لماذا لم تصبح الجزائر دولة مثل جنوب أفريقيا في شمال القارة؟
لقد عانت جنوب أفريقيا من أشد أنواع الاستعمار والعنصرية البهيمية، ومع ذلك استطاعت أن تطوي وفي مدة زمنية قصيرة هذه الصفحة لتتحول إلى بلد نموذجي في التعايش والتعدد وقبول الآخر، استطاع هذا البلد في ظل هذا الاختيار أن يحتوي كل أبنائه وأن يصنعوا الحلم الجديد معاً لأجيال جديدة.
ولا يوجد بلد أفريقي واحد عاش ما عاشته دولة جنوب أفريقيا في علاقتها المتوترة بالتاريخ وبالمستعمِر سوى الجزائر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن لماذا لم تتحول الجزائر إلى جنوب أفريقيا في شمال القارة؟
إذا كانت جنوب أفريقيا قد اختارت المصالحة الصحيحة المؤدية إلى بناء الدولة بجميع أيدي أبنائها الذين تقاتلوا البارحة فإن الجزائر حين طويت صفحة الاستعمار لم تتمكن، بل لم تكن قادرة سياسياً على خلق مثل هذه المصالحة، لسبب واضح هو أن الطبقة السياسية التي كانت تدير جزائر الثورة التحريرية وما بعدها هي طبقة غير مثقفة، وهي طبقة في غالبيتها ذات أصول فلاحية تقليدية بحس ديني واضح، وهو ما خنق التيارات والأصوات المختلفة الأخرى، كما أن الطبقة التي استولت على الحكم في الجزائر عشية الاستقلال، ولا تزال هي نفسها حتى الآن، كانت ترفض الشركاء المختلفين عنها في بناء البلد، وتعتقد أن كل من يختلف معها هو بالضرورة عدو يجب تصفيته جسدياً ووجوداً.
لماذا لم تتحول الجزائر إلى بلد يشبه جنوب أفريقيا في شمال القارة؟
ببساطة لأن الطبقة الحاكمة بعد الاستقلال اعتمدت سياسة الشعبوية التي هي أيديولوجية هيمنةٍ مؤسسةٍ على روح الفاشية، أي الحكم بالديماغوجيا والتضليل الإعلامي واستهلاك الخطب والشعارات. وفي الرؤية الشعبوية الطاغية يختلط مفهوم "الاختلاف" بمفهوم "الكراهية". و"الكراهية" مرض قاتل أما "الاختلاف" فهو حالة إنسانية دينامية منتجة.
لماذا لم تصبح الجزائر بلداً يشبه جنوب أفريقيا في شمال القارة؟
ببساطة أيضاً وبوضوح، لأن الطبقة التي استولت على الحكم في جزائر، ولأنها لم تكن تملك آليات ولا أرضية فلسفية لاحتواء "المختلف" فقد واصلت الحرب ضد "الخصوم"، ليست حرباً سياسية بل حربَ تصفيةٍ دمويةٍ.
إن من ينجح في إدارة حركة التحرر ليس بالضرورة مؤهلاً لقيادة مرحلة بناء دولة وطنية، وتلك حال الطبقة التي قادت الثورة الجزائرية، فقيادة مرحلة ثورة التحرير لها منطقها وإستراتيجيتها التي تختلف كلية عن منطق وإستراتيجية مرحلة بناء مؤسسات دولة جديدة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ولغوياً وتربوياً وعقائدياً، وهو جوهر عطب الطبقة السياسية العسكرية التي استولت على الحكم وإدارة الدولة الجديدة في العام 1962.
لماذا لم تصبح الجزائر بلداً يشبه جنوب أفريقيا في شمال القارة؟
ببساطة أيضاً وبكل وضوح، لم يحدث ذلك لأن الجزائر النظام السياسي لم تستطع أن تستوعب وتتصالح مع المكونات البشرية الأساسية التي ورثتها من زمن الاستعمار، وأولها المكون البشري الأوروبي، وهم الجزائريون ذوو الأصول الأوروبية الذين ولدوا وعاشوا وماتوا، أباً عن جد، في الجزائر، ولم يكن لهم بلد آخر بديلاً عن الجزائر، والجزائريون من أصول أوروبية هم من أصول فرنسية وألمانية ومالطية وإسبانية وبرتغالية وإيطالية وغيرها، وقد جاؤوا البلد كما جاءه العرب من قبل بقرون واستوطنوا بها عن طريق الحرب والمصادرة، ولم يكن هؤلاء الأوروبيون متساوين أمام الإدارة الاستعمارية، فعلى سبيل المثال كان الإسباني والبرتغالي من الطبقة المسحوقة بالمقارنة مع الأوروبي الفرنسي، وكانت الإسبانيات خصوصاً في الجهة الغربية (القطاع الوهراني) عبارة عن خادمات في بيوت الفرنسيين المعمرين لفترة طويلة.
ومع مرور الزمن، وبعد قرن على الاستعمار، تحول الأوروبيون إلى قوة اقتصادية وزراعية وعمرانية في المستعمرة، وعليهم تأسست الجزائر المستعمَرة التي أصبحت تطالب بين الحين والآخر باستقلاليتها عن المتروبول نظراً لتراكم خصوصيات إثنية وجغرافية وثقافية وفنية ولغوية تميزها عن المتروبول وتقربها من الشمال الأفريقي الجديد، وقد ظهر ذلك جلياً في النزعة "الجزائريانية في الأدب" (le mouvement des algérianistes en littérature) وهي حركة كانت تدعو إلى الاستقلال الأدبي عن أدب الصالونات الباريسية والعمل على تشكيل صوت جمالي أدبي سردي وشعري متناغم مع الفضاء الجديد.
كما أن مدرسة الجزائر العاصمة للآداب (L’école d’Alger) التي أنتجت كتاباً كباراً من أمثال ألبير كامو ومحمد ديب ومولود فرعون وروبلس وغيرهم، تعد مدرسة بجماليات توازي وتعارض مدرسة باريس الأدبية بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كانت اللغة المستعملة في الكتابة هي الفرنسية لكن الروح تختلف تماماً بين كاتب جزائري وكاتب باريسي.
إن العنف الدموي الذي صبغ الشهور الأولى التي رافقت الإعلان عن وقف الحرب التحريرية، من الطرفين الطرف الكولونيالي الذي كان يريد الحفاظ على الجزائر فرنسية والعنف الذي صدر أيضاً من الجانب الجزائري الذي كان يريد بلداً بعرق واحد هم "العربي المسلم".
ومن مخلفات هذا العنف أن فقدت الجزائر الجديدة رأسمالاً كبيراً من الخبرة في إدارة الفلاحة وشأن الإدارة والمدن ومؤسسات الدولة بشكل عام.
لم تكن هناك طبقة سياسية قادرة على احتواء الخلافات وتهدئة الصراع، بل اشتعلت إلى جانب مطحنة العنف ضد الجزائريين ذوي الأصول الأوروبية نيرانُ حرب أخرى اندلعت بين إخوة البارحة، إخوة الثورة، من أجل السلطة وبشكل عنيف أيضاً ولا تزال آثاره واضحة حتى الآن في مؤسسات الدولة وفي سيكولوجية الأجيال المتعاقبة.
مع أن الثورة الجزائرية لم تكن صنيع الجزائريين من الأهالي المسلمين وحدهم بل إن كثيراً من الأوروبيين ذوي الأصول الجزائرية شاركوا فيها واستشهد بعضهم لأجلها وسجن البعض الآخر وعذب آخرون لأجل استقلالها، كانوا يقومون بذلك من أجل جزائر الغد، الجزائر البديلة عن جزائر الاستعمار العنصرية، جزائر تتحقق فيها التعددية والاختلاف والحرية والديمقراطية والعدالة والمواطنة التي يتظلل بها الجميع.
ومع ذلك فقد وجد من بقي منهم في البلد بعد الاستقلال نفسه يعيش في ظل نظام سياسي واحدي يقصي ويمارس تعصباً جديداً ويحد من الحريات، وبدت الديمقراطية المنشودة بعيدة المنال، وبدأت هجرتهم الثانية بعد هجرة التي خلفها العنف الدموي عشية الاستقلال.
وأمام غياب المصالحة الصحيحة والشجاعة والديمقراطية، فقد فقدت الجزائر عنصراً مهما من تركيبتها البشرية والاقتصادية، وهم الأوروبيون ذوو الأصول الجزائرية أو الجزائريون ذوو الأصول الأوروبية.
لماذا لم تصبح الجزائر بلداً يشبه جنوب أفريقيا في شمال القارة؟
لقد خسرت الجزائر مكوناً بشرياً آخر مهماً هم يهود الجزائر، لقد وُجِد اليهود في هذه الجغرافيا وعلى هذه الأرض منذ آلاف السنين، وقد ظل المسلمون واليهود يعيشون في وئام اجتماعي وفي نسيج ثقافي واحد ومتعدد، حتى جاء مرسوم كرميو Crémieux ، الصادر في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1870 الذي منح الجنسية لليهود من دون الفصيل الآخر من الأهالي أي المسلمين، وهو ما أثار التفرقة الأولى بينهما.
وإذا كان مرسوم كريميو الذي أعطى حق الجنسية لليهود وحرمان الأهالي المسلمين منها قد أحدث شرخاً في بنية المجتمع الأهلي الجزائري المسلم اليهودي، فإن الإدارة الاستعمارية ظلت، حتى بعد صدور هذا المرسوم، تعامل يهود الجنوب واليهود الرحل ويهود الهامش بالعقلية نفسها التي كانوا يُعَامَلون بها قبل صدور هذا المرسوم الذي كرس النخبة اليهودية المدينية كَيَدٍ أهلية عليمة ببنية المجتمع الجزائري لتوطيد الوجود وفهم آليات المجتمع المستعمَر.
ماذا يا ترى كان سيحدث لو أن يهود الجزائر ظلوا في البلاد ولم يغادروها بعد الاستقلال؟
من دون شك، هذا السؤال قد يزعج الكثيرين، لأننا صنعنا مواطناً يخاف من طرح الأسئلة، مواطناً يعيش على أجوبة جاهزة وبائتة، مواطناً ضحية ثقافة "الغضب" لا يفكر إلا بـ "الزبد" على أطراف فمه.
وإذا كان هذا السؤال يزعج الكثيرين فإن الإزعاج هو "لقفة وعي تاريخية" مهمة Prise de conscience historique .
لكن ما هي مهمة المثقف التنويري إذا لم تكن التشويش على الطمأنينة الكاذبة، والرد على الأجوبة الجاهزة التي تجاوزت تاريخ صلاحيتها فأصبح استهلاكها ساماً بالنسبة للمواطن؟
إن تاريخنا المغاربي منذ العصور الوسطى أكد لنا مسلمة تاريخية مركزية وهي كالتالي: إن هذه المنطقة الجغرافية لا يمكنها أن تتطور إلا بتوافر شرطين أساسين هما، العلمانية بوصفها النظام الذي يحفظ ويحافظ على الدين، مهما كان هذا الدين، يحفظه من تجار وسماسرة السياسة، ويبقي على العبادة في شكلها النموذجي المتمثل في العلاقة الروحانية العالية والصافية بين العبد وخالقه. بالتالي تحفظ حقوق الأقليات وحقوق المعتقدات وتجعل من "المواطنة" الدين اليومي الذي يجتمع فيه وله وتحت قوانينه الجميع من دون تفرقة أو أفضلية إلا أفضلية الذكاء والإبداع والمنافسة الشريفة.
لقد علّمنا التاريخ المغاربي الحديث والقديم أن هذه المجتمعات والأوطان حين كان يعيش فيها اليهود كانت منطقة ديناميكية، وأنهم كانوا دائماً المجموعة الاجتماعية التي تسهم في إدارة "الشأن العام" و"الخاص" بكثير من الحرص والمتابعة والمهنية والديناميكية.
إن التدبير الذكي للشأن العام والخاص الذي كان يقوم به المواطنون الجزائريون والمغاربيون اليهود بدا واضحاً في كل المجالات، في الاقتصاد، في الاجتماع، في الفن، في الفلاحة، في التجارة، في المال، في الحرف التقليدية، في الإعلام، في الخدمات.
علّمنا التاريخ، ويجب الإقرار بذلك، أن زمن العنتريات قد ولى وحل زمن الفكر الهادئ المنشغل بالشأن العام وبالعيش المشترك والمنافسة الذكية والعمل على بناء البلدان على أسس إنسانية معاصرة.
إن المواطنين الجزائريين والمغاربيين من اليهود كانوا جزءاً لا يتجزأ من الأهالي الأصليين من أبناء هذه الأرض، يلبسون لباسهم ويأكلون أكلهم ويركبون مراكبهم ويغنون أغانيهم.
لم يعش اليهودي الجزائري أو المغاربي غربة في شمال أفريقيا على مر العصور لأنها بلده، عاش عيش الأهالي، انطلاقاً من ذلك، كان يمكن لليهود الجزائريين والمغاربيين بشكل عام أن يثروا التنوع ويحافظوا عليه، ومن خلال هذا الوجود كنا قادرين على التخلص من الواحدية القاتلة في السياسة وفي الدين وفي الثقافة والانفتاح والتفتح على حلم العيش المشترك وصناعة الغد المتعدد.
كما في صفوف المسلمين الأهالي كان هناك "الحركى" أي أولئك الخونة الذين تعاملوا مع الاستعمار الفرنسي وانحازوا إليه، وقد بلغ عددهم أكثر من نصف مليون أو أكثر، فقد وجد في "اليهود" الأهالي "الحركى" أيضاً الذين عملوا لصالح القوى الاستعمارية، إذ لا فرق بين "الحركى" المسلمين و"الحركى" اليهود كما لا فرق بين المناضل اليهودي والمناضل المسلم من أجل الاستقلال والحرية، فالدين ليس هو المحدد للنضال السياسي بل الإيمان بالحرية والوطن المستقل هو من يحدد ذلك.
لقد انضم إلى صفوف الثورة الكثير من اليهود الجزائريين وكانوا مناضلين شرفاء في جبهة التحرير وجيش جبهة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، وقد استشهد بعضهم وأعدم البعض الآخر، ويمكننا التذكير هنا بالشهيد فيرناند إيفتون الذي أُعدم بالمقصلة من قبل القوات الاستعمارية الفرنسية في 11 فبراير (شباط) عام 1957 لا لشيء إلا لأنه كان مناضلاً في جبهة التحرير الجزائرية.
إن تدريس التاريخ الوطني في صورته ومضمونه الرسمي الذي أعدم كثيراً من الحقائق التاريخية كما أن الشعبوية السياسية بروحها الفاشية وضعت اليهود الجزائريين في سلة واحدة، سلة الأشرار، كما جعلت الجزائريين من أصول أوروبية في خانة واحدة أيضاً، خانة الاستعمار، وهو ما صعّب بناء دولة قوية بتعدديتها وبتنوعها السياسي والإثني والثقافي واللغوي والديني كما هي الحال في جنوب أفريقيا.
ثم غذى فكرة كراهية اليهود الجزائريين والمغاربيين بشكل عام ظهورُ القضية الفلسطينية العادلة، إذ يعتقد الجزائري أن كل يهودي هو إسرائيلي، كل يهودي هو صهيوني، بالتالي ساهم هذا الوعي الزائف لاحقاً في تهجير عشرات الآلاف من المواطنين المغاربيين اليهود، خصوصاً في أعقاب هزيمة حزيران 67، وأذكر وكنت وقتها طفلاً في المدرسة الابتدائية كيف أن مجموعة من المواطنين كانوا يلقون بالحجارة على جيرانهم من اليهود الذين لطالما تقاسموا معهم الخبز والفرح والأتراح عقب نكسة 1967.
إن الجيل الجزائري والمغاربي الجديد الذي تعرض لعملية غسيل دماغ متواصلة تغيب عنه هذه المعطيات، فبعد غسيل الدماغ الذي تعرض له من قبل الأحزاب الوطنية الدوغمائية، ها هو اليوم عرضة لعملية غسيل مخ عن طريق الأحزاب والجمعيات الدينية والفقهاء والدعاة وأصحاب الفتاوى، وهو الغارق في خيبة الدولة الوطنية، ولوح الإنقاذ الوحيد الذي بقي له هو "حلم الهجرة" إلى بلد مستعمِر البارحة، الهجرة إلى أوروبا.
لكل هذه العوامل وأخرى لم تستطع الجزائر أن تتحول إلى جنوب أفريقيا ثانية في شمال القارة.