ملخص
عالمان متداخلان بين الأرض وما تحتها في رواية "قصة خرافية"
لعلّ قوّة الخيال وسحرية الواقع وغرائبية الفضاء وبوليسية الأحداث وترابط الحكاية وتنوّع المكوّنات، ممّا نقع عليه في روايات الأميركي ستيفن كينغ المختلفة، هي التي تجعلها الأكثر مبيعًا حول العالم، بحيث تُباع بمئات ملايين النسخ، ويتهافت عليها القرّاء، بترجماتها العالمية. وفي هذا السياق صدرت رواية جديدة للكاتب بعنوان "قصة خرافية" بالترجمة العربية عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" التي أصدرت له سابقاً إحدى وعشرين رواية له، .
يشكّل العنوان مفتاحاً مناسباً للمتن الروائي، وبالتوغّل فيه نجد أنفسنا إزاء عالمين اثنين؛ واقعي تجري أحداثه في ولاية إيلينوي الأميركية ما بين العامين 2003 و2013، وسحري تجري أحداثه تحت الأرض خلال الفترة نفسها. والعالمان كلاهما يتّصلان وينفصلان، في الوقت نفسه. يتّصلان بواسطة سرداب عميق وممر طويل وبعض الشخوص لا سيما الشخصية المحورية. ويفصل بينهما المكان والزمان والشخوص وطبيعة الأحداث. على أن ما يفصل أحدهما عن الآخر أكبر بكثير ممّا يصل بينهما.
في العالم الواقعي، يشكّل موت الأم صدماً على جسر سيكامو، في تشرين الثاني 2003، نقطة انطلاق للأحداث، تترتّب عليها تداعيات مزلزلة على الأسرة. تتمظهر في إدمان الأب جورج ريد، العامل في شركة تأمينات، على الكحول، إهمال شكله الخارجي، استغراقه في البكاء، فقدانه العمل، ورزوحه تحت وطأة الدين، من جهة، وفي إلقاء عبء كبير على عاتق الابن تشارلي الذي لا يتجاوز السابعة من العمر، من جهة ثانية. حتى إذا ما أعياه العبء، يصلّي من أجل توقف أبيه عن الشرب متعهّداً بالاستقامة، طيلة حياته، إذا ما استُجيبت صلاته. وهو ما يتحقق بالفعل، فيقلع الأب عن الإدمان، ويلتحق بمنظمة مدمني الكحول، ويستعيد عمله، وتعود العلاقة بين الأب والابن إلى مجراها الطبيعي. وهكذا، نكون إزاء شخصيتين اثنتين أخنت عليهما مصيبة موت الأم / الزوجة، ففرّقت بينهما إلى حين، وأحسن إليهما القدر، فجمعهما من جديد. وبذلك، يصلح القدر ما أفسد الإنسان.
سقوط العجوز
يشكّل النباح الحزين والخائف والوحيد الذي يسمعه تشارلي، في نيسان 2013، في طريق العودة إلى المنزل، والصادر عن البيت المريب عند زاوية باين وسيكامو، نقطة انطلاق أخرى لسلسلة من الأحداث، الواقعية والسحرية، يكون تشارلي محورها، فيهرع إلى مصدر الصوت ليجد أن صاحب المنزل العجوز هوارد بوديتش، المقيم فيه وحيداً منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، قد سقط عن السلّم وكسر رجله، وأن النباح الصادر عن كلبته العجوز رادار هو طلب استغاثة. يبادر إلى الاتصال بالإسعاف، ويسهم إلى جانب الكلبة في إنقاذه من موت محقّق. وهنا تحين فرصته للوفاء بما تعهّد به؛ فيهتم بالكلبة في غياب صاحبها، ويدأب على زيارته في المستشفى، ويسهر على رعايته بعد خروجه منها. ويحرص على الاهتمام بالمنزل، مما يضيف إلى عبء دراسته الثانوية أعباء أخرى، لا يتوانى عن النهوض بها تنفيذاً لتعهّده، وهو لمّا يتجاوز السابعة عشرة من العمر بعد.
هذه التداعيات تجد صداها في نفس الرجل العجوز، فيتعهّده بأبوّة من نوع آخر، ويوصي له بكل ما يملك، ويفتح له الباب إلى عالم سحري سبق له أن ولجه ذات يوم، وعاد منه بكمية من الذهب. وهكذا، يترتّب على برّ تشارلي بقسمه عودة العلاقة مع الأب البيولوجي إلى طبيعتها وافتخار الأخير بابنه وإنجازاته الإنسانية، من جهة، والحصول على ثروة طائلة من الأب الروحي الذي أسهم في إنقاذه من الموت والتعرّف إلى عالم غريب أسهم في إعادة الأمور فيه إلى نصابها، من جهة ثانية. إذاً ينخرط في الأحداث في العالم الواقعي، الأب البيولوجي جورج ريد، الأب الرواحي هوارد بوديتش، الكلبة رادار، والابن تشارلي الذي يلعب دوراً محورياًّ في العالمين، الواقعي والسحري، تتظهّر في الأول منهما صفاته الإنسانية، وتتظهّر في الثاني مهاراته القيادية.
عالم سحري
في العالم السحري، يكتشف تشارلي ذات يوم البئر العميقة في مستودع المنزل، فتثير فضوله، ويعلم من صاحب المنزل أنها تؤدي إلى العالم الآخر الذي "يمكن اختراقه ببساطة عن طريق نزول مئة وخمس وثمانين درجة حجرية، وعبور دهليز طوله أقل من ميل" (ص 175). وهو ما يفعله تشارلي مصطحباً معه الكلبة العجوز إلى الساعة الشمسية العملاقة في ذلك العالم الكفيلة بإعادتها إلى شبابها، تنفيذاً لعهد قطعه لبوتيش، ويصادف في فعلته الكثير من الأهوال، ويحقّق الكبير من الإنجازات، ويعود إلى العالم الأرضي وقد وفى بما تعهّد به.
تجري الأحداث في منطقة تيس إبيس لا سيّما مدينة ليليمار، وهما اسمان روائيان يطلقهما كينغ على العالم السحري في الرواية. وتتمظهر السحرية في المكان والزمان والشخوص والأحداث؛ ففي هذا العالم سماء تخلو من النجوم، وقمران يطارد أحدهما الآخر. وفيه ساعة شمسية عملاقة يمكنها أن تعيد الزمن إلى الوراء. وفيه طغمة حاكمة استولت على الحكم بانقلاب وعمدت إلى تطهير العائلة المالكة بواسطة أحد أفرادها الذي تحرّكه قوى شريرة. وفيه من تبقّى من أفراد العائلة ممّن أدركتهم لعنتها ففقد كلٌّ منهم إحدى حواسه. وفيه جنود الليل الموتى الأحياء من ذوي الهالات الزرقاء. وفيه الوباء الرمادي الذي يجتاح الناس ويحيل وجوههم إلى قطع لحم. وفيه غوغماغوغ رمز الشر النائم في البئر المظلمة، الذي يعادل الأسلحة النووية في العالم الواقعي ويشكل خروجه من البئر تهديداً بفناء البشرية. وفيه حارسة القصر العملاقة هانا البشعة التي تغطي الدمامل وجهها. وفيه قاتل الرحلة إيلدن من العائلة الحاكمة الذي يشكل واجهة لغوغماغوغ الشرير وينفّذ تعليماته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا العالم الغرائبي المرعب، يكون على تشارلي أن يقوم بمهمته مدعوماً بمن تبقّى من العائلة الحاكمة وبالرماديين، حتى إذا ما نجح في تنفيذها وأعاد الكلبة رادار إلى سابق عهدها من الصحة والشباب، يتمّ القبض عليه، ويُزَجّ به في سجن ديب مالين تحت القصر، فيعيش ما يتعرّض له السجناء من انتهاكات، وكيفية إجبارهم على القتال حتى الموت ترفيهاً عن الحاكم وحاشيته. وفي غمرة هذه الأحداث المرعبة، يرى أفراد العائلة المعزولة والسجناء في تشارلي الأمير المنقذ المنتظر لشبه بينه وبين أمير الحكاية، فيقوم بقيادة عملية تهريبهم من السجن بمساعدة بيرسي أحد العاملين فيه، والصرصور الأحمر الذي أنقذه ذات يوم من القزم الشرير بيركين، وأفراد العائلة، والرماديين. ويتمكّن، بهذه المساعدة المتعددة الأطراف، من الهرب والقضاء على مغتصبي السلطة وأدواتهم، وإعادة الأميرة الجميلة ليا إلى عرش العائلة، وعودة الأمور إلى طبيعتها، فتزول اللعنة، وينحسر الوباء الرمادي، حتى إذا ما أنجز ذلك كلّه، يعود إلى عالمه الأرضي ليستأنف حياته مع والده ويتابع دراسته الجامعية. هذا المخاض العسير يحفل بالكثير من الغرائب والعجائب ومحطّات الرعب. ويكرّس موقع ستيفن كينغ المتقدم على خريطة روايتي الرعب والواقعية السحرية.
في "قصة خرافية" ثمة تجاور للواقع والسحر والرعب، وتفاعل بين الأنماط الروائية الثلاثة في الحيّز الروائي نفسه. وهو تفاعل ينجلي، في نهاية المطاف، عن انتصار الواقع على السحر، والعقل على الخرافة، والخير على الشر. ويجدّد الرهان على قدرة الإنسان على التحكم بمقاليد الأمور، رغم التح الكثيرة التي تعترض سبيله.