Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تطور سيناريو الحرب في السودان؟

بإمكان كل مراقب اليوم أن يعزو بوضوح أسباب معارك الخرطوم إلى خلاف الطرفين العسكريين حول الاتفاق الإطاري

صيرورة هذه الحرب وتناقضاتها أكبر بكثير من طبيعة المعالجات الدبلوماسية الجارية من طرف المجتمع الإقليمي والدولي (أ ف ب)

ملخص

ليس هناك تفسير منطقي يجعلنا نعزو أسباب الخلاف في هذه الحرب إلى خارج هذا السبب الوحيد، فما هو؟

منذ أن اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الـ  15 من أبريل (نيسان) الماضي، كان واضحاً أن ثمة أمرين يتصلان بطبيعتها، الأول أنها حرب كانت متوقعة لأسباب تكمن في بنية التخريب الذي أصاب جهاز الدولة العام على يد نظام "المؤتمر الوطني" (الإخوان المسلمون) منذ 30 عاماً، والثاني أنها حرب متى اندلعت فإن إمكان وقفها على المدى القريب ستكون أشبه بالمهمة المستحيلة، ذلك أن المحصلة النهائية لهذه الحرب، وإن أمكن اليوم تفسير سبب الخلاف فيها إلى موقف أحد طرفيها العسكريين من الاتفاق الإطاري ومعارضة الآخر له، تعود لجذور بعيدة لا يمكن عزل مسبباتها الجوهرية عن أثر أطوار سياسات سلطة مركزية طبع أسلوبها بسيطرة مكون مناطقي محدد، ترتبت على ممارساته إدارة مأزومة لبلد متنوع مثل السودان، وكان لا بد من أن تنعكس أزماته في إدارة السلطة على شكل حروب تعبيراً عن التناقضات.

الخروج عن السيطرة

ولهذا ففي تقديرنا أن صيرورة هذه الحرب وتناقضاتها أكبر بكثير من طبيعة المعالجات الدبلوماسية الجارية من طرف المجتمع الإقليمي والدولي بخصوص رأب الصدع بين طرفيها، سواء كانت عبر المبادرة الأميركية السعودية أم عبر مبادرة "إيغاد".

وبكل تأكيد فإنه متى ما أمكن إنهاء هذه الحرب، ولو بعد حين طال أم قصر، فإن الواقع الغامض للسودان سيكون مختلفاً عن واقع ما بعد يوم الـ 15 من أبريل 2023.

لهذا نخشى القول إن أطوار هذه الحرب قد خرجت باندلاعها في الخرطوم عن منطق السيطرة والتحكم فيها، بدخولها إلى منطق الحرب ذاتها، أي تلك الصيرورة التي تجعل من الحرب، متى ما انطلقت على هذا النحو، مستقلة عن أي منطق للتحكم بها سوى منطقها الداخلي بحكم ديناميتها وشروطها الذاتية، لا سيما أن المكونات الأهلية والقبلية في السودان هي اليوم من الهشاشة بمكان سيكون أكثر قابلية للانخراط في صيرورة الحرب التي كلما امتد بها الزمن تحولت من عنف سياسي إلى حرب أهلية، ومتى ما أصبحت كذلك فإن اكتمال منطق الحرب سيستعصي على كل الحلول في المديين القريب والوسيط.

ذلك أن الطبيعة التي تنطوي عليها تفاعلات الشعب السوداني حيال التعايش الغريب مع واقع مأزوم ظل يطرد ويزداد تعقيداً كلما طال به الزمان، هي طبيعة تدل كل المعطيات والمؤشرات على أنها ستحيل إلى واقع كواقع يوم الـ 15 من أبريل 2023 لا محالة.

وسيستمر فصل الحرب الجديد في التعبير عن تعقيداتها منذ أن تم التسريع بها عبر الممارسات الأمنية الخبيثة لسلطة العسكر، سواء من خلال جهاز أمن نظام البشير الذي تولى تدبير مخططات الثورة المضادة منذ سقوطه في الـ 11 من أبريل 2019، أو في استمرار مخططات المكون العسكري منذ القيام بجريمة فض اعتصام القيادة العامة ضد الثوار في الثالث من يونيو (حزيران) 2019 من أجل البقاء في السلطة، تقليداً لسيناريو معروف في المنطقة، أو بعمليات شد الأطراف وإيقاظ الفتن بين المكونات الأهلية في شرق السودان ودارفور وكردفان والنيل الأزرق طوال السنوات الثلاث الماضية، أو عبر إطلاق عصابات الفوضى برعاية جهاز الأمن العتيد، وغير ذلك من الأساليب التي ستصبح اليوم في ظل هذه الحرب جزءاً مهماً من ديناميتها الخبيثة.

في مواجهة الثورة

ما ستكشف عنه الوجوه الخبيثة لهذه الحرب وأطوارها المعقدة، ككل حرب، على رغم أن أسبابها الظاهرة والمتصلة بمواقيت دمج الدعم السريع في الجيش وفق ترتيبات الاتفاق الإطاري لا تبررها مطلقاً، يكمن في أسباب أخرى تتصل بما أسلفنا قوله في بداية هذه المقالة من أن هذه الحرب كانت متوقعة، لأن كل سياقات تدابير العسكر في مواجهة الثورة منذ ما بعد سقوط الجنرال عمر البشير في الـ 11 من أبريل 2019، كانت تقول بذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد ظل مكر المكون العسكري بالثورة أحد السيناريوهات الواضحة لكل مراقب لسياق الأحداث منذ عام 2019، إذ كانت السنوات الثلاث لحكومة الثورة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك تعج بالاضطرابات والفتن التي كان يصنعها المكون العسكري في كل من شرق السودان وغربه والنيل الأزرق، في ما سمي بعمليات "شد الأطراف" من أجل تيئيس الشعب من حكومة الثورة بحثاً عن تفويض منه للحكم بمعادلة الأمن في مقابل الاستقرار، والتي رفضها الشعب بوضوح لمرة أخيرة حين تظاهر بمئات الآلاف في الـ 21 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 رفضاً لإقالة حكومة حمدوك التي أراد المكون العسكري إقالتها، بعد أن قام ذلك المكون باستمالة جزء من تحالف الحرية والتغيير (الحركات المسلحة وبعض الأحزاب الصغيرة)، مما أدى في النهاية إلى الانقلاب الصريح على المرحلة الانتقالية في الـ 25 من أكتوبر 2021 بقيادة البرهان.

قيادة الثورة المضادة

كل هذه السياقات في استهداف إعاقة الثورة كشفت لنا بوضوح عن إرادة عليا للثورة المضادة في أعلى هرم سلطة المكون العسكري، لكن الشعب السوداني ظل يمتلك أدواته المجربة والفعالة في مواجهتها بالتظاهرات التي لم تتوقف منذ يوم الانقلاب في الـ 25 من أكتوبر 2021 وطوال عامي 2022 و2023.

فحين كشف المكون العسكري عن وجهه الحقيقي ضد الثورة في انقلاب أكتوبر كان يدرك تماماً أن في إمكانه إيداع قادة الأحزاب المدنية ووزراء الحكومة الانتقالية بمن فيهم عبدالله حمدوك في السجن، وهو ما فعله، لكن ما تفاجأ به هو تواصل التظاهرات المستمرة طوال الأعوام 2021 و2022 و2023 التي سقط فيها أكثر من 120 قتيلاً وآلاف الجرحى من خيرة أبناء الشعب السوداني.

وهكذا فحين أدرك المكون العسكري استحالة حكم الشعب السوداني بالقوة، وبعد أن جرب ذلك لأكثر من سنة بعد الانقلاب وعجز فيها عن تعيين رئيس للوزراء وعن حكومة يرضى عنها الشعب والمجتمع الدولي الذي أوقف كل تعاون مع السلطة الانقلابية، اضطر المكون العسكري إلى التوقيع على الاتفاق الإطاري يوم الخامس من ديسمبر 2022.

وكان واضحاً طوال السنوات الأربع الماضية دفاع قادة الجيش عن طبيعة العلاقة بين الجيش والدعم السريع وأنهما كيان واحد، وتم توثيق ذلك في كثير من التصريحات المتلفزة لقائد الجيش عبدالفتاح البرهان، بل كذلك كان واضحاً أن تمدد قوات الدعم السريع في جميع ولايات السودان وفي المواقع الإستراتيجية للعاصمة القومية ومرتكزاتها الأمنية الحساسة كان بأمر من الجيش وموافقته.

لكن ما هو ملاحظ أنه في يوم التوقيع على الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر 2022 اعتذر الجنرال حميدتي بوضوح للشعب السوداني على انقلاب أكتوبر، فيما صرح البرهان في اليوم ذاته لأكثر من قناة فضائية أخبارية بأن الانقلاب لم يكن خطأً بل كان تصحيحاً.

وخلال الأشهر الثلاثة التي تلت التوقيع على الاتفاق الإطاري ظل قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان يطلق تصريحات متضاربة في أكثر من مناسبة، تارة بالقول إن الجيش ماض في تنفيذ الاتفاق الإطاري، وأخرى يقول إن الجيش لن يسلم السلطة إلا إذا اتفقت جميع القوى السياسية على حل سياسي واحد، في تأويل يضمر رفضاً مبطناً للاتفاق الإطاري.

قصمت ظهر البعير

وهكذا فيما كان الاتفاق الإطاري بعد نجاح ورشاته الأربع، شرق السودان والعدالة والعدالة الانتقالية وتفكيك التمكين والسلام، يتجه نحو موعد الإعلان عن التوقيع على الاتفاق النهائي بحلول مطلع أبريل الماضي، والإعلان الدستوري يوم السادس من الشهر نفسه، وإعلان الحكومة في الـ 11 من أبريل، كانت الخلافات بين الجيش والدعم السريع في الجلسة الأخيرة من المرحلة الثالثة للورشة الخامسة، ورشة عملية الإصلاح الأمني والعسكري، حول مواقيت دمج الدعم السريع في الجيش وكذلك أيلولة قيادة الدعم السريع لرئيس الدولة أو رئيس الوزراء في الحكومة المدنية المرتقبة، وهي خلافات لا يبرر ظاهرها أبداً اندلاع الحرب بتلك الصورة العنيفة، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، مما يجعل في إمكان كل مراقب اليوم أن يعزو بوضوح أسباب هذه الحرب إلى الخلاف الذي دب بين الطرفين العسكريين حول موقفهما المختلف من الاتفاق الإطاري، مما سندرك معه أن طبيعة الخلاف بين العسكر ليست كطبيعة اختلاف المدنيين، كما نرى ما يحدث اليوم بينهما عبر هذه الحرب.

 وهكذا اندلعت الحرب في الـ 15 من أبريل الماضي بين طرفين سيبدو لنا جلياً اليوم أن أحدهما يقف مع الاتفاق الإطاري فيما يقف الآخر أو جزء متنفذ منه ضد هذا الاتفاق، وإلا فليس هناك تفسير منطقي يجعلنا نعزو أسباب الخلاف في هذه الحرب خارج هذا السبب الوحيد، إذا ما أدركنا أنه لا طبيعة وتاريخ العلاقة بين الدعم السريع والجيش، ولا ملابسات نشأة الأول، ولا سماح الجيش للدعم السريع بالانتشار في جميع ولايات السودان وبمشاركته حماية المواقع الإستراتيجية الحساسة، ولا ظاهر الخلاف بين الطرفين في مواقيت الدمج والإصلاح والتحديث في قضية الإصلاح الأمني والعسكري، بأية حال من الأحوال، تبرر اندلاع الحرب بينهما في الخرطوم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل