ملخص
الإنتاج يواصل التراجع أمام نمو سكاني بالغ والأسعار المرتفعة تنزع عن الوجبة صفة "البروتين الرخيص"
لم يسلم صيد البر والبحر من التضخم الذي ألقى بتبعاته على إنتاج مصر من الأسماك، فبينما تستقبل البلاد كل عام 2.5 مليون مولود جديد يمثلون ضغوطاً على معدلات الاستهلاك والإنفاق، فإن موارد البروتين في البلد الأكبر عربياً (104.9 مليون نسمة) تواجه تحدياتٍ بالغة، بخاصة الأسماك التي لم ينمو إنتاجها بنفس معدل نمو السكان وأخذت في التراجع.
لم يشفع للبلاد امتلاكها أطوالاً قياسية من اليابسة المطلة على البحرين الأبيض والأحمر ونهر النيل، إلى جانب عدد من البحيرات والمصايد الطبيعية والصناعية، في زيادة إنتاجها من الأسماك على نحو ما تمتلكه من موارد طبيعية، إذ واصل إنتاج مصر من الأسماك تراجعه، بحسب ما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، قبل أيام، مشيراً إلى أن إجمالي كمية الإنتاج السمكي بلغ مليوني طن عام 2021 مقابل 2.01 مليون في العام السابق له، بنسبة انخفاض قدرها 0.43 في المئة، ومن 2.03 مليون طن في عام 2019.
ظلت وجبة الأسماك لعقود خياراً أمثل لدى الطبقة المتوسطة من المصريين لما تمثله من بروتين غني القيمة رخيص الثمن، بالمقارنة مع أنواع البروتين الآخر الداجني والحيواني الأعلى سعراً، لكن سرعان ما نفذ التضخم إلى الصناعة عبر بوابة الأعلاف التي تستوردها البلاد بشراهة، وجعلها كبقية الوجبات الأخرى المثقلة بتكاليف الإنتاج.
ووصل متوسط نصيب الفرد في مصر من الأسماك إلى 20 كيلوغراماً العام الماضي بحسب تقديرات هيئة الثروة السمكية التابعة لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، وعلى رغم ذلك يظل هذا المتوسط أقل من المعدل العالمي للفرد الواحد 21.5 كيلوغرام.
وجبة غذائية مكلفة
يحكي كمال عبد الحميد، تاجر تجزئة في محافظة دمياط (شمال مصر) كيف كانت وجبة الأسماك خيار من لا خيار له في ظل ارتفاع أسعار البروتين الآخر، إذ حظيت محافظته بحكم امتلاكها مساحات على البحر المتوسط ونهر النيل وبحيرة المنزلة، واشتهارها بحرفة الصيد، بمعروض وفير وطازج من الأسماك طوال أيام العام، وسعر يتناسب مع هذه الوفرة، قبل أن يضحي الأخير مرتفعاً بفعل تضخم مدخلات الإنتاج، كما يقول لـ"اندبندنت عربية".
يضيف الشاب الثلاثيني المتزوج حديثاً "كان أعلى سعر للكيلوغرام من البوري (ثلاث قطع) لا يتجاوز 50 جنيهاً (1.6 دولار) في الماضي، لكن أصبح اليوم 175 جنيهاً (5.67 دولار) ويزيد، وعليه فإن التكلفة زادت... كان بمقدور الأسرة تناول الأسماك بالسعر قبل عامين أربع مرات أسبوعياً، لكن ارتفاع سعر الكيلوغرام إلى 175 جنيهاً يقلص المرات الأربع إلى مرة واحدة فقط".
ويتفق محيي عبد العزيز، موظف بإحدى الجامعات، مع كمال عبد الحميد، لكنه يشير إلى تكلفة أعلى على الأسرة المكونة من أربعة أفراد في المتوسط، فيقول إن أسرة كهذه تحتاج في الوجبة إلى 2.5 كيلوغرام من أسماك "البوري" أو "البلطي" الأقل سعراً، وفي حال اختيارها الصنف الأول ستدفع لقاء الوجبة ما لا يقل عن 400 جنيه (12.94 دولار)، في حين يقل السعر عند اختيار أسماك "البلطي" بنفس الوزن إلى مستوى 200 جنيه تقريباً (6.5 دولار) بافتراض أن متوسط سعر الكيلوغرام الواحد 80 جنيهاً (2.59 دولار).
وسجلت البلاد أول تباطؤ في معدل التضخم في أبريل (نيسان) الماضي منذ 10 أشهر، عند مستوى 31.5 في المئة للتضخم السنوي مقابل 33.9 في المئة في مارس (آذار) السابق له، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لكن على رغم ذلك فإن القراءة الأخيرة تظل من بين الأعلى منذ ما يزيد على ست سنوات.
على أساس شهري، زادت أسعار مجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 7.3 في المئة في أبريل، بحسب بيانات "جهاز الإحصاء" بينما تصل النسبة على أساس سنوي إلى 74.5 في المئة.
المزارع السمكية الأغزر إنتاجاً
يلفت تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى تنوع موارد إنتاج الأسماك، فيقسمها إلى المصايد الطبيعية مثل البحار والبحيرات والمياه العذبة، وإلى مشروعات وأحواض الاستزراع السمكي والمزارع السمكية أيضاً، فيشير إلى أن إنتاج المصايد الطبيعية بلغ 428.8 ألف طن في عام 2021 بزيادة 1.7 في المئة عن العام السابق له، و1.58 مليون طن من إنتاج مزارع الأسماك بزيادة واحد في المئة، والمتبقي ينتج من مشروعات الاستزراع.
ويتناول التقرير، بعض الأصناف المنتجة من الأسماك في مصر، فيشير إلى النسبة الأكبر من الإنتاج من أصناف "البلطي"، "البوري"، "الدنيس"، "القاروص" و"المرجان"، إلى جانب القشريات مثل "الجمبري" و"الكابوريا"، والرخويات مثل "السبيط".
لكن التراجع الملحوظ في الإنتاج، كان محط انتباه عديد من الأصوات التي نادت بدراسة الأمر والوقوف على أسبابه، لعل آخرهم عضو لجنة الزراعة والري بمجلس النواب المصري، محمد سعد الصمودي، الذي قدم قبل صدور أرقام "جهاز الإحصاء" الأخيرة بأيام، طلب إحاطة، موجه إلى وزير الزراعة، بشأن تراجع إنتاج الأسماك من بحيرة ناصر.
نتيجة واحدة وأسباب عدة
يرى متخصصون أن عدداً من الأسباب تقف وراء ظاهرة تراجع الإنتاج في مصر، من بينها تضخم أسعار مدخلات الإنتاج والأعلاف، إذ تعتمد البلاد على استيراد أكثرها من الخارج، بالإضافة إلى تهالك مراكب الصيد وغياب أسطول احترافي تعود ملكيته للدولة، إلى جانب أسباب فنية أخرى مثل نقص المياه العذبة وانتشار التلوث.
على رغم ما تحظى به مصر من اكتفاء ذاتي نسبته 85 في المئة من الأسماك، بحسب تقارير وزارة الزراعة، إلا أن بيانات البنك المركزي المصري الصادرة في مارس (آذار) الماضي، تشير إلى أن البلاد استوردت أسماكاً حية ومبردة ومجففة بما قيمته 645.1 مليون دولار في العام المالي الماضي، ما يفسر حاجة السوق الاستهلاكية الشرهة إلى غطاء الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك عبر الاستيراد من الخارج.
ترى أستاذة رعاية الأسماك بالمركز القومي لعلوم البحار والمصايد، غادة رشاد، أن السبب الرئيس في تراجع إنتاج الأسماك في مصر هو ارتفاع أسعار الأعلاف وندرتها، في ظل اعتماد القاهرة على الاستيراد كآلية لتدبير ما يلزم من الأعلاف ومكوناتها الأساسية.
وتضاعفت أسعار الأعلاف خلال العامين الماضيين، بنسبة تزيد على 100 في المئة، مدفوعة بارتفاع فاتورة استيراد المواد الأساسية، مع تحرير سعر صرف الجنيه بداية من عام 2016، ليرتفع من 9000 جنيه (291 دولاراً) إلى 20 ألف جنيه في المتوسط (647.5 دولار)، الأمر الذي يفسر ارتفاع أسعار الأسماك بين 30 و40 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي، بحسب تقديرات شعبة الأسماك بالغرف التجارية.
تهالك مراكب الصيد
توضح غادة رشاد أن هناك جملة من الأسباب والعوامل الأخرى التي تقف وراء تراجع الإنتاج، مثل تهالك مراكب الصيد المملوكة جميعها إلى الصيادين العاملين في القطاع، وعدم وجود أسطول للدولة بإمكانيات ضخمة كما هي الحال مع دول أخرى مثل تركيا والمغرب، ما يكفل الإبحار بأعماق أكبر داخل البحار والابتعاد كفاية عن الشواطئ الملوثة، بهدف الحصول على أسماك عالية الإنتاجية، وهو أمر يحتاج استثمارات ضخمة وعمالة فنية مدربة.
على رغم ذلك، استحسنت أستاذة رعاية الأسماك بالمركز القومي لعلوم البحار والمصايد، بعض الجهود المبذولة من جانب الدولة، ومنها كما تقول، التوسع في زراعة المحاصيل ذات المكونات العلفية، والتي تستوردها البلاد في العادة من السوق العالمية، وهو ما يجعلها طوال الوقت في عرضة لتقلبات الأسعار العالمية للخامات، سواء بفعل الطلب المتنامي عالمياً أو حتى لظروف نقص الإنتاج في بعض المواسم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى الباحث المتخصص في مجال الاستزراع السمكي، مازن الصواف، أن ارتفاع أسعار الأعلاف المستوردة في غالبيتها، وغياب أسطول صيد احترافي مملوك لمصر، ونقص المياه العذبة عالمياً، أسباب تفسر تراجع الإنتاج المحلي من الأسماك، بخاصة أن مع تأثر عديد من العاملين في هذه الصناعة بظروف اقتصادية صعبة، دفعت بعضهم للتخارج من النشاط تماماً.
يعمل في نشاط الصيد رسمياً قرابة نصف مليون مصري، بحسب تقديرات رئيس جهاز وتنمية البحيرات والثروة السمكية، الدكتور صلاح مصيلحي، إذ صرح في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن لدى هيئته أكثر من 47 مكتباً على مستوى محافظات الجمهورية، لخدمة الصيادين الذين يفوق عددهم الـ 500 ألف صياد.
ويلفت مازن الصواف إلى أن مصر تأثرت كغيرها من بقية الدول بنقص المياه العذبة، وهو أمر ترك آثاراً على قطاع الإنتاج السمكي في البلاد، إذ تأتي النسبة الأكبر من الإنتاج عبر المزارع السمكية بنحو أربعة أخماس المنتج مقابل خُمس للمصايد الطبيعية كالبحار والبحيرات.
لدى مصر، ما يتجاوز سبعة آلاف مزرعة سمكية، بحسب تقديرات جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية، وسط مساع للوصول بإنتاج الأسماك خلال خمس سنوات إلى 2.7 مليون طن من مليوني طن حالياً.
وتعد المزارع السمكية الخط الأول لإنتاج الأسماك في مصر كما يقول الصواف، لكن هذه المزارع تواجه اليوم تحديات تشغيلية كبيرة، من قبيل ارتفاع أسعار الخامات العلفية ومتطلبات التشغيل، وبالتالي نقص المعروض وارتفاع أسعاره، بعدما كان ينظر إلى الأسماك باعتبارها مصدراً بروتينياً رخيصاً مقارنة بغيره من المصادر الحيوانية الأخرى.
ارتفاع أسعار الأعلاف
يضيف الصواف "كنا أمام مستويات مرتفعة من الأعلاف، بلغت 43 ألف جنيه للطن (1392 دولاراً)، قبل أن يهدأ السعر قليلاً إلى مستوى 34 ألف جنيه (1100 دولار) بعد تدخل الدولة للإفراج عن البضائع والخامات المحتجزة في الموانئ، وسعر العلف يختلف من مصنع لآخر، وهناك في المقابل، ارتفاع في أسعار الوقود اللازم لتشغيل مراكب الصيد".
وتراجع سعر الجنيه المصري رسمياً أمام الدولار الأميركي، من مستوى 15.75 للدولار الواحد في مارس 2022 وصولاً إلى متوسط 30.85 للدولار في مايو (أيار) الحالي، في حين احتفظت السوق السوداء بأسعار أكبر للدولار عند مستوى 40 جنيهاً (1.29 دولار بالسعر الرسمي) في المتوسط.
وفي تصريحات سابقة، تقدر نائبة وزير الزراعة للثروة الحيوانية والداجنة والسمكية سابقاً، منى محرز، الوزن الذي تمثله الأعلاف بـ70 في المئة من إجمالي تكلفة إنتاج الأسماك، إذ يحتاج الكيلوغرام الواحد من الأسماك إلى 900 غرام من الأعلاف، طبقاً لحسابات معامل التحويل الغذائي في إنتاج أسماك المزارع.
ويشير الصواف، إلى أهمية وجود بورصة واحدة لتسعير الأسماك في مصر، تضمن حصول المربين على عوائد مجزية تتناسب ومدخلات الإنتاج باهظة التكلفة، وتضمن أيضاً وصول السلعة إلى المستهلك بسعر مناسب، مع استخدام النظم الحديثة في الاستزراع السمكي والتوسع الرأسي بزيادة كمية الإنتاج من نفس وحدة المساحة، مع الاستعانة بالمختصين في مجال الاستزراع بكثافات عالية في مساحات محدودة، وبترشيد فائق في استخدام المياه.
تهديدات قائمة
في دراسته المعنونة بـ"الاستزراع السمكي في مصر... تحديات الحاضر وآفاق المستقبل" الصادرة عن معهد التخطيط القومي عام 2021، تحدث أستاذ اقتصاد الموارد السمكية بمركز التخطيط والتنمية الزراعية، أحمد عبد الوهاب، عن الأعلاف كأحد أهم مدخلات الإنتاج، إذ يمثل وزنه النسبي 60 في المئة من إجمالي تكلفة الاستزراع، معتبراً أن زيادة أسعار الأعلاف مشكلة تؤرق مزارعي الأسماك، وتؤثر في ربحية النشاط، ويقدر نسبة المستورد منها بـ90 في المئة.
ويقر عبد الوهاب، بوجود مجموعة من التهديدات المؤثرة سلباً على استدامة الموارد السمكية من أهمها التلوث، وتجفيف مساحات من البحيرات، وارتفاع القيمة الإيجارية وتكلفة الطاقة مع نقص مصادر التمويل البنكية، وقصور التشريعات المنظمة للنشاط، ويلفت في هذا الصدد إلى عدة تجارب دولية منها التجربة المغربية وتجربة سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة وبنغلاديش، وهي تجارب يجمعها إطلاق رؤية مستقبلية لزيادة الإنتاج والاستعانة بالخبرات الدولية وتطوير الإمكانيات المحلية وعلى رأسها أساطيل الصيد ومنع التلوث.