ملخص
هل تحين عودة البشر للعيش تحت الأرض في وقت قريب تحت تأثير جائحة كبيرة يتسببون بها أو تتسبب بها الطبيعة في دوراتها المناخية المتتالية؟
هناك عشرات النظريات العلمية والخيالية والأفلام والروايات التي تناولت مستقبل الإنسان في العيش تحت سطح الأرض، وكان مصدر هذه الأفكار دراسات تاريخية كثيرة أثبتت أن الإنسان عاش لفترات تحت سطح الأرض ليحتمي من التغيرات المناخية الكبيرة التي طاولت الكوكب الأزرق، وهو ما أسهم في بقاء نوعه ومنع انقراضه.
خيال علمي وواقع
في أفلام وروايات الخيال العلمي ينتهي الأمر بالبشرية تحت الأرض في منازل من القباب الضخمة بعد أن بات العيش تحت السماء المكشوفة مستحيلاً، إما بسبب دمار هائل أحدثته حرب نووية، أو بسبب تغير مناخي مفاجئ طاول الكوكب بأكمله، أو هرباً من جوائح منتظرة كسقوط النيازك وغيرها من المخاطر التي تجعل سطح الأرض مكاناً غير آمن للعيش.
وفي حال الهجمات النووية غالباً ما تدوم الحرب بضع ساعات فقط، لكن الشتاء النووي الذي يليها يقضي على الغالبية العظمى من الجنس البشري، كما تخيل الروائيون والسينمائيون خلال القرن الـ20 بعد أن صار القلق من حرب نووية الشغل الشاغل للبشر في مراحل مختلفة، ليتجدد بعيد الحرب الروسية - الأوكرانية المستمرة اليوم.
الروائي الأميركي الرائد جول فيرن كتب في بدايات القرن الـ20 روايته الشهيرة التي تصف عوالم جوف الأرض، حيث الشعوب المختلفة والمدن الضخمة والقارات الممتدة، وقد أثارت هذه الرواية الخيالية النشاط في مخيلات كتاب كثيرين توسعوا في مثل هذا الأدب التخييلي الذي يتشابه تماماً مع روايات الانتقال للعيش في كواكب أخرى بالطريقة التي قد نحيا بها في كوكبنا تقريباً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن التوقعات بانتقال الجنس البشري للعيش تحت سطح الأرض لم تعد مجرد خيال، فالحياة على الكرة الأرضية تتعرض لمخاطر كثيرة حالياً، وبدأ المعنيون من العلماء في علوم منفصلة ومتشابكة بالبحث عن حلول شبيهة بتلك التي اقترحها الخيال العلمي.
عالم الفيزياء الفلكية الشهير ستيفن هوكينغ، أوصى قبل وفاته بالاستعداد خلال 100 سنة مقبلة للانتقال إلى كواكب أخرى، أو للعيش تحت سطح الأرض عند ارتفاع مستوى سطح البحر وتلوث الهواء وارتفاع درجات الحرارة، لكن لو أخذ قادة العالم وأثرياؤه مقولات ستيفن هوكينغ على محمل الجد فإن أسئلة كثيرة يمكننا طرحها مثل: هل سنضطر إلى أن نبني بدلاً من ناطحات السحاب ناطحات في جوف الأرض؟ وهل الحياة ممكنة هناك؟ وهل نستطيع أن نتحمل نفسياً وبيولوجيا العيش في مكان مغلق وبعيد من نور الشمس؟ وهل يمكن للتكنولوجيا أن تعوض حرارة وضوء الشمس وهي النجم الذي يعرف كل إنسان منذ طفولته ومنذ حقبات التاريخ القديمة أنها مصدر الحرارة والطاقة الهائلة التي تمنح الحياة لكوكبنا؟
قديماً عاش البشر تحت الأرض موقتاً في الأماكن ذات المناخ القاسي، وكذلك للاختباء من الأعداء، وترك أسلافنا وراءهم في الكهوف بصمات أيديهم وصور مشاهد الصيد ورسوم الحيوانات التي تعيش فوق الأرض. ولا يزال بعض الناس يعيشون حتى اليوم تحت الأرض. ففي تونس مثلاً، وتحديداً في منطقة مطماطة في جنوب البلاد، يعيش بعض البربر في كهوف تحت الأرض ويطلق عليهم اسم "تروغلو دايت" باللغة البربرية المحلية، أي سكان الكهوف. وهذه الكهوف هي منازل مبنية داخل الأرض يتوسطها فناء دائري مركزي مفتوح على السماء، واشتهرت هذه المنطقة عالمياً منذ عام 1977 بعد تمثيل مشاهد من فيلم "حرب النجوم" فيها.
كما بنى القدماء مدن كابادوكيا الشهيرة تحت الأرض في تركيا، وتم اكتشاف مزيد من المدن تحت أرضية هناك، ويقدر العلماء أنها كانت تتسع لما يزيد على 200 ألف شخص، وقد بدأ علماء الآثار التاريخ بإعادة تحديد تاريخ بناء هذه المدن بعدما تبين أن إعادة بنائها إلى ما بعد الميلاد ليس صحيحاً بعد أن كان الاتفاق السابق يقوم على افتراض أن بناة هذه المدن من المسيحيين الذين فروا من الاضطهاد بعد تواتر الفتوحات القادمة من الشرق، فقد أكد باحثون أن المسيحيين سكنوا في هذه المدن وتركوا أثراً لهم فيها، لكن هذا لا يؤكد أنهم بنوها، بل بات من المرجح أنهم أعادوا استخدامها لا أكثر، وقد كانت محفورة ومبنية قبلهم بكثير.
وأثار إعجاب العلماء والباحثون في منطقة كابادوكيا الهندسة المتطور في أنظمة التهوية وتوصيل المياه والتواصل بين هذه المدن التي يتم الكشف عن مزيد منها في تركيا وغيرها من مناطق العالم في أميركا الجنوبية وفي أفريقيا شمال الصحراء، وتحديداً في الصحراء المغربية والجزائرية والموريتانية والتشادية.
مستقبل النفق المضاء
بدأت مشاريع بناء مستعمرات التحت – أرضية صغيرة بالفعل في سنغافورة مع بداية الألفية الثالثة، وقد تم وضع خطط لبناء مدينة ذات أعمدة ممتدة من أسفل السطح إلى أعلاه وتسحب ضوء النهار إلى الأعماق. وكانت مدينة نيويورك وضعت منذ سنوات خطة لإنشاء متنزه تحت الأرض يضاء من خلال واحات مضاءة جيداً من أشجار النخيل وسراب السماء. أما المدن والقرى التحت - أرضية التي بناها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة ومعظم الدول الاسكندنافية، وقبلهم جميعاً ألمانيا النازية، فما زالت موجودة حتى اليوم ومعظمها صالح للاستعمال، وهذه المدن المحصنة ضد كل أنواع الأسلحة، وعلى رأسها الأسلحة النووية والبيولوجية، راج بناؤها منذ خمسينيات القرن الـ20 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتتسع لأكبر عدد من المواطنين، مع تأمين الغذاء والماء والمواد الضرورية لهم لأشهر عدة في حال وقوع جائحة طبيعية أو من صنع الإنسان.
والحال أن كثيراً من المدن الحالية اليوم تنمو نزولاً في الأرض مثل لندن ومكسيكو، بعد أن اتضحت محدودية التمدد أفقياً وعمودياً فوق الأرض. وتحافظ مدن كثيرة في شمالي الكرة الأرضية على أنفاق تحت الأرض، بعضها متقن للغاية بحيث يطلق عليها "مدن الظل"، من أجل التعامـل مع فصول الشتاء القاسية.
وفي مدينة بكين في الصين، يعيش نحو مليون شخص في الملاجئ التي حفرت تحت شرايين المدن الحضرية للحماية من الأسلحة النووية، لكن هناك مشكلة تتعلق بالنوم من دون أضواء، كما جاء في بعض الاختبارات التي جرت سابقاً وبينت أنه من دون أضواء فإن سكان الكهوف ينامون لفترة قد تطول حتى 48 ساعة متواصلة. وفي هذه الحالة، توصل العلم إلى حل بسيط يكمن في استخدام أضواء اصطناعية خاصة تنظم إيقاع الساعة البيولوجية للإنسان، وتجعله ينام كما لو كان فوق الأرض.
أما الأكثر تفاؤلاً حول المستقبل النفقي لسكان الأرض فيقولون إننا منذ بنينا محطات المترو والقطار تحت الأرض بدأنا بالاعتياد على العيش هناك، قبل أن تتضمن المباني العملاقة فوق الأرض مباني أكبر تحتها كأساسات متينة في البداية قبل استغلالها كأسواق تجارية ضخمة في المدن الكندية الباردة، وفي نيويورك وموسكو ولندن وباريس، حيث يمكن للشخص أن يبدأ رحلته من منزله عبر المترو في حرارة دافئة ليقوم بأعماله وتسوقه ويعود إلى منزله من دون الحاجة إلى الصعود إلى سطح الأرض.
وقد بينت التجربة أن درجات الحرارة تحت الأرض أكثر استقراراً، فعلى عمق متر واحد تحت الأرض تقل الحرارة نحو خمس درجات مئوية فقط، لكن عند عمق خمسة أمتار تكون أقل من درجة واحدة. علاوة على ذلك فإن درجات الحرارة داخل الكهوف تتراوح دائماً بين 17 و23 درجة مئوية، وهي قريبة جداً من نقطة الراحة الحرارية للجسـم البشري، على عكس الحرارة فوق الأرض حيث تختلف بشكل كبير بسبب دوران الأرض وتأثير ضوء الشمس. وهذا يؤثر في مستويات الرطوبة، حيث إن نسبتها داخل الكهف تبلغ نحو في 50 في المئة، ويعد هذا صحياً أكثر من مكيف الهواء اليوم، الذي يميل إلى جعل الهواء جافاً، كما كتب الباحث اللبناني أمين نجيب.
في عام 2019 نشرت مجلة "ساينتيفيك أميريكان" أن المرصد الدولي للكربون العميق أعلن أن كتلة الميكروبات التي تعيش تحت سطح الأرض يتراوح وزنها بين 15 و23 مليار طن من الكربون، وهي كمية تزيد بمقدار يتراوح بين 245 و385 مرة على كتلة الكربون لكل البشر. وكان هذا الاكتشاف بمثابة صدمة في علوم البيولوجيا والجيولوجيا في حينه، وكتب محرر المجلة العلمية المرموقة معلقاً "لم تفاجئنا الأرقام فحسب، بل وغيرت نظرتنا كلياً إلى أعماق الأرض، إذ لم نكن متأكدين حتى من أن الحياة في العمق ممكنة".
فهل تحين عودة البشر للعيش تحت الأرض في وقت قريب تحت تأثير جائحة كبيرة يتسببون بها، أو تتسبب بها الطبيعة بسبب دوراتها المناخية المتتالية؟