ملخص
عجوز سودانية تفتح بيتها للنازحين من حرب الخرطوم، وتروي تجربتها في رفض التهجير والتمسك بالأرض، والتعاضد والعيش ككتلة واحدة
لم يجد سكان الخرطوم أمامهم سوى الفرار من ويلات الحرب، قاصدين مدن الأقاليم البعيدة من الصراع، منهم من ولى وجهه نحو مدينة وادي حلفا (909 كيلو مترات شمال الخرطوم بالقرب مع الحدود مع مصر)، وفي الحي القديم وجد النازحون بيتاً مفتوحاً لاستقبالهم، فدخلوه على أمل المأوى، إلا أنه بمجرد أن خطت قدماهم عتبته غشيتهم الطمأنينة التي وجدوها من صاحبة البيت الحاجة نعمات جبل (75 سنة)، فافترشت لهم الأرض وداً، وتلحفوا الإنسانية دفئاً، وضربت لهم أروع الأمثلة في الكرم الأصيل والإيثار على النفس لأهل السودان، ونذرت لهم كل ما تملك خدمة وترحيباً عن رضا وطيب وخاطر.
أيقونة إنسانية
على رغم كثير من اللفتات الإنسانية التي وجدها النازحون في هذه المدينة الناشئة، إلا أن الحاجة نعمات ظلت الأكثر سطوعاً في عطائها وتفرد جهودها، بالنظر إلى كبر سنها وحالها الرقيق غير الميسور، حتى أصبحت أيقونة للعمل الإنساني الطوعي في وادي حلفا، فهي تصحو يومياً منذ الصباح الباكر، وتتسلل بهدوء حتى لا تزعج ضيوفها الذين يزدحم بهم البيت إلى فرنها الطيني التقليدي العتيق لتحضر لهم ولآخرين خارج بيتها من الفارين الخبز البلدي ذا الحجم الكبير الحجم لتقدمه للنازحين من الحرب المستعرة منذ ما يقارب شهراً.
ترملت الحاجة نعمات بوفاة زوجها منذ 1978 تاركاً لها أربعة أبناء صغار، كافحت طوال سنوات لتربيتهم حتى أصبحوا رجالاً، والآن يقدمون لها العون كل بقدر رزقه، ويدعمون عملها الإنساني الطوعي الذي جبلت عليه منذ الصغر.
تقول جبل لـ "اندبندنت عربية"، عند زيارتنا لها في بيتها الصغير المرتب بحي مربع واحد "بيوتنا ستظل مفتوحة، وسنكون دائماً على استعداد لاستقبال كل من يلجأ إلينا، نفتح قلوبنا وأبوب منازلنا لكل من يأتينا".
البادرة التي قدمتها الحاجة نعمات حفزت كثيراً من الأسر بالمدينة على التنافس لاستضافة النازحين، وتهيئة كل شيء داخل المنازل لاستيعاب القادمين الجدد.
قيامة الخرطوم
طول فترة إقامة عديد الأسر النازحة التي تكفلت الحاجة نعمات بإيوائهم واستضافتهم تسبب لها في معضلات مالية لكن لم تتضجر أو تفتر همتها، إذ ما زالت تستقبل ببشاشة واضحة فارين جدداً، مستعينة ببيت أسرتها الكبيرة وشقيقاتها وأقاربها بالحفاوة والبشاشة والابتسامة ذاتها التي لم تفارقها أبداً، وطوال حديثها معنا لم ينقطع دعاءها أن "يعود السلام للسودان، وتعود الأحوال إلى أفضل مما كانت عليه قبل هذه الحرب المشؤومة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتابع جبل "لم نكن ندرك أو نعلم أن الحرب بالخرطوم كانت بتلك البشاعة والعنف، اعتقدنا أنها مثلها مثل المشكلات البسيطة التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى وسرعان ما تنجلي كما في المرات السابقة، لكن تدفق الأعداد الكبيرة من الفارين، وبوصول الضيوف في منتصف الليل ومنهم أقارب وأصحاب منذ أسبوعين، أدركنا أن الأمر كبير هذه المرة، وعندما شاهدنا القنوات أدركنا أنها حرب حقيقية، وكأن قيامة الخرطوم قامت".
وتوضح العجوز السودانية، أنه على رغم مرور ما يقارب شهراً على الحرب إلا أنها ما زالت تأوي في بيتها مجموعات من النازحين الذين سافر بعضهم وحل محلهم آخرون، بل واضطر بعضهم إلى ترك أبنائهم أمانة عندها إلى حين حصولهم على موافقة لدخول مصر، مضيفة "ما زلت أودع بعضاً واستقبل آخرين".
تضيف جبل "منذ أن نشأنا في هذه الديار قبل الستينيات، كان مجتمعنا حانياً متضامناً مرحباً دائماً بالضيوف، وعلمتنا تجربة رفض التهجير كثيراً من الدروس في التعاضد والعيش ككتلة واحدة والتمسك بالأرض"، موضحة أنها "ظلت تصارع مطاردة أمواج البحر وتمدد مياه بحيرة السد العالي في تلك الأيام، وتعودنا أن تكون بيوتنا دئماً جاهزة لاستقبال الضيوف، وبخاصة قوافل تجار المواشي التي في طريقها إلى العبور إلى مصر، بل وكل من تقطعت به السبل، نستقبلهم أحياناً بعد منتصف الليل، وهم يطرقون أبواب بيتنا طلباً للاستجمام والإيواء ليلة أو اثنين".
ذكريات التهجير
تسترجع الحاجة نعمات بعض ذكريات أيام التهجير قائلة "لم نغادر المدينة، ورفضنا التهجير مع من تمسكوا بالبقاء في حلفا القديمة حتى الآن، كنا قلائل أياماً، وكان عمري حوالى خمس سنوات في الصف الثاني ابتدائي، وكانت الحال واحدة في التضامن لمواجهة الظروف الصعبة، ولم يكن أمام الباقين سوى التضامن لعبور المحنة، وكان التكاتف الدرس الأول الذي تعلمناه واستقيناه من كبارنا، وأن المتاح على قلته كثير، ويكفي الجميع الضيوف والغرباء أيضاً".
تسترسل الحاجة نعمات في ذكرياتها قائلة "كانت حلفا سباقة في فتح بيوتها ومدارسها ومساجدها، وقبلها فتحنا قلوبنا، ولكم أحزننا سماع أنبا قيامة الخرطوم (كما اسمتها)، تابعناها في ذهول، وأبناء البلد يشاهدون تدمير مستشفياتهم وبيوتهم، ويصبحون ما بين يوم وليلة مشردين، لكن البلد كلها أهلهم ودارهم".
وتحدثت العجوز السودانية بتأثر قائلة "ذكريات التهجير قاسية، فكانت المياه تطاردنا، وكلما ارتفع منسوبها نتراجع قليلاً منه، وهو ما أجبرنا على تشييد منازل من الخشب لسهولة تحويلها، كثيرون لم يرحلوا كان النز (الطفح المائي) هو المؤشر الأول على اقتراب المياه تبعاً لزيادة منسوب التخزين في السد العالي"، مشيرة إلى ذكرياتها بالقول "لم يهاجر أي من أسرتنا الكبيرة، فكان والدنا جزاراً معروفاً بالمنطقة، وصارعنا كل الصعاب مع 10 أسر أخرى ممن رفضوا الرحيل، وتحولنا معاً إلى مجتمع صغير شديد التلاحم كأننا أسرة واحدة، في ظل سبل عيش شحيحة فرضت علينا حياة أيضاً بسيطة تقوم على قليل من الحاجات، فبعض الخبز والخضراوات كان كافياً ليس مثل ما صارت إليه الحياة من تعقيدات الآن".
إصرار البقاء
واستطردت نعمات قائلة "بإصرار شديد كنا نرحل كل مرة تصلنا فيها مياه النيل إلى منطقة أكثر علواً، وكثيراً ما كانت تداهمنا المياه أثناء الليل ونحن نيام، واستمرت مطاردة المياه لنا حتى استقر بنا المقام في هذه المنطقة، والحي المعروف الآن بـ(مربع واحد) أو الحي الأول، وهو الذي أصبح النواة التي اجتذبت عودة حلفاويين آخرين وغيرهم، وقامت عليها والتفت حولها حلفا الحالية القادمة من رحم التاريخ من جديد".
وأردفت العجوز المضياف القول "من يرى أيام الضيق يعرف قيمة الحاجة والعون والتفريج عن الناس، وتعودت مع الأسرة والأهل تقاسم الموجود، وكنت أفعل نفس ما أقوم به اليوم تماماً، أصحو فجراً لصنع الخبز البلدي المبذول لكل عابر طريق وطارق باب الدار، لذلك فهو ليس بالأمر الجديد بالنسبة إلي، فقد ورثنا الكرم وحب الضيوف من أسلافنا وأجدادنا، وبخاصة عن والدي الجزار، نفعل ذلك كعائلة تضم أكثر من أربعة بيوت تجاور بعضها بعضاً بحكم تخطيط الأراضي الذي وضع اعتباراً خاصاً لتجميع الأسر مع بعضها في السكن".
ومنذ احتدام المعارك أيام الحرب الأولى في العاصمة السودانية الخرطوم، شهدت مدينة وادي حلفا الصغيرة أعداداً كبيرة من النازحين كإحدى الوجهات المفضلة، فقابلهم أهلها بكل ترحاب، وفتح المواطنون بيوتهم، إلى جانب امتلاء الفنادق والاستراحات والمتنزهات، مما اضطر أهالي المدينة إلى فتح أبواب المدارس والمساجد والمؤسسات الحكومية، حتى فاض العدد لاحقاً وتمدد إلى الإيواء تحت ظلال الأشجار في شوارع المدينة.