ملخص
يوجد حالياً بمدينة بريست الفرنسية حيث نصب في ساحة الترسانة عام 1833 وفوق فوهته وضع ديك رومي مصنوع من البرونز، فما قصة هذا المدفع، ولماذا تطالب به الجزائر؟
باتت المطالبة باسترجاع جميع تراث الجزائر المنهوب من قبل الاحتلال الفرنسي تتصاعد وتيرتها منذ استعادة بعض جماجم قادة وزعماء المقاومة كانت معروضة في متحف الإنسان بباريس، حتى جاء الدور هذه المرة على تحفة فنية حربية لها من القصص والروايات ما يجعلها ثمينة وغالية على الجزائريين وهي مدفع "بابا مرزوق".
وأثار عضو بمجلس الأمة قضية استعادة المدفع من فرنسا عبر سؤال وجهه إلى وزير المجاهدين العيد ربيقة، الذي رد على سؤال النائب مؤكداً أن قضية التراث الجزائري المحتجز بالخارج من أولويات الدولة الجزائرية ضمن معالجة ملف الذاكرة مع الجانب الفرنسي، ولا سيما ما يتعلق بالتحف الفنية والأشياء الثمينة التي سرقت ونهبت خلال الفترة الاستعمارية.
وأوضح الوزير أن مسألة استرجاع هذا التراث تحتاج إلى عملية رصد وإحصاء لكل محتوياته بتجنيد كل الفاعلين في الحقل التاريخي والعلمي ودعوتهم إلى الانخراط في هذا المسعى الوطني، مشدداً على أن "المدفع مفخرة وطنية ورمز يعكس قوة البحرية الجزائرية، وهو قطعة أثرية نادرة ووحيدة في مجال الأسلحة في تلك الفترة، ولم يصنع مثله عبر التاريخ، لذا استهدفته إدارة الاحتلال الفرنسي".
وأضاف أن الوزارة تعمل على التعريف بهذه القطعة النادرة من خلال إنجازها شريطاً وثائقياً عام 2021 يوثق تاريخ المدفع من خلال شهادات حية لمؤرخين وأكاديميين وحقوقيين، كما تقوم بتنظيم ندوات عدة من أجل توفير السند العلمي والأكاديمي خلال مراحل المباحثات من أجل متابعة ملفات الذاكرة التي درست وفق أطر محددة ودقيقة تعالج بحكمة بالغة.
مطالب متواصلة وردود
وعادت قضية استعادة مدفع "بابا مرزوق" من فرنسا إلى الواجهة، وهو أحد أهم القضايا المطروحة ضمن مطالب تسوية الذاكرة بين الجزائر وباريس، بعد أن أثيرت مرات عدة آخرها في يناير (كانون الثاني) 2022 داخل الإطار البرلماني، وكان رد الوزير ربيقة نفسه تقريباً إذ قال إن الجزائر عازمة على استرجاع كل تراثها التاريخي والثقافي من الخارج لا سيما من فرنسا، و"هي التزامات جاء بها برنامج رئيس الجمهورية عبدالمجيد تبون، وكانت البداية مع استرجاع جماجم ورفات قتلى المقاومة الشعبية".
وأضف الوزير أن الدولة الجزائرية تعتبر قضية استرجاع التراث التاريخي والثقافي بكل عناصره من أولوياتها ضمن معالجة ملفات الذاكرة، مشدداً على أن مدفع "بابا مرزوق" يعد من المحجوزات التي سرقت من طرف فرنسا الاستعمارية، مبرزاً أن استرجاع هذا المدفع واجب وطني جماعي على غرار بقية التراث المحتجز في فرنسا.
وعلى رغم اعترافها بأهميته فنياً وتراثياً وتاريخياً، يطرح التساؤل حول أسباب فشل الجزائر في استعادة مدفع "بابا مرزوق"، وما قصة هذه القطعة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول الباحث بكلية العلوم الاجتماعية دحو بن مصطفى إن هناك إشكالات قانونية وسياسية ورمزية ترتبط بمدفع "بابا مرزوق"، فهو ليس مجرد مدفع أو قطعة حربية وإنما رمز القوة البحرية الجزائرية، ويعبر عن سطوة الجزائر وهيمنتها على البحر الأبيض المتوسط، كما أنه شاهد على خضوع الأوروبيين لأنه يرتبط في ذاكرتهم بوضع القنصل الفرنسي لوفاشي عام 1663 على فوهة هذا المدفع وكذا خليفته بيول عام 1688، وقصفهما في وجه أسطول لويس الـ14 الذي كان يقوده دوكيني بعد أن قصف الجزائر العاصمة.
ويضيف بن مصطفى أن تسليم المدفع يمثل إقراراً من فرنسا بوجود دولة ذات سيادة احتلت، وإرجاعه هو اعتراف صريح من فرنسا بالاعتداء على دولة وسرقة ممتلكاتها وتراثها وثرواتها.
ويواصل أن الملف ما زال عالقاً كون فرنسا تتحجج بعدم وجود قوانين عام 1830 حول حماية التراث الثقافي والتاريخي للدول التي تتعرض للغزو. وفي ذلك إنكار للقانون الدولي الذي يقر بوجود فرعين، هما القانون الدولي العرفي والقانون الدولي الاتفاقي، كما أن فقهاء القانون أكدوا عدم شرعية الغنيمة الناتجة من الاحتلال، وهذا ما يفسر اعتذار بلجيكا من الكونغو وإرجاعها لقطع أثرية.
وأوضح أن ما يؤكد بطلان الحجة الفرنسية هو قانون فرنسيس ليبر عام 1863 الذي يمنع النهب والسرقة أثناء الحروب، وكذا مؤتمر لاهاي الأول عام 1899 حول القانون العرفي الدولي، ولاهاي الثاني عام 1907.
يعتقد الباحث أن أسباب عدم إعادة المدفع تتعلق بجريمة الاستعمار، "فباريس تنكر دائماً استعمارها للجزائر ووجود الدولة والأمة الجزائرية، إضافة إلى خجل فرنسا الحضارة والديمقراطية من صورتها السوداء وجرائمها، وكذا عدم وجود منهج واضح وسياسة ثابتة حول كيفية استرجاع المسروقات"، موضحاً أن هذه المطالب مناسباتية ترتبط بطبيعة ومستوى العلاقات السياسية، وتشتد أثناء التوتر وتخفت عند التحسن.
وختم بأن فرنسا تخشى في حال الاستجابة للطلب أن تمتد المطالب من المدفع إلى جميع ما نهبته من أموال وآثار وكنوز ووثائق وتحف وغيرها.
فريد من نوعه
ارتبط اسم المدفع الشهير "بابا مرزوق" بتاريخ الكفاح البحري للجزائريين في الفترة بين القرنين الـ16 والـ19 الميلاديين، إذ يصنفه المؤرخون ضمن أقدم المدافع الجزائرية إبان الوجود العثماني بالجزائر بين 1518 و1830، وصنع بأمر من الحاكم العثماني آنذاك باي حسن آغا مدفع "بابا مرزوق" عام 1542، تحت إشراف المصمم الإيطالي سيباستيانو كورنوفا في مصنع الأسلحة "دار النحاس" المحاذي للقصبة العتيقة بالعاصمة الجزائر، ونصب على رصيف ميناء العاصمة لحماية المدينة، وبقي هناك حتى 1830. ويبلغ طوله سبعة أمتار، ويصل مداه إلى نحو 4872 متراً بالضبط، وقدر وزنه بـ12 طناً.
في القرن الـ16 كانت الجزائر العاصمة عبارة عن قلعة منيعة أطلق عليها سكانها آنذاك اسم "المحروسة"، وخلال تلك الحقبة التي تميزت بتحولات سياسية وعسكرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط لعب "بابا مرزوق" دور الحامي، إذ تصدى لكل الهجمات التي تستهدف المدينة، لكن الأمر اختلف مع فرنسا وأساطيلها البحرية بعد أن قام حاكم الجزائر بقذف الطاقم الدبلوماسي الفرنسي الواحد تلوى الآخر في عرض البحر باستخدام "بابا مرزوق".
والمدفع يوجد حالياً في مدينة بريست الفرنسية حيث نصب في ساحة الترسانة عام 1833، قبل أن يوضع في السنوات التالية ديك رومي مصنوع من البرونز فوق فوهته.
يقول المؤرخ الجزائري الراحل بلقاسم باباسي في كتابه "ملحمة بابا مرزوق.. مدفع الجزائر"، إن المدفع أبقى الجزائر العاصمة قلعة حصينة لمدة ثلاثة قرون، مضيفاً أنه "فريد من نوعه في القرن الـ16 ويعتبر رائد المدافع التي أنجزتها دار النحاس بالجزائر، واستولى الفرنسيون عليه عام 1830 عند احتلالهم للجزائر وكان ضمن مجموعة من التحف التراثية والعسكرية، ثم نقل إلى فرنسا عام 1833 بناء على طلب الأميرال دوبيري الذي راسل وزير البحرية الفرنسية في السادس من أغسطس (آب) يطلب نقل المدفع إلى بلاده".
من جانبه يسجل المؤرخ أبو القاسم سعد الله أن المدفع ظل منتصباً كالنسر الجبار على باب الجهاد المطل على البحر في الجزائر، بينما سماه الفرنسيون "القنصل" وكانوا يرتعدون منه إذا ذكر لهم، لذلك كان ضمن الإجراءات الأولى التي اتخذها الفرنسيون عقب دخولهم الجزائر نقل مدفع "بابا مرزوق" إلى فرنسا، معلقاً "قد يظهر لك هذا أمراً بسيطاً، ولكننا نعتقد أن المدفع كان يرمز إلى أشياء كثيرة، إنه قبل كل شيء رمز القوة، ونقله لصوصية عسكرية وثقافية".
إلى ذلك يرى المحامي عامر رخيلة أن استرجاع مدفع "بابا مرزوق" يبقى رهين قوى ولوبيات وجماعات ضغط مهيمنة على القرار السياسي في فرنسا، مضيفاً أن "المدفع يندرج ضمن ملف الأرشيف الجزائري الذي سرقته فرنسا".
وأوضح أن "الاستعمار حاول الاستحواذ عليه مرات عدة، وتمكن من سرقته ونقله إلى فرنسا ووضع في المتحف لفترة معينة"، مشيراً إلى أن "محاولات استعادة المدفع والأرشيف المسلوب اقتصرت منذ تسعينيات القرن الماضي على دعوات المؤرخين وقدماء حرب التحرير الجزائرية".
وقال رخيلة "كنا ننتظر الحصول عليه في السنوات السابقة، لكن الإدارة الفرنسية أبت تسليمه للجزائر نظراً إلى رمزيته"، موضحاً أن "موقف الجزائر ظل باهتاً منذ الاستقلال عام 1962 حتى بدأت مسألة الأرشيف تطرح في السنوات الأخيرة، واسترجاع المدفع لن يتم إلا إذا ربط بالملف الاقتصادي وما يتعلق بالعلاقات الثنائية".
في المقابل تعتقد الباحثة في التاريخ والآثار فايزة رياش أن استعادة مدفع "بابا مرزوق" ليست مستحيلة كما حدث مع جماجم أبطال المقاومة الشعبية، موضحة أن "الجزائر لن تتوقف عن المطالبة باستعادة إرثها الثقافي"، ومشددة على أن المدفع سيعود يوماً مثله مثل بقية القطع الأثرية الموجودة بمتحف الإنسان بباريس.