ملخص
تعيش الكويت حالاً من الانكفاء والانطواء السياسي انعكاساً لأزماتها السياسية الداخلية
"شصاير عندكم"؟ سؤال يتكرر على ألسنة المحبين وحتى غير المحبين للحالة السياسية الكويتية، "وين كنتوا ووين صرتوا"؟ من الأسئلة التي تطرح من دون انتظار إجابة، لأنها تعبير عن الحسرة عما وصلت إليه الحالة السياسية الكويتية من انسداد وتراجع واحتقان وجمود. فالكويت التي كانت رائدة وفعالة ليس على مستويات منجزاتها الداخلية فحسب، بل وحتى على الصعيد الدبلوماسي الخارجي المشهود، تعيش حالاً من الانكفاء والانطواء السياسي انعكاساً لأزماتها السياسية الداخلية.
فما الذي يجري في الكويت؟ وقبل محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، علينا أن نستعرض بعجالة ما جرى على مدى السنوات الماضية من أزمات برلمانية - حكومية أدت إلى حل مجلس الأمة مرات عدة، وحل المجلس الأخير المنتخب عام 2020 مرتين، في حال غريبة غير مسبوقة في تاريخ البرلمانات الكويتية، فقد صدر مرسوم بحل مجلس الأمة 2020 يوم الثاني من أغسطس (آب) الماضي، والدعوة إلى انتخابات جرت في الشهر الذي تلاه، سبتمبر (أيلول) 2022، فاعترض على نتائج الانتخابات بعض من لم ينجحوا فيها أمام المحكمة الدستورية التي ألغت نتائج الانتخابات، بل ألغت البرلمان الذي انتخب في ديسمبر (كانون الأول)، ودعت إلى عودة البرلمان المنحل على اعتبار أن مرسوم حله لم يكن دستورياً. وهو الأمر الذي أحدث حالاً من البلبلة والفوضى في دهاليز البرلمان والحكومة معاً، فانقلبت معارضة الأمس إلى موالاة اليوم، وراح موالو الأمس يتفننون اليوم في المعارضة، فمرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة المنحل مرتين بمرسومين يعلن أن رئيس الوزراء الشيخ أحمد النواف يحول بينه وبين لقاء الأمير الشيخ نواف الأحمد، وبأنه "خطر على الكويت"، في مؤشر واضح على مدى تدهور العلاقة بين رئيسي السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومدى استحالة التعاون المستقبلي بين الرجلين إن عادا لرئاسة الحكومة والبرلمان المقبلين.
فقام الأمير بإصدار مرسوم الإثنين الماضي يأمر فيه بحل مجلس الأمة، وتبعه مرسوم آخر يحدد تاريخاً للانتخابات يوم السادس من يونيو (حزيران) المقبل. وسيتجه المواطنون الكويتيون إلى انتخاب المجلس الـ11 في 20 سنة، فقد انتخبوا منذ عام 2003 عشرة مجالس، أي بمعدل انتخابات بأقل من سنتين تقريباً، وبلغ عدد الحكومات منذ صدور الدستور عام 1962 أي قبل 60 عاماً تقريباً 42 حكومة بمعدل حكومة كل أقل من ثلاث سنوات، وهو مؤشر كبير وواضح على غياب الاستقرار التشريعي والحكومي في آن واحد، وفي وقت تتراجع فيه البلاد على كل المستويات، ويزداد الفساد المالي والإداري والمحسوبية والواسطة وكسر القانون، كما تراجعت الحريات بشكل مخيف، وسيطرت الجماعات الدينية السياسية على مرافق التعليم والإعلام والمنابر الدينية والوعظية، ووصل حد التغلغل المتشدد إلى أن كرمت إحدى مدارس الابتدائية التلميذات اللاتي يلبسن الحجاب الأسبوع الماضي، وعلى رغم "تفاهة" الحدث في عيون بعضهم، فإنه مؤشر على غياب رؤية الدولة، بل وغياب الدولة تماماً عن منهج تنشئة أجيالها، ودليل على انقطاع المشهد الكويتي حتى عن المحيط القريب الذي يتظاهر فيه ملايين الإيرانيين احتجاجاً على فرض الحجاب.
ولعل الخطر الأكبر على الأمن القومي الكويتي هو الانطوائية الدبلوماسية التي تعيشها الكويت بسبب الصراعات الداخلية من جهة، وبسبب العمل الدؤوب للقوى الدينية السياسية لعزلها عن محيطها الخليجي الذي يعيش حالاً من الانفتاح والحريات الاجتماعية غير مسبوقة مصحوبة بازدهار اقتصادي في معظم دول الخليج.
إن الحالة الكويتية لن تخرج من دوامة الجمود والفساد والتراجع هذه إلا بشروط، أراها كمواطن كويتي كالتالي:
- انتصار مشروع الدولة على مشروع السلطة، وبذلك أقصد أن الكويت التي كانت رائدة في الستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، كانت كويتاً تحمل رؤية يسهم في تحقيقها الجميع، أما كويت السلطة فهي كويت حكومات مرتبطة بمراكز القوى وبمصالحها ومفاسدها، بالتالي فهي تعمل على إبعاد هذا وإسكات ذاك، وإفشال هذا وإنجاح ذاك، وإعطاء هذا وحرمان ذاك، وشراء هذا وبيع ذاك، وتعمل على تقريب من يحقق مصالحها على حساب مصلحة الوطن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل هذا يشرح للمراقب الانقلابات السريعة والمتكررة لمن كان معارضة إلى موالاة، ومن كان موالاة إلى معارضة، انقلابات تحدث بين ليلة وضحاها، لأنها انقلابات المصالح ولا علاقة لها ببناء الدولة - الرؤية. ودولة الرؤية تحتاج إلى طبقة سياسية جديدة تستبدل الطبقة السياسية الحالية التي تورمت بالمناقصات، وتلوثت جميعها تقريباً بالفساد وبالصراعات الشخصية والمصلحية، وليس بالصراعات البرامجية التي تعج بها الديمقراطيات في الدول الديمقراطية الحقة.
- الخروج من دوامة الدستور الحالي وتعديله: كان واضعو الدستور الكويتي يأملون بأن يعدل الدستور الحالي بعد خمس سنوات من صدوره لمزيد من الحريات، لكن ذلك لم يحدث، وفي ظل هيمنة القوى الدينية السياسية المتشددة وقوى القبلية السياسية وقوى المنفعة الفئوية الاحتكارية اليوم، فلن يتعدل الدستور لمزيد من الحريات لو فتح باب تعديله.
من الغريب بالحالة الكويتية أن البرلمانات تسعى إلى تحقيق مزيد من الحريات وتثبيت حقوق المواطن، لكن الذي جرى ويجري عكس ذلك تماماً في الحالة الكويتية، فقد شاركت قوى الدين السياسي والقبلي والفئوي بالعملية الديمقراطية وهي لا تؤمن بالحريات ولا بالديمقراطية، لكنهم رأوا فيها مطية لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم ومكاسبهم الشخصية والحزبية والقبلية والفئوية، فكان أن تراجعت الحريات ووضعوا تشريعات تحد من حرية التعبير، وتعاقب بقسوة أصحاب الرأي بحجة حماية الدين والأخلاق والثوابت ومحاربة "الظواهر السلبية"، ونتيجة ذلك زج الشباب بالسجون بسبب آرائهم، وهاجر منهم من هاجر، ولجأ منهم من لجأ للخارج هرباً من بطش دولة دستورية يفترض أنها تحمي حقوقهم وحرياتهم، بل رافق ذلك حال من الهجرة الاقتصادية للشباب الكويتي الطموح الذي لا يستطيع أن يتعايش مع الدورة المستندية والتخلف البيروقراطي والفساد المالي والرشاوى. إن الاستمرار بتجريب المجرب وتكرار نفس التجربة بنفس المكونات سيخرج لنا النتائج نفسها، وهو ما تشهده الحالة الكويتية بتكرار شل البلاد وتعطيل مصالح العباد.
لن تخرج الحالة الكويتية من دوامة الجمود والتراجع على كل الأصعدة باستخدام نفس الآليات الدستورية الحالية للحكم والحكومة، ولن تخرج الحكومات من تأثير قوى الدين السياسي وقوى القبلية والفئوية إلا بقيادات جديدة غير مرتبطة بمصالح اقتصادية ولا مصلحة لها لا بالتحالف مع هذا الطرف أو ذاك، شريطة أن تكون لهذه القيادات رؤية للدولة الكويتية المقبلة، وأن تحرص على تحقيق رؤية الدولة وليس ضمان السلطة وحسب.