لا تكاد تخلو مدينة أو منطقة في #تونس من وجود مقام أو زاوية لولي صالح يذكر الناس مناقبه في العلم أو حماية البلاد والعباد من غزو أو #مقاومة_الاستعمار أو التصدي لحاكم ظالم، لذلك أحبهم الناس وجعلوا منهم رمزاً للبطولات يستحضرونها بأشكال متعددة من #الممارسات_الروحانية والصوفية، كل بحسب درجة وعيه.
هذا الاحتفاء بالأولياء الصالحين، وإن خفت وهجه في أيامنا هذه، فإنه يبقى موروثاً شعبياً يسعى كثيرون إلى المحافظة عليه، سواء من خلال مهرجانات محلية أو تظاهرات تبرز أهم الممارسات، في الشمال توجد "الخرجة"، وهي عبارة عن حفلة إنشاد تقام عبر مسيرة بالشارع للاحتفاء بمناقب ولي المنطقة، كخرجة سيدي بوسعيد الباجي، التي تعتبر من أهم الخرجات بالعاصمة تونس، وفي الجنوب توجد "الزردة" أو "الوعدة"، وهي طقوس معينة لطلب الأمنيات في أمر مصيري أو لتحصيل البركة.
شرك أم ممارسة روحانية؟
لكن هذا التعلق بالأولياء الصالحين عبر زيارة مقابرهم، وتقديم القرابين والذبائح وغيرها من الممارسات والطقوس، يرى فيها المتشددون شركاً بالله، ويراها بعض الحداثيين شعوذة، لكن الباحثة والمحاضرة بجامعة الزيتونة سارة حفيز تجدها ممارسة روحانية لها علاقة بالسكينة ولا تعتبرها تعبداً أو شركاً بالله.
وفي تصريح خاص لـ"اندبندنت عربية"، قالت حفيز "هذا التوجه الروحاني موجود في العديد من الثقافات على غرار البوذية بالهند، وهي عبارة عن فلسفة تشهد اهتماماً ملحوظاً بالعالم الغربي، كما أن البوذية مثلا تنتشر بسرعة حول العالم الآن، فهناك مراكز لها بعديد من الدول الأوروبية وأميركا الشمالية والجنوبية وجنوب أفريقيا وأستراليا وغيرها".
وترى حفيز أن "الممارسات الصوفية من خلال الأولياء الصالحين درجة من درجات الفلسفة، فالولاية هي درجة علمية مرتبطة بالصوفية على غرار قامات عربية عدة كمحي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي والحسين بن منصور الحلاج، فهي مذاهب كبيرة في التصوف كل له طريقته وفلسفته ومريدوه".
ليست تقديساً
وأوضحت أن "هذه الممارسات ليست تقديساً للولي الصالح، بل هي ممارسات روحانية وجودية"، معتبرة أن "تقديس الأولياء غالباً ما يمارسه الأشخاص البسطاء الذين يجهلون حقيقة هؤلاء القامات، ولا يعرفون فلسفتهم ومواقفهم تجاه عديد القضايا الحياتية والفكرية".
وأشارت حفيز إلى أن "التوجه للأولياء الصالحين موروث نفسي تستريح فيه النفوس، فلا توجد قرية أو مدينة في تونس إلا وبها زاوية، وهي المكان الذي يدفن فيه الولي الصالح، وكل شخص منسوب إلى زاوية معينة أو ما يعرف بالطريقة، وهي تقليد قد يكون المريد لهذه الأماكن فاهماً لدروس التصوف وعارفاً للطريقة التي تميز كل ولي، وحافظاً للأذكار، ويعرف الشخصية جيداً وأهميتها التاريخية، لكن هناك من يذهب فقط كعادة وتقليد لممارسات ورثها عن أجداده".
من لا ولي له فوليه الشيطان
أطلق بعض الباحثين مفهوم مجتمع الولاء الصالح ضمن تحديدهم لطبيعة ذهنية المجتمع التونسي في القرون 12 و13 و14 و15 باعتبار تعميم مبدأ الانتماء إلى الطرق الصوفية.
وكان الشعار السائد داخل المجتمع التونسي، بحسب بحوث منشورة، "من لا طريقة له فطريقته شيطانية، ومن لا ولي له فوليه الشيطان"، مما يعكس اختراق الاعتقاد في الطريقة والاعتماد على الصوفية في تصريف شؤون الحياة، خصوصاً ما اتصل منها بالمصير وتحصيل البركة.
أشهر الأولياء
أشهر الأولياء الصالحين وأكثرهم قرباً للناس وشعبية هو "سيدي محرز" في باب سويقة بقلب مدينة تونس العتيقة، وهو محرز بن خلف وينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق من ابنه عبدالرحمن، وقد طردهم الخليفة العباس من مكة فهربوا إلى تونس.
محرز بن خلف من مواليد 951 ميلادياً وتوفي عام 1022، بعد حياة حافلة بالعلم والصلاح حتى جعله التونسيون في قلوبهم وأحبه اليهود، لأنه اشتهر بحمايتهم والدفاع عنهم.
كما كان بيته في قلب المدينة العتيقة ومجلسه بجامع الزيتونة ملجأ للمظلومين والمحتاجين حتى سماه الجميع سيدي محرز سلطان المدينة، وعرف عنه حبه للتعايش بين الأعراق والأديان وكان عالماً فقيهاً فصيحاً إماماً، وكان مقصداً للعلماء لذلك رفعه التونسيون إلى مرتبة الولي الصالح.
أبو الحسن الشاذلي
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الفترة نفسها ظهر الولي أبو الحسن الشاذلي القادم من المغرب، الذي أصبح رمزاً لواحدة من أكبر الطرق الصوفية بالعالم الإسلامي تمتد من وسط أفريقيا حتى العراق.
ويعتقد مريدوه أن نسبه ينتهي إلى علي بن أبي طالب، وهو من مواليد 1196 في المغرب بمنطقة تسمى غمارة ومنها قدم إلى تونس، ثم اتجه إلى مصر عام 1144 وساعد في تأسيس المذهب الشاذلي بالإسكندرية، حيث نسبت له كرامات ومقولات اختلط فيها الواقع بالأسطورة.
عائشة المنوبية
في تونس أيضاً نجد عديداً من النساء الصالحات على غرار عائشة المنوبية التي تتلمذت على يد أبي الحسن الشاذلي، وكانت نقاشاتها الفكرية مع معلمها مرجعاً للطلبة آنذاك.
وهبت المنوبية حياتها لخدمة الناس والتصوف، فرفضت الزواج مبكراً، وكانت نصيرة النساء ودافعت عن حقوقهن في العلم واختيار الزوج وشرط الرضا والحب.
اهتمام حكومي
أغلب الأولياء الصالحين في تونس هم شخصيات تاريخية لها بصمة بارزة في مجال معين وخصوصاً المعرفة والتفكير أو القرب من الناس والدفاع عن حقوقهم.
وتهتم أيضاً السلطات التونسية، وعلى رأسها وزارة الشؤون الدينية، بالأولياء الصالحين وبمزاراتهم باعتبارها موروثاً يجب المحافظة عليه.
في هذا الإطار، أدى وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشائبي قبل أيام زيارة إلى مقام الولي الصالح سيدي محرز بن خلف بالمدينة العتيقة للاطلاع على الموكب الديني بالمقام الذي ينتظم لتلاوة القرآن وسرد الحديث والذكر والدعاء.
العناية بالمعالم الدينية
وبين الوزير أن وزارة الشؤون الدينية تولي العناية اللازمة بالمعالم الدينية، لا سيما الزوايا والمقامات، وهي حريصة على تنقيتها من طقوس الشعوذة، ودحض التفكير الخرافي، حتى تضطلع المزارات بوظائفها النفسية والاجتماعية والخيرية والإصلاحية كمنارة اعتبارية وكياناً روحياً في المجتمع.
وتحدث الوزير عن مناقب صاحب المقام، مبرزاً المكانة العظيمة التي بلغها الشيخ محرز بن خلف في حياته، حيث ذاع صيته من خلال صلاحه وإصلاحه وحبه لبلاده وتصوفه وزهده وورعه وتسامحه وعدله ووعظه وتبحره في العلوم الدينية واللغوية، ودوره بنشر المذهب المالكي في البلاد.