كثيرة هي الزيارات المفاجئة التي قام بها الرئيس الليبي الراحل العقيد معمر القذافي إلى عواصم عربية وأجنبية، لكن خطة الهبوط في مطار هيثرو البريطاني من دون تنسيق مسبق كانت الأكثر جدلاً داخل الحكومة البريطانية عام 1982، إذ تعمد الرئيس الليبي آنذاك إرسال بعض المعلومات للبريطانيين تخبرهم بأن القذافي يخطط للهبوط في مطار هيثرو، وذلك قبل أو بعد مشاركته في اجتماعات منظمة الأمم المتحدة بنيويورك.
ويحتفظ الأرشيف الوطني البريطاني بأسرار تلك الزيارة في ملف، حوى عدداً من البرقيات السرية المتبادلة بين المسؤولين لدى لندن والسفارة البريطانية في ليبيا. تشير إحدى هذه الرسائل التي يعود تاريخها إلى 16 نوفمبر 1982 إلى قلق السلطات البريطانية من تداعيات قبول أو رفض زيارة القذافي غير المنسق لها على مصالحهم في ليبيا وأفريقيا وعلاقاتهم بالولايات المتحدة الأميركية، والأهم من ذلك الرأي العام البريطاني الذي شهد موجة اغتيالات ضد المعارضة الليبية، نفذتها عناصر مرتبطة بالنظام الليبي عام 1980، كما يعتقد المسؤولون البريطانيون أن القذافي يحاول استغلال رئاسته لمنظمة الوحدة الأفريقية من أجل كسر العزلة الغربية المفروضة على نظامه، فهم يتساءلون عن أسباب أخرى للزيارة غير مصرح بها.
وتقول إحدى تلك الوثائق "القذافي يحاول أن يتجاوزنا. عدم استقباله قد تكون له عواقب على مصالحنا في ليبيا... وإفساح المجال له وقبول زيارته قد يعرضنا لسلوكيات غريبة وبغيضة من النوع التي حدثت في فيينا. التنازل سيكون بمثابة تشجيع للقذافي في الوقت الذي لم تظهر عليه أية علامة تدل على تقبل مسؤولية تصرفاته. ومن جهة أخرى، فإن قضية المعارضة تلوح في الأفق مرة أخرى. تمت استشارة (الجهات المعنية) واتفقنا على أننا يجب أن نحاول محاصرته وإبقائه داخل المطار فقط." وورد في الجزء الثاني من الوثيقة أن القذافي في تلك المرحلة "يحاول اختبار ردود فعل الحكومة البريطانية على فكرة الزيارة".
برقيات متضاربة حول توقيت الزيارة وأهدافها
ويتضح من وثيقة أخرى تحمل تسريبات عن زيارة القذافي مررت من خلال كوادر الخطوط الجوية العربية الليبية، تفيد بأن "العقيد مع الوفد المرافق له ينوي الوصول إلى مطار هيثرو في غضون 24 ساعة في طائرتين من طراز بوينغ 747". لكن تقريراً آخر مرسل من قبل السفارة البريطانية في طرابلس يتحدث عن نفي رئيس قسم أوروبا الغربية في مكتب الشعب للاتصال الخارجي المعلومات الواردة.
ويبدو أن السفارة البريطانية في ليبيا لم تقتنع بنفي رئيس قسم أوروبا الغربية في مكتب الشعب للاتصال الخارجي في ليبيا، لذلك تخاطب السفارة مرجعيتها في لندن، قائلة "قد يكون من المفيد التحقق مرة أخرى مع الكفيري في مكتب الشعب في لندن".
وتتحدث البرقية المرسلة من السفارة البريطانية في طرابلس في 15 نوفمبر 1982 عن اتصال السكرتير الخاص لأمين اللجنة الشعبية العامة فوزي حمزة بالسفارة البريطانية، وتقول "طلب مني فوزي حمزة السكرتير الخاص للعبيدي أن أتصل به هذا الصباح. وكان يتحدث باسم العبيدي، قال إن القذافي كان يفكر في المرور عبر لندن، حيث قد يرغب في البقاء ليلة أو ليلتين، في طريقه إلى نيويورك، إذ قد يبقى (في أميركا) بضعة أيام لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة. لم يتم تحديد أي تواريخ بعد. لكن الرحلة إلى نيويورك قد تكون في نهاية نوفمبر، وذلك بعد انعقاد قمة منظمة الوحدة الأفريقية، المقرر عقدها هنا في الفترة من 23 إلى 26 نوفمبر."
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والعبيدي هو عبدالعاطي العبيدي أمين اللجنة الشعبية العامة حينها الذي عينه معمر القذافي وزيراً للخارجية عام 2011 خلفاً لموسى كوسا الذي انشق عن النظام الليبي قبيل الإطاحة بالقذافي. ويسجل المسؤول البريطاني في هذه الوثيقة توصياته حول قبول أو رفض زيارة القذافي، قائلاً "على رغم أن إقامة القذافي الذي يرافقه عادة وفد كبير في رحلاته إلى الخارج ستكون قصيرة، وقد تخلق مشكلات إدارية وأمنية كبيرة، إلا أنها ستوفر للوزراء فرصة ممتازة لمقابلة القذافي ونقل وجهات نظرهم إليه حول مجموعة واسعة من القضايا، سواء باعتباره رئيساً لمنظمة الوحدة الأفريقية أو زعيم ليبي. ليس لدي أدنى شك في أنه إذا سارت الزيارة على ما يرام، فقد يكون لها تأثير إيجابي في العلاقات الثنائية، غير ذلك، من المفترض أن يكون لرفض استقبال رئيس منظمة الوحدة الأفريقية آثار أوسع نطاقاً من مجرد الآثار المترتبة على علاقاتنا الثنائية".
ليبيا تعلن خطة الزيارة بلا موعد
بعد تسريب معلومات حول زيارة الرئيس الليبي إلى بريطانيا ونفيها من قبل رئيس قسم أوروبا الغربية في مكتب الشعب للاتصال الخارجي، تشير برقية أخرى إلى أن القائم بالأعمال البريطانية لدى ليبيا تلقى اتصالاً من الحكومة الليبية يؤكد صحة المعلومات ويتقدم بطلب للزيارة، جاء فيه أن "رئيس الوزراء يجب أن يكون على علم بأن الليبيين أخبرونا أن العقيد القذافي يفكر في المرور عبر لندن في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) أو بداية ديسمبر (كانون الأول). وقد اتصل أحد موظفي (مكتب) القذافي بسفارتنا في طرابلس ودعا القائم بالأعمال السير جون ليهي في 15 نوفمبر لتأكيد الطلب".
وأكدت الوثيقة أن "المسؤول الليبي شدد على إحاطة القائم بالأعمال بأن القذافي سيسافر بصفته رئيساً لمنظمة الوحدة الأفريقية"، مؤكداً أن أياً من زيارته إلى لندن ستكون خاصة ويعتمد شكل الزيارة على الموافقة البريطانية، فهي "قد لا تكون أكثر من محطة للتزود بالوقود، وقد أبلغنا القائم بالأعمال بأننا سننظر في الطلب ولكن المهلة القصيرة قد تسبب لنا بعض الصعوبات، بخاصة وأننا نتوقع وصول الملك الحسن الثاني (ملك المغرب) ووفده في الوقت الذي ينوي القذافي السفر فيه".
كخطوة أولى تشير الوثيقة إلى أن البريطانيين أرادوا تحويل نظر سفيرهم لدى طرابلس إلى فهم دوافع القذافي في طلب زيارة لندن، "ونفترض أنه يرغب في الاستفادة على أفضل وجه ممكن من رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية بالضغط من أجل القيام بزيارات مماثلة إلى البلدان التي قاومت نهجه. ولا شك في أنه سيرى في مثل هذه الزيارات وسيلة لكسب الاحترام. هناك مشكلات واضحة حول استقبال القذافي هنا. وبصرف النظر عن سياسته الخارجية، فإن حملة الاغتيالات عام 1980 ضد المنفيين الليبيين في لندن وأماكن أخرى كذلك لم يمض عليها وقت طويل. لقد احترم الليبيون حتى الآن التطمينات البريطانية بأن مثل هذه الحملة لن تتكرر لكن التصريحات الأخيرة حول هذا الموضوع من قبل القذافي كانت مثيرة للقلق".
وتضيف "من ناحية أخرى لدينا مصالح كبيرة في ليبيا، بما في ذلك الجالية البريطانية التي يبلغ عدد سكانها حوالى 7 آلاف شخص وتجارة بقيمة 500 مليون جنيه استرليني سنوياً، لقد واجهنا بعض المشكلات لحماية هذه المصالح من خلال تحسين أجواء علاقاتنا قليلاً في العام أو العامين الماضيين. وقد يتعرض هذا للخطر إذا أساء القذافي (فهمنا)، فأية زيارة ستكون محرجة. سيكون السيد (بيم) قادراً على تقديم نصيحته المدروسة لرئيس الوزراء عندما نسمع مزيداً من طرابلس. لكن تفكيرنا في الوقت الحالي هو أنه لأسباب ثنائية ولأسباب تتعلق بمنظمة الوحدة الأفريقية يجب أن نتجنب الرفض الصريح، ربما نوجه الليبيين نحو التوقف في مطار لندن فقط. قد يقترن ذلك بمحادثات مع وزير من وزارة الخارجية (ربما السيد هيرد)".
بين نار أميركا وأفريقيا والقذافي
وتؤكد الوثيقة أن "عباءة الاحترام التي توفرها رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية لا يمكن أن تخفي حقيقة أن القذافي شخصية مثيرة للجدل إلى حد كبير، وله سمعة في دعم الإرهاب والتدخل في شؤون البلدان الأخرى. يمكننا أن نتوقع رد فعل قوي جداً من الأميركيين إذا وافقنا على استقبال القذافي على مستوى عال".
وتشير وثيقة أخرى إلى أن البريطانيين كانوا قد تساءلوا أيضاً عن الموقف الأميركي تجاه زيارة القذافي المحتملة بصفته المفترضة رئيساً لمنظمة الوحدة الأفريقية إلى نيويورك، وذلك لمخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وتذكر الوثيقة نقاطاً عدة تتعلق بالزيارة، مثل إشارتها إلى أن "الأميركيين ليست لديهم نية لاستبعاد القذافي، وقد يكون الاستبعاد يشمل جزءاً من حاشيته وهذه قضية مختلفة وتتعلق بحجم الحاشية. وعلى أية حال، فإن تحركات الوفد الليبي ستقتصر على نيويورك، ولم تكن هناك مسألة عقد اجتماع ثنائي على أي مستوى. كانت البعثة الليبية لدى الأمم المتحدة تتابع بنشاط ترتيبات هذه الزيارة التي أعتقد أنها من المرجح أن تتم في الأسبوع الأول من ديسمبر. وتشير المؤشرات الحالية إلى أن القذافي كان ينوي البقاء في نيويورك لمدة سبعة أيام أو نحو ذلك. من الواضح أن الأميركيين قلقون بشأن زيارة القذافي هذه، لا سيما في ضوء خطابه الذي يبدو عنيفاً بشكل غير عادي أمام اللجنة الوزارية لمنظمة الوحدة الأفريقية".
الخشية من تجربة فيينا
ولفتت كذلك إلى أن "سياسات القذافي في أفريقيا والشرق الأوسط جعلته معزولاً. ورئاسة منظمة الوحدة الأفريقية، التي بدا أنها بعيدة المنال في أغسطس (آب)، تبدو الآن ممكنة. وعلى رغم المحاولات المغربية لتأجيل مؤتمر القمة، يبدو من المرجح أن يحقق الاجتماع النصاب القانوني"، مضيفه أنه يتوقع من القذافي أن "يستفيد إلى أقصى حد من منصبه الجديد، لا سيما في الضغط من أجل القيام بزيارات إلى الخارج، التي لا يزال يعلق عليها أهمية. حتى الآن، استعصت عليه فرصة زيارة عاصمة أوروبية كبرى، (باستثناء زيارته إلى فيينا، التي كانت فوضوية). وقد قاوم الفرنسيون والألمان والإيطاليون الضغوط الليبية لاستقبال القذافي، على رغم أن الأخيرين قد دعوا (مبعوثه) جلود".
وتخلص النقاط البريطانية نحو الزيارة الليبية إلى أن علاقة الدولتين "على رغم تحسنها منذ جرائم القتل عام 1980، لم تصل بعد إلى المرحلة التي تكون فيها زيارة القذافي أو أي من كبار وزرائه مناسبة. جاء وزير الصناعات الثقيلة الليبي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وذهب السير جيه ليهي والسيد مايلز إلى طرابلس الشهر الماضي، ويخطط السيد كلارك وزير الصحة للذهاب قريباً. وستكون زيارة العبيدي (أي ما يعادل وزير الخارجية) إلى لندن هي الخطوة المنطقية التالية".
وحول تقليل الضرر الذي يمكن أن يسببه الرفض البريطاني الصريح لطلب الزيارة على المصالح البريطانية في ليبيا، وتداعياته على العلاقات البريطانية مع منظمة الوحدة الأفريقية، تقترح الوثيقة مقترحات عدة، مثل "أن نوجه الليبيين نحو التوقف مع الاهتمام المناسب في مطار لندن، فالقذافي لا يصف نفسه بأنه رئيس دولة، لكنه يتوقع أن يعامل على هذا النحو. يجب أن يقابله السيد هيرد، ويمكن عقد جلسة محادثات في المطار، وإذا أصر الليبيون فيجب علينا بعد ذلك التأكيد على المشكلات الأمنية التي ستفرضها علينا رحلة إلى وسط لندن".
تأجيل الزيارة وليس إلغاؤها
بعد أسبوعين من البرقيات المتبادلة في أوساط الحكومة البريطانية تحسم إحدى البرقيات الجدل الدائر آنذاك، فتضمنت إحدى الوثائق أن "القائم بأعمال رئيس القسم الأوروبي لدى ليبيا اتصل بنا هاتفياً هذا الصباح (28 نوفمبر) ليقول إنه تقرر الآن تأجيل الزيارة".
ويضيف القائم بالأعمال البريطاني لدى طرابلس أنه تواصل مع مكتب العبيدي في هذا الخصوص، قائلاً "في محادثة هاتفية لاحقة مع حمزة السكرتير الخاص للعبيدي، سألت عما إذا كانت الزيارة قد تم تأجيلها أو إلغاؤها، فقال حمزة إنه تم تأجيلها بالتأكيد لكنه لم يكن متأكداً مما إذا كان قد تم إلغاؤها بالكامل"، وهكذا انتهى كابوس الزيارة التي لم تحدث أبداً.