إنها قصة موت معلن، مع الاعتذار من الروائي الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيز، لـ"يوم حرية الإنترنت" Internet Freedom Day بعد حياة قصيرة تماماً. وقبل ارتداء ملابس الحداد، والاكتفاء من الغنيمة بالإياب والوقوف على الأطلال، هناك يد نسوية أميركية ربما تستطيع انتشال "يوم حريّة الإنترنت" من موته الافتراضي. ويعقد المتفائلون بعودته إلى الحياة الآمال على التغيير الذي حصل في تركيبة مجلس النواب، بصعود الحزب الديمقراطي إلى الإمساك بالأغلبية فيه، على الرغم من أن ولادته كانت احتجاجاً على قانون روّج له الحزب الديمقراطي نفسه. وتوضيحاً، يتعلق الأمر بقوانين أعلن النواب الديمقراطيون في الكونغرس أنهم يعتزمون إقرارها لحماية الحرية الفردية والحياة الشخصية على الإنترنت. وهي تهدف إلى إلغاء الآثار التي ترتبت على قوانين أقرها الكونغرس في العام 2017 )عندما كانت غالبيته من الحزب الجمهوري( بشأن بيانات الجمهور على شبكة الإنترنت. واستطراداً، إذا نجحت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي في معركتها لإقرار المقترحات الديمقراطية، فلربما أعطى ذلك "قبلة الحياة" لنشاطات الحرية الفردية والخصوصية في الفضاء الافتراضي للشبكات، وضمنها "يوم حرية الإنترنت".
بداية القصة؟ إنهما "سوبا" و"بيبا"
في العام 2012، في شوارع قريبة من الكونغرس، اندلعت تظاهرات قويّة احتجاجاً على قانونين أساسيين بشأن الخصوصية والحرية الفردية على الإنترنت. وبتأييد من شركات المعلوماتية الكبرى في "وادي السيليكون"، أقرّ مجلس الشيوخ آنذاك، قانون "بروتكت آي بي آكت" Protect Internet Protocol Act ، [اختصاراً PIPA "بيبا"]، بل إن اسمه القانوني التفصيلي هو "قانون حماية التهديدات الفعلية عبر الإنترنت للابتكار الاقتصادي وسرقة الملكية الفكرية". كذلك أقر قانوناً آخر اعتُبِرَ مُكمّلاً له هو "قانون وقف القرصنة عبر الإنترنت" Stop On Line Piracy [اختصاراً SOPA "سوبا"]. ويفرض القانونان عدم تداول كل أنواع المحتوى على الإنترنت من دون الحصول على موافقة مسبقة من الجهة التي صنعته، تحت ذريعة محاربة القرصنة الإلكترونية. وبقول مجمل، حمل القانون وجهة نظر الشركات الكبرى في المعلوماتية والاتصالات المتطورة، وهي تتشدد في حماية الملكية الفكرية بشكل صارم.
في المقابل، اعتبر نشطاء حماية الحرية على الإنترنت، كـ"مؤسسة الجبهة الإلكترونية" Electronic Frontier Foundation (وهي مؤسسة أميركية تنشط في مجال الدفاع عن الحرية والخصوصية الفردية على الإنترنت)، و"الاتحاد الأميركي للحريات المدنية" American Civil Rights Union ، أن قانوني "سوبا" و"بيبا" يرفعان شعار حماية الحق في حماية الملكية الفكرية، لكنهما يتطرفان في ذلك إلى حدّ الإضرار بانتشار المعرفة وتعزيز الابتكار، وهما من الأمور الأساسية التي يفترض بالملكية الفكرية أن تحميهما أيضاً.
كذلك أشار المعترضون إلى رداءة الصيغة التعميمية لقانوني "سوبا" و"بيبا"، وأوضحوا أن النصوص (بل كل أنواع المحتوى) الموجودة على الإنترنت هي مترابطة ومتشابكة ومتعددة المصادر والوسائط، بأثر تقنية الترابط الإلكتروني التي صنعت الإنترنت نفسها، منذ أن ابتكر مهندس الكومبيوتر البريطاني السير تيم بارنز لي تلك التقنية الرائجة في الـ"ويب كلها"! ولاحظ المعترضون أن القانونين يتسمان بالتعميم والشمول. وضربوا مثلاً على ذلك بأنه إذا أوردت وسيلة إعلاميّة خبراً وضمّنته روابط إلكترونية مع مصادر، وهو أمر يجري على مدار الساعة في الإعلام، تستطيع جهات المصدر أن تقاضي تلك الوسيلة، وهذا ما يدخل الإعلام العام في فوضى كبرى. كذلك يفرض القانونان على أصحاب المواقع أن يصادروا كل محتوى يتضمن ذلك النوع من الترابطات، ووضعه تحت طائلة الملاحقة قانونياً.
وفي سياق التشدّد عينه، فوَّض القانونان المدعي العام الأميركي أن يلاحق المواقع الشبكيّة التي تحوي نصوصاً فيها تلك التشابكات الإلكترونيّة، سواء أكانت داخل أميركا أو خارجها، كما تعطيه الحق في إقفالها! ويكفي تذكّر أن أسماء النطاق العليا كـ"دوت كوم"و"دوت أورغ"و"دوت نت"، تُمنح من أميركا، تحديداً من هيئة "أيكان" ICANN التي تشرف على حركة الإنترنت كلها. ويعني ذلك أن المواقع التي تستعمل تلك الأسماء تكون عرضةً للمساءلة القانونيّة، لمجرد احتوائها نصّاً ما فيه رابط إلكتروني على مصدر ما، من دون الحصول على موافقة مسبقة منه.
واعتبر المعترضون أن إقرار قانوني "سوبا" و"بيبا" في تلك الصيغة الفضفاضة والصارمة، يضع معوقاتٍ وقيوداً على مجمل العمل في الفضاء الافتراضي لشبكة الإنترنت. بقول مجمل، اعتبر المعترضون أن القانونين ضربة موجعة تسدّدها جهات تستفيد من التشدد في تفسير مسارات الملكية الفكرية، إلى حرية الابتكار والإبداع على الإنترنت.
آثار صراعات السياسة
بالتوازي مع حراك ضخم في الفضاء الافتراضي شمل دولاً كثيرة في أوروبا اهتم فيها الجمهور بتلك المعركة الأميركية لأن الشركات الأميركية تقود مسارَ المعلوماتية عالمياً، تحرّك شارع شبابي أميركي واندفع الى شوارع واشنطن ومدن أميركية اخرى للاحتجاج على قانوني "سوبا" و"بيبا". وآنذاك، نجح ذلك الحراك "المزدوج" (على الإنترنت وخارجها) في وقف اقرار قانوني "سوبا" و"بيبا". وتراجع الكونغرس عنهما تحت ضغط جاء معظمه من الحزب الديمقراطي لكنه لم يعدم مؤيديين في الحزب الجمهوري. واعتبر ذلك انتصاراً يتعيّن الاحتفاء به عبر "يوم حريّة الإنترنت".
لم تدم تلك الفورة طويلاً. وجرى الاحتفاء بذلك اليوم على مستوى عالمي في السنوات القليلة التالية. ثم توقف ذلك الأمر. لم يبق منه سوى ما يشبه الأطلال الإلكترونيّة، على غرار وجود موقع يحمل إسم "يوم حريّة الإنترنت"، لكنه يبدو كأنه شبه معطل، أو بالأحرى ميت!
في العام 2017، أهال الرئيس دونالد ترمب تراباً مجازياً غير مقصود على تلك الظاهرة. إذ تعاون مع الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، لإلغاء قوانين أقرها الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، تفرض على الشركات التي تقدم الخدمات على الانترنت، أن تحمي خصوصية بيانات الجمهور، تحت طائلة عقوبات متنوعة. وبقول آخر، أطلق الإلغاء يد الشركات في الاتجار ببيانات الجمهور، وهو أمر ظهر بوضوح بعد تفجّر فضيحة "كامبريدج آناليتكا" التي كشفت مدى تهاون "فايسبوك" في حماية البيانات الشخصية للأفراد، بل اعترف صراحة بأن تجارة البيانات هي أمر رائج تماماً في الممارسات التجارية لشركات المعلوماتية والاتصالات.
ومع وصول أغلبية من الحزب الديمقراطي إلى مجلس النواب، بدا أن صراعات الحرية على الانترنت تتجه نحو فصل جديد. إذ استفاد الديمقراطيون من أجواء تصاعدت، خصوصاً في سياق فضائح "فايسبوك" والتدخل الروسي الإلكتروني المفترض في انتخابات الرئاسة الأميركية في 2016، لدعم مساعيهم لفرض قوانين تحمي الخصوصيّة والحرية الفردية على الانترنت. وبذا، صارت نقطة النهاية في قصة "يوم حرية الانترنت" بيد نانسي بيلوسي، مع ملاحظة أن الأغلبية في مجلس الشيوخ- وهو الغرفة الثانية في الكونغرس- لم تزل في يد الحزب الجمهوري! هل يتجدّد الاحتفاء بـ"يوم حرية الانترنت" أم يستمر التعطل والموت اللذان يلفانه؟ سؤال ربما لا يطول ظهور إجابة عنه.