية في الدول المعنية أو تضمينها ضمن المؤسسة الأمنية الرسمية لتلك الدول. فمثلا سمّت بعضها بقوات الدفاع المحلية ودمجتها في المؤسسات والأجهزة الأمنية السورية الرسمية بموجب اتفاقات عقدتها مع تلك المؤسسات، وبالتالي ستنضوي تحت لواء المؤسسات الرسمية الأمنية والعسكرية السورية، لكن يظل انتماؤها لإيران التي أسستها.
تلك التداعيات لها أيضا جانب آخر مرتبط بعملية التغيير الديموغرافي التي تحدثها إيران بسوريا، فقد يكون استمرار تلك الميليشيات بسوريا أحد محاور عملية التغيير. ويلاحظ تركّز أبرز الميليشيات التي جنّدتها وشكّلتها إيران في مناطق النزاع كلبنان وسوريا والعراق.
إذاً تعمل إيران منذ 2003، ولا سيّما بعد 2011، على توظيف مختلف الأدوات لتحقيق مصالحها، فاستخدمت الأداة الأيديولوجية، وهي العلاقة مع جماعات الشيعة في باقي المنطقة، لتمكين سياسي وعسكري للقوى الشيعية في المنطقة.
وهنا يستوجب الانتباه لسياسة إيران في تأسيس الميليشيات الشيعية، والعلاقة بينها وبين حزب الله اللبناني، وعملية تحويلها من الميدان القتالي للسياسي والتمكين داخل العملية السياسية، ومستقبلها داخل سوريا والمنطقة لتهديد خصوم إيران وسوريا فيما بعد إذا استقرت على أراضيها، لاستخدامهم كأوراق مساومة وضغط في مواجهة الأطراف الإقليمية والدولية.