ملخص
يبحث كل من الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية في أفريقيا "إيغاد" عن دور لهما من خلال المبادرات والوساطات المطروحة لإيقاف النزاع في السودان في طريق البحث عن تسوية للنزاع في السودان.
بعد أن تعطلت محاولة الاتحاد الأفريقي في أيام النزاع الأولى، جاءت مبادرة "إيغاد" على إثر اجتماع سابق عقد بين رؤساء دول المنظمة، كلف فيه رؤساء كل من دول، جنوب السودان وكينيا وجيبوتي العمل على اقتراح حلول للنزاع السوداني، ولكن لم يصل الوفد إلى الخرطوم بحجة أن الأجواء غير آمنة، مع أنه كانت هناك وسائل أخرى تمكن الوفد من الوصول إلى مدينة بورتسودان الساحلية جواً أو بحراً، ما يتم الآن هو تنشيط للتحرك البطيء من قبل "إيغاد"، ويهدف إلى تمديد الهدنة وإجراء محادثات سلام بين أطراف النزاع، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تعقد في جوبا، بعد اجتماع عقد بين رؤساء دول المنظمة خصص للبحث عن حلول للأزمة في السودان.
هناك أيضاً مقترح أميركي يدعو لإجراء مفاوضات مباشرة وغير مباشرة بين طرفي الصراع بإشراف فاعلين دوليين ويشترط الانسحاب العسكري من المناطق المأهولة بالسكان، فإذا دمجت هذه المبادرات يجب ألا تستثني المبادرة العربية بأي حال من الأحوال.
وهناك حديث عن مبادرات أخرى، شرق أوسطية وعربية، من السعودية والإمارات وتركيا وإسرائيل، ولكن في ما يبدو أن استعجال مبادرة "إيغاد" نسبة لتحرك جامعة الدول العربية التي وصفت بأنها "نأت عن الانخراط في الأزمة السودانية بجدية منذ سنوات لأسباب تتعلق بارتباكها السياسي أو عدم استعداد دوائر أفريقية لمشاركة عربية في الأزمة". بينما ظلت "إيغاد" حاضرة منذ أول تحرك رسمي مباشر لها بعد الإجراءات التي فرضها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، كما زارت بعثتها السودان في يناير (كانون الثاني) العام الماضي، والتقت عدداً من القوى السياسية المدنية والعسكرية.
رأب الصدع
إضافة إلى محاولات رأب الصدع بين طرفي النزاع هنالك أسباب أخرى تحرك هذه المبادرات خصوصاً مبادرة "إيغاد"، وهي تدهور الأوضاع الأمنية والإنسانية في الخرطوم والمدن التي تشهد اشتباكات بين قوات الطرفين وفي مقدمتها إقليم دارفور الذي تتغذى الصراعات الإثنية فيه على انعدام الأمن الحالي وانشغال القوات المسلحة بحربها مع الدعم السريع في الخرطوم، مما أحدث فجوة أمنية كبيرة. وأوردت الأمم المتحدة معلومات عن أعمال نهب مصاحبة للعنف القبلي في مدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور، حيث أسهمت الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع في تجددها مرة أخرى، مما ينبئ باحتمالات اتساع رقعتها. هنالك أيضاً المخاوف من تصاعد النزاع بعد اكتمال عمليات إجلاء الدول لدبلوماسييها ورعاياها، واحتمالات خروج النزاع عن السيطرة، وتمدده إلى دول مجاورة، مما يهدد الأمن والسلم في المنطقة، وهذا هو الواقع الذي تتحينه الجماعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية، فعند انهيار الدولة ستكون بيئة خصبة لتجارة السلاح، واتخاذها قاعدة تنفيذ الهجمات الإرهابية داخلياً وخارجياً، كما ستكون المحطة الرئيسة لممارسة نشاط الهجرة غير الشرعية، مستفيدة من موقع السودان في منطقة وسطى بين القرن الأفريقي ودول غرب أفريقيا والشرق الأوسط وصولاً إلى المنافذ البرية والبحرية نحو أوروبا.
وتتباين المواقف بين تيار يشدد على مقدرة "إيغاد" على نزع فتيل الحرب، باعتبارها شريكاً أفريقياً، ظلت تعمل مع الاتحاد الأفريقي لإكمال عملية الانتقال الديمقراطي، بينما يشكك آخرون في نجاحها إذ يرون أن طبيعة المنظمة التنموي لا يتوافق مع مسار الحرب السريعة في الخرطوم، فـ"إيغاد" التي يرأس السودان دورتها الحالية، تأسست في عام 1996 بديلة عن "السلطة الحكومية الدولية للإنماء والتصحر" التي أنشئت عام 1986، واتفق على تعديل ميثاق المنظمة وتغيير اسمها إلى "الهيئة الحكومية للتنمية". يشكك كثيرون في نجاح مبادرتها نظراً لعوامل عدة أهمها طبيعة المنظمة.
واجهة الأحداث
تزامناً مع مبادرة "إيغاد"، طرحت أحزاب سياسية وقوى مدنية ونقابات عمالية، تشكيل "الجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية"، أبرز هذه القوى "قوى إعلان الحرية والتغيير - المجلس المركزي"، و"تجمع المهنيين السودانيين" و"لجان المقاومة"، و"حركة وجيش تحرير السودان" جناح عبد الواحد محمد نور، مقابل هذه الجبهة تشكلت أخرى مكونة من الحركات المسلحة "حركة تحرير السودان" - جناح مني أركو مناوي، و"حركة العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم، و"الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال" بقيادة مالك عقار.
أما لماذا أطلت هذه القوى السياسية والمدنية، والحركات المسلحة برأسها الآن بعد مضي ما يقارب الأسبوعين من بدء الحرب؟ أولاً، لأنها أيقنت أن هنالك مبادرات جادة مطروحة، وتريد أن تلعب دوراً وإن كان ثانوياً يحفظ لها حقها بالوجود في واجهة الأحداث. ثانياً، أن الخلاف بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، المستفيد الأكبر منه هو الحركات المسلحة، فالثأر التاريخي بينها وبين الدعم منذ مواجهته لها في حرب دارفور، واستخدام الرئيس السابق عمر البشير قوات الدعم السريع لمحاربة هذه الحركات، ثم مزاحمة حميدتي لقادة هذه الحركات حول المخصصات والامتيازات والمناصب بعد الثورة، ترك أثراً غائراً في نفوسها. ثم هناك الإحساس بأن أي مبادرة تنهي النزاع أو تعيد حميدتي إلى لعب دور أكبر منها لن يكون مسموحاً به في عرفها القائم على إزاحة الخصوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثاً، بحسب البيان قالت القوى والحركات إنها تهدف إلى تحقيق "العمل على إيقاف الحرب فوراً، والسعي لتوفير الاحتياجات الإنسانية والصحية والخدمية للمواطنين". يعني ذلك أنها تستعد لدور الوصاية الإنسانية على الضحايا، مثلما حصل بعد أحداث الاعتصام في القيادة العامة للقوات المسلحة، أغلب الضحايا كانوا مواطنين وثواراً عاديين، بينما الوصاية على توزيع الامتيازات أشرفت عليها القوى السياسية، ويتكرر ذلك الآن، فبعد انقشاع الأزمة ستتنزل المنظمات الدولية بإعاناتها ومساعداتها خصوصاً أن وكالات الإغاثة تطالب بتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للاجئين، ولمقابلة احتياجات سكان الخرطوم الذين تعرضوا للقصف، وآلاف النازحين منهم إلى المدن بسبب انعدام الأمن ونقص المياه والغذاء والإمدادات الحيوية الأخرى وانهيار النظام الصحي وانعدام الدواء.
حلول مؤقتة
لا يبدو أن من مصلحة السودان حصر المبادرات داخل "البيت الأفريقي" وحده، لأن فشل الاتحاد الأفريقي و"إيغاد" في حل النزاعات الأفريقية الأخرى كفيل بأن يعاد النظر في إيلاء الأمر لهما وحدهما، فقد أثبتت رعاية المنظمتين لاتفاقيات السلام العديدة في القارة وفي السودان أنهما تلجآن دوماً للحلول اليسيرة والمؤقتة، ولا تلبث إلا أن تتعقد الأمور بعدها، وبين أيدينا اتفاقيات عدة لحل أزمة دارفور وهي برعاية أفريقية طوال العقدين الماضيين، وكذلك اتفاقية السلام (نيفاشا) 2005 التي مهدت لانفصال جنوب السودان عام 2011، كانت أيضاً برعاية أفريقية - أميركية، ولم تضع الضمانات الكاملة لكلا الدولتين وتركت عدداً من القضايا العالقة من دون حل على رغم مرور 12 عاماً على الانفصال، بعد ذلك اشتعلت الحرب الأهلية في دولة جنوب السودان منذ عام 2013، ولم تطفئها اتفاقية السلام الموقعة في عام 2018، ثم اندلع النزاع السوداني الحالي. وعموماً، هناك تحفظ يلوح في الأفق حول احتمالية انحياز "إيغاد" لطرف دون الآخر.
ربما لا يأتي انتقاد دور "إيغاد" صراحة، ولكن التلميح إلى أن هنالك مبادرات أفضل منها يجعل من التريث ضرورة بعدم أخذ كل ما تأتي به وكأنه آخر الحلول، كما يستوجب النظر للمبادرة السعودية التي وصفتها قوى سياسية بأنها أكثر اكتمالاً من مبادرة إيغاد، لأنها "تشمل القوى السياسية كافة ولا تقتصر على الجنرالين". إضافة إلى حضور المملكة بشكل فردي وضمن الآلية الرباعية مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودولة الإمارات. وعلى رغم لعب الاتحاد الأفريقي و"إيغاد"، دوراً في الأزمة السودانية منذ سقوط الرئيس السابق عمر البشير، إلا أنه من الواضح محاولاتهما تهميش دور الدول العربية سواء كان فردياً أو ضمن مجموعة، خصوصاً تلك التي تتأثر بأزمات السودان، كما تتأثر مباشرة بالنزاع الحالي.
استمرار الخرق
على رغم الخرق المستمر للهدن السابقة، إلا أن النزوح الداخلي لم يتوقف، ولجوء عشرات الآلاف من الخرطوم والمدن الأخرى المتأثرة بالاشتباكات إلى دول الجوار براً نحو مصر وتشاد وليبيا وجنوب السودان الذي يعاني أيضاً حرباً أهلية، كما استطاعت دول عدة إجلاء مواطنيها عبر ميناء بورتسودان، بينما لعبت السعودية الدور الأبرز في عمليات الإجلاء لمواطنيها ورعايا الدول الأخرى.
وعلى رغم استجابة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لمطالبة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بتمديد الهدنة لمدة 72 ساعة إضافية قبل انتهاء الهدنة السابقة بوقت قصير، إلا أنها خرقت أيضاً وسمع دوي القصف في الخرطوم وأم درمان، كما وقعت اشتباكات بين قوات الجيش والدعم السريع في مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور لتنضم إلى بقية ولايات دارفور الخمس التي تدور فيها اشتباكات منذ بدء الحرب في الخرطوم بوقود إثني. وعليه يتوقع مزيد من تدهور الوضع في أي لحظة، خصوصاً أن الطرفين خرقا الهدنة السابقة التي جاءت بوساطة السعودية والولايات المتحدة، وهذه الأخيرة الهشة أيضاً، ما من شأنه إعاقة إيصال المساعدات الإنسانية إلى السودان وإطالة أمد الصراع، وربما وأد مبادرة "إيغاد" في مهدها إن لم يتم إنقاذها.
فرص مهدرة
لم يكن أمام طرفي النزاع سوى خيارين، إما حسم الصراع عسكرياً، وهو خيار مكلف للغاية إنسانياً وسياسياً وعسكرياً، والتمسك به أدى إلى محاولة استبعاد قادة النزاع واستبدالهما بممثلين عنهما، أما الخيار الثاني، الموافقة على الجلوس إلى طاولة التفاوض، وقد وافقا عليه بعد إهدار كثير من الفرص وعدم المحافظة على وضع ميداني من دون خسائر فادحة، مع مواصلة خرق الهدن.
ثم بعد هذه الموافقة، تتطلب الخطوة التالية حمل طرفي النزاع على احترام وقف إطلاق النار بوضع ضمانات جدية المفاوضات للالتزام بها، ثم يأتي نقاش أساسيات الأزمة، فإنه نسبة لتضارب أجندة الطرفين، فمطلب الجيش سيتركز حول الإصرار على دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة خلال عامين فقط، بينما سيصر الدعم السريع على مدة زمنية أطول هي عشر سنوات، يتوقع أن تُقترح من قبل "إيغاد" مدة زمنية ترضي الطرفين كحل وسط، لا يملكان إزاءها غير الموافقة، ومقابل ذلك، ربما يشترط الجيش الذي صرح قادته بأنهم ليسوا على خلاف مع قوات الدعم السريع، وإنما الخلاف الأساسي مع حميدتي وأخيه، الذي يملك كثيراً من زمام أمور قواته، بتوفير خروج آمن لحميدتي وبقية قادة الدعم، بينما يشترط الدعم السريع الحصول على امتيازات أخرى تميزه عن الدمج أسوة بالحركات المسلحة الأخرى.
يؤدي استمرار القصف إلى إضفاء الغموض على مبادرة "إيغاد" ومدى نجاحها، بالتالي ستزداد شروط كل طرف، وترتفع وتيرة الاتهامات والتظلم، مما يضيق مساحة التفاوض ويزيد وتيرة الانقسام السياسي الذي تحول من خلافات المكون العسكري مقابل المدني، إلى خلافات داخل كل مكون، مما يؤدي إلى مزيد من الانشقاقات.