ملخص
العواقب والمحاولات التاريخية المستمرة للشعب الجورجي للابتعاد عن #المحور_الروسي تنبئ بأن الاحتجاجات ضد تقييد #حرية_الإعلام لن تتوقف إذا ما سعى الحزب الحاكم إلى المضي قدماً
اضطر الحزب الحاكم في جورجيا الأسبوع الماضي إلى سحب مشروع قانون يهدد عمل وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية، بعد أن أثار المقترح احتجاجات ضخمة شهدتها العاصمة تبليسي، استخدمت خلالها الشرطة عبوات الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين تجمعوا أمام البرلمان.
الاحتجاجات طاولت روسيا، إذ اعتبر المعارضون أن مشروع القانون الذي كان يهدف إلى إلزام المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي تتلقى أكثر من 20 في المئة من تمويلها من الخارج التسجيل على أنها "عملاء أجانب"، هو نسخة من تشريع روسي يستخدمه "الكرملين" لقمع الصحافة المستقلة ومنظمات حقوق الإنسان.
ووجهت اتهامات إلى الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" باستخدام مشروع القانون لتقويض آفاق انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي، والتقارب أكثر من اللازم من موسكو بما يتعارض مع الرأي العام في جورجيا.
في المقابل، دافعت الحكومة الجورجية عن مشروع القانون بوصفه ضرورياً لزيادة الشفافية في ما يتعلق بتمويل المنظمات غير الحكومية، ورفضت مقارنته بالقانون الروسي. وأشار مؤيدون إلى أنه يشبه قانون "تسجيل العملاء الأجانب" الأميركي الذي يعود إلى عام 1938، كما ردت موسكو معتبرة أن الاحتجاجات "محاولة انقلاب دبرها الغرب" بحسب وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
تاريخ من العداء
طالما كانت منطقة القوقاز تمثل قلقاً للروس، فبالعودة إلى التاريخ يذكر الكاتب الأميركي بين ستيل في كتابه الصادر عام 2019 "خطة مارشال: فجر الحرب الباردة"، أنه في أعقاب استسلام ألمانيا في مايو (أيار) عام 1945، وقف الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين أمام خريطة الاتحاد السوفياتي مشيراً بغليونه إلى قاعدة أسفل منطقة القوقاز قائلاً لمساعديه (لا أحب حدودنا هنا)، ويقصد المنطقة التي التقت فيها جمهوريات الاتحاد السوفياتي جورجيا وأرمينيا وأذربيجان بالقوى المعادية في ذلك الوقت إيران وتركيا.
ويشير الكاتب إلى أن الصدام الواقع بين روسيا والغرب منذ الحرب الباردة "لا يتعلق بالأيديولوجيا مثلما هو شائع وإنما بالجغرافيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالفعل ترتبط جورجيا التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة مع روسيا بتاريخ يتسم بالتوتر والتعقيد. ففي أعقاب سقوط الإمبراطورية الروسية عام 1918 أعلنت الاستقلال عن روسيا، لكن سرعان ما احتل الجيش الأحمر البلاد مجدداً عام 1921 وتم ضمها إلى الاتحاد السوفياتي.
لكن في نهاية المطاف كانت جورجيا الحلقة الأولى التي فرطت عقد الاتحاد السوفياتي، فبينما كان الساسة السوفيات يكافحون لإنقاذ التحالف من الانهيار، خرج الجورجيون للمطالبة بالاستقلال عام 1990، وهي الاحتجاجات التي حاولت القوات السوفياتية قمعها بقوة مما خلف 21 قتيلاً ومئات الجرحى، لكن الجورجيين استطاعوا الحصول على الاستقلال في أبريل (نيسان) 1991 قبل وقت قصير من انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ يقول مراقبون إن الهتافات المناهضة للشيوعية والمؤيدة للحرية في جورجيا كانت أول إشارة للعالم بأسره إلى أن الاتحاد السوفياتي كان ينهار.
خلال التسعينيات عانت البلاد الاضطرابات السياسية والاقتصادية، وتصاعدت النزعات الانفصالية تحديداً في إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا اللذين كانا يتمتعان بحكم ذاتي تحت المظلة السوفياتية. فبين عامي 1991 و1992 فقدت جورجيا السيطرة على أجزاء من أوسيتيا الجنوبية في صراع انفصالي انتهى بنشر قوات حفظ السلام الروسية في المنطقة. وتكرر هذا النوع من الصراع بين عامي 1992 و1993، والذي انتهى باستقلال إقليم أبخازيا بدعم من موسكو.
ثورة الزهور
في العقد الأول من القرن الـ21 قادت جورجيا ما يسمى الثورات الملونة، حيث شهدت ثورة الزهور التي أطاحت الرئيس المدعوم من روسيا إدوارد شيفردنادزه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003، وأوصلت الثورة ميخائيل ساكاشفيلي المدعوم غربياً وزعيم المعارضة الجورجية إلى الرئاسة.
كانت ثورة الزهور هي المفجر لثورات في دول تعتبرها روسيا ضمن مناطق نفوذها، وهكذا اشتعلت الثورة البرتقالية في أوكرانيا، وثورة التوليب في قيرغيزستان، وفي العقد الثاني شهدت أرمينيا الثورة المخملية، وأدت هذه "الثورات الملونة" جميعها إلى صعود القوى المعارضة المقربة للغرب إلى السلطة، مما دفع بموسكو والقوى الحليفة لها إلى اتهام الدول الغربية بتدبير تلك الثورات لتقويض النفوذ الروسي في المنطقة.
خاض البلدان حرباً قصيرة (حرب الأيام الخمسة) في عام 2008، إذ شن الرئيس الجورجي هجوماً لاستعادة السيطرة على أوسيتيا الجنوبية، وردت روسيا بإرسال قوات لدعم الانفصاليين في الإقليم، وانتهت الحرب بفقدان جورجيا السيطرة على منطقتي أوسيتيا وأبخازيا الصديقتين لموسكو، واعتراف الأخيرة بهما كدولتين مستقلتين وإقامة قواعد عسكرية بهما.
قطعت موسكو وتبليسي العلاقات الدبلوماسية وتجمدت علاقاتهما الاقتصادية في أعقاب الحرب، ولا تزال قضية وضع المنطقة مصدر إزعاج رئيس، حتى مع تحسن العلاقات إلى حد ما.
يشير مراقبون إلى التشابه بين الوضع في جورجيا وأوكرانيا، فكلتاهما دولة سوفياتية سابقة وجدت نفسها عالقة بين الغرب والشرق، وقد تصاعدت الخلافات بين روسيا والغرب في شأن توسع "الناتو" في فترة ما بعد الحرب الباردة، منذ أن فتح الحلف آفاق منح العضوية لجورجيا وأوكرانيا خلال قمة بوخارست عام 2008. ومن ثم كانت حرب روسيا القصيرة عام 2008 مع جورجيا وضم بوتين شبه جزيرة القرم ودعمه الانفصاليين في شرق أوكرانيا عام 2014، وكانت بمثابة خطوات جادة لإظهار استعداده للتدخل العسكري لإحباط هذه الأهداف.
إلى دائرة السيطرة
منذ عام 2013 مع صعود حزب "الحلم الجورجي" إلى السلطة بقيادة رجل الأعمال بيدزينا إيفانيشفيلي، الذي جمع ثروته في روسيا، بدأت تبليسي في استعادة العلاقات الاقتصادية وغيرها تدريجاً مع موسكو، إذ يعتقد أن الحزب يقود جورجيا مجدداً بعيداً من الغرب لصالح النفوذ الروسي.
وأعرب الرئيس السابق ساكاشفيلي عن أسفه أن "البلد الذي عمل بجد من أجل بنائه من دولة فاشلة في ما بعد الاتحاد السوفياتي إلى ديمقراطية غربية وليدة وحليف قوي للولايات المتحدة عاد إلى فلك روسيا".
مع اقتراح "قانون العملاء الأجانب" يعتقد المعارضون في الداخل أن الخطوة تمثل علامة على عودة جورجيا إلى دائرة السيطرة الروسية، أو ما إذا كان الحزب الحاكم، لأسباب سياسية داخلية بعد أكثر من عقد في السلطة، يتبنى نهج بوتين للبقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى.
سفير الولايات المتحدة السابق لدى أوكرانيا روبرت هيربست يوضح أنه ربما يكون متردداً في القول "إن جورجيا قد انجرفت مجدداً إلى فلك روسيا"، معتبراً أن مشروع القانون الأخير هو الأحدث في سلسلة من الخطوات التي تبعد جورجيا بوضوح عن المسار الديمقراطي.
وفق المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية فإن الانجراف نحو تأثير موسكو أصبح نمطاً، "فخلال السنوات القليلة الماضية، ولا سيما الأشهر الـ18 الماضية، نفذ الائتلاف الحاكم في جورجيا سلسلة خطوات بدت كأنها مصممة لإبعاد البلاد عن الغرب وتحويلها تدريجاً باتجاه دائرة السيطرة الروسية".
وكان موقف الحزب الحاكم في جورجيا من موسكو عقب اندلاع حرب أوكرانيا العام الماضي لافتاً للقوى الغربية والمعارضين في الداخل، فعلى رغم تاريخها الطويل من العداء لروسيا بدت جورجيا متحفظة في إعلان دعمها أوكرانيا، واستبعدت الانضمام إلى العقوبات الغربية ضد موسكو. ليس ذلك فحسب، بل أصبحت جورجيا بمثابة طريق عبور مهم للبضائع التي تسافر إلى روسيا في تحد للعقوبات الغربية.
مواصلة الكفاح
على رغم سحب مشروع القانون فإن الحكومة الجورجية لم تتخلَّ كلياً عن المقترح، بل قالت إنها ستطلق ما يشبه حواراً مجتمعياً لشرح الهدف من مشروع القانون وأهميته، وإنها أرسلت مشروع القانون إلى "لجنة البندقية"، وهي هيئة تندرج ضمن "المجلس الأوروبي" تقدم المشورة للبلدان في شأن التبعات المحتملة لمشاريع القوانين على الديمقراطية وحقوق الإنسان.
سيؤثر تمرير مثل هذا القانون حتماً في العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، وفرص جورجيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي حذر في بيان له الثلاثاء من أن القانون "يتعارض مع قيمه ومعاييره، وستكون له عواقب خطيرة على علاقاتنا".
وفي فبراير (شباط) الماضي قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد براس إن "أي شخص يصوت لصالح مشروع القانون" سيخاطر بعلاقة جورجيا مع الغرب.
هذه العواقب والمحاولات التاريخية المستمرة للشعب الجورجي للابتعاد عن المحور الروسي تنبئ بأن الاحتجاجات لن تتوقف إذا سعى الحزب الحاكم إلى المضي قدماً في تمرير القانون.
وتدعم الرئيسة الجورجية سالومي زورابيشفيلي المؤيدة للغرب التي ابتعدت عن الحزب منذ انتخابها عام 2018 مطالب المحتجين. وذكرت أنها تنوي استخدام حق النقض ضد مشروع القانون وإن كان البرلمان يملك صلاحية تجاوز قرارها.