غالباً ما يكون التقدم في مجال العلوم دورياً. لكن بين الحين والآخر، يطرأ اكتشاف عَرَضي جديد وغير متوقع تماماً يكون في المعتاد ثانوياً بالنسبة إلى الموضوع الرئيس للبحث. هذه الاكتشافات السارة هي قفزة إلى الأمام تساعدنا على تجاوز وتيرة التقدم التدريجي المعتاد الخاصة بنا. فهي قد تقطع أو تعرقل مسار مجال بحثي على نحو كامل. في العام 2003، اكتمل مشروع الجينوم البشري الذي كان نتاج 13 عاماً من المجهود الدولي لتحديد تسلسل كامل للحمض النووي الريبوي والتعرف على جميع الجينات الخاصة بنا. وكان معهد ويلكام سانغر، بالقرب من كامبريدج، هو المؤسسة البريطانية الوحيدة المنخرطة في ذلك المشروع، مستكملاً فك الثلث المتبقي من الجينوم. وعلى الرغم من أن العديد من التصريحات التي أدلي بها عند إطلاق المشروع، لم تبلغ أهدافها بَعد إلى اليوم، لا شك في أن فك شيفرة الجينوم البشري كان إنجازاً تكنولوجياً يغيّر قواعد اللعبة في العلوم، على قدر التغيير الذي أتت به اكتشافات مثل اختراع الطباعة والميكروسكوب أو المجهر في القرون السابقة. ومثلها مثل التقنيات الأخرى المزعزعة، فإن تسلسل الجينوم أدى إلى نتائج أخرى غير متوقعة تماماً. تشظي الكروموسوم قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان السرطان هو مرض جيني. وفي عملية انشطار الخلايا قد يقع خلل وطفرات في الحمض النووي الريبوي، فتقوم الخلايا السليمة بتكوين أورام خبيثة قد تودي بنا. وفي الوقت الحالي، يفك الباحثون شيفرة جينوم كثير من الأورام، ويغيّرون فهمنا للسرطان وماهيته. توصل بيتر كامبل، وهو مدير برنامج معهد سانغر للسرطان، إلى اكتشافات قليلة مفاجئة في عمله في مجال أورام الكلى، لكن أبرزها كان اكتشاف آلية تسبب السرطان جديدة كلياً. فقد وجد كامبل وزملاؤه أن الكروموسوم قد ينفجر لأسباب غير معروفة، ويتشظى إلى مئات القطع.
كانت النتيجة هذه مفاجئة لدرجة جعلت كامبل يفترض أن السبب كان مشكلة في البيانات. "في معظم هذه الحالات، تقريباً، يتضح في النهاية أنها بسبب شوائب في البيانات ناجمة عن إفساد شخص شيئاً على طول الخط. وغالباً ما نبدأ بالقول: يجب أن نكتشف أين وقع الخطأ"، يقول كامبل موضحاً. لكن في هذه الحالة، لم نعثر على أي خطأ ظاهر. "ميزة العمل مع البيانات الجينية هي وضوحها، وعملها بشكل رقمي على خلاف الخلايا مثلاً التي قد يختلف شكلها من يوم إلى آخر". وسمح كامبل لنفسه بالشعور بالحماسة فقط بعدما استطاع التثبت من الاكتشاف. وفي هذا الصدد، يقول إن البحث العلمي هو في العادة مشروع طويل الأمد: "يمكنك أن تصطدم طوال أسابيع بمشكلات لا يمكنك حلها، ثم فجأة ومن دون مقدمات تظهر لك نتائج غير متوقعة". وتوقع كامبل رداً عنيفاً في أوساط مجال البحث نفسه. لكن بحثه لقي استقبالاً إيجابياً جداً، وتثبّت الآخرون من النتائج، ورصدوا التغييرات التي طرأت على الخلايا في المختبر. ويعتقد الباحثون أن الآلية نفسها قد تشعل فتيلَ أنواع مختلفة من السرطان. فهل غيّرت النتائج طريقة تفكير الناس؟ يقول بيتر كامبل: "نعم، أعتقد ذلك. هذا أثر أفضل الأبحاث، لكن مثل هذه الأبحاث قليل في مسيرتنا العملية. حالفنا الحظ، وكان في متناولنا في وقت مبكر التكنولوجيا الجينية الحديثة، التي أتاحت لنا اكتشاف هذه الأنماط قبل أن يكتشفها غيرنا".
"كروموسوم واي" أثبت في النهاية أنه ليس عديم الفائدة
كان طبيب أمراض الدم جورج فاسيليو وفريقه يبحثون عن أهداف جديدة لعقاقير علاج اللوكيميا أو سرطان الدم. أحد هذه الأهداف، كان جيناً كابتاً للسرطان يسمى "يو تي إكس" يستقر فوق "كروموسوم إكس". كجزء من أبحاثهم، كانوا يستخدمون الفئران التي لديها نسخ بها عيوب من جين "يو تي إكس" لتحديد متى تصاب بالسرطان. أثناء هذه التجارب، قام فاسيليو بتعديل جين آخر غير فعال مستقر فوق "كروموسوم واي" يسمى "يو تي واي".
إلى جانب دوره في تحديد النوع، كان يُعتقد أن "كروموسوم واي" هو كروموسوم زائد لا وظيفة له. في الواقع، تطور فأر التجارب وفقد "كروموسوم واي" الخاص به تماماً. اعتقد الباحثون أن الأمر نفسه قد يحدث في النهاية مع البشر. كان ذلك إلى أن استطاع فريق فاسيليو اكتشاف أن جين "يو تي واي" له فائدة ووظيفة لدى البشر. أما ما هو أكثر من ذلك، فهو اكتشافهم أنه يلعب دوراً بارزاً في كبت السرطان. "كان ذلك شيئاً مثيراً جداً"، يقول فاسيليو. "في البداية كنا في منتهى السعادة لإيجاد استخدام محتمل آخر لعلاج اللوكيميا. وفي لحظة تجلٍ أدركنا أن لـ"كروموسوم واي" وظيفة في الواقع! "كروموسوم واي" ليس عديم الفائدة في النهاية". الجينات البكتيرية التي اعتقدنا أن لا تأثير لها تؤثر فعلاً في فاعلية اللقاحات تولى جوكا كوراندر، الخبير في الإحصاء البيولوجي استخدام النهج الاحصائي في قراءة البيانات البيولوجية وتحليلها في معهد سانغر وجامعة أوسلو، ومعه نيكولاس كراوتشر، المتخصص في علم الوراثة البكتيري في امبريال كوليدج اللندنية، دراسة علم الجينوم الخاص بالعدوى البكتيرية. ولجأ كوراندر وكراوتشر إلى المحاكاة الحاسوبية لسلالات متعددة لمعرفة السبب وراء التغيرات غير المتوقعة في التجمعات البكتيرية بعد لقاحات مضادة لها. وأجريا مقارنة بين الجينوم الخاص ببكتيريا المكورات الرئوية، وهي بكتيريا تسبب أمراضاً خطيرة مثل الالتهاب الرئوي، وتسمم الدم والتهاب السحايا. وقد تضمن ذلك جمع البكتيريا من 4 تجمعات بشرية مختلفة حول العالم، طُعّم 3 منها ضد البكتيريا. لدى كل سلالات بكتيريا العقدية الرئوية المسببة للالتهاب الرئوي على نحو التقريب، ألفا جين. وهناك تشابه كبير بين ثلاثة أرباع هذه الجينات في هذه السلالات. أما "الجينات الثانوية" الأخرى فثمة اختلافات كبيرة بينها. وتستطيع سلالات البكتيريا أن تبدل أي جين بواسطة عملية تسمى نقل الجينات الأفقي. النموذج أظهر أن مستوى الجينات الثانوية كان متشابهاً جداً في التجمعات البكتيرية قبل اللقاح وبعده، على الرغم من أن أنواع السلالات الموجودة تغيرت بشكل جذري. بمعنى آخر، يمكن القول إن السلالات التي ظهرت بعد اللقاح كانت تحتوى على مجموعات متشابهة من الجينات الثانوية مقارنةً بالسلالات التي أُستُبعدت بواسطة اللقاحات. بالتالي، هي بعيدة كل البعد عن كونها عديمة الفائدة، ويبدو أن الجينات الثانوية تلعب دوراً في استجابة التجمعات البكتيرية للقاحات. والأهم هو اكتشاف أن بعض هذه الجينات الثانوية، التي عادت إلى مستوياتها السابقة، تلعب دوراً في مقاومة المضادات الحيوية. وقال كوراندر: "كنا قد نشرنا للتو ورقة بحثية تقرّ أن الجينات الثانوية محادية... لذا، أدهشتني النتائج كثيراً".
وهذا العمل يرسي أسس أبحاث أخرى ستساعد في توقع أنواع السلالات الأسرع انتشاراً بعد تغيير الطريقة التي نعالج بها الأمراض البكتيرية. وأضاف كوراندر: "من دون القدرة على تحليل الجينوم تحليلاً عالي الدقة والوضوح، لم نكن سنرى أبداً مثل هذه النتائج. لم نكن حتى سنعرف بوجود مثل هذا التنوع الكبير في الجينوم، ناهيك بالدور المهم الذي تلعبه الجينات الثانوية". في وقت أول، نشرت هذه المقالة مؤسسة ويلكام على موقع موزاييك، ونشرته إندنبندنت بترخيص من كرييتيف كومونز. وأنشأت مؤسسة ويلكم، وهي ناشر موقع موزاييك، معهد ويلكام سانغر العام 1993، وهي منذ ذلك الحين توفر التمويل له. واحتفل معهد سانجغر بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين لتأسيسه في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2018. نيكولاس كرواتشر حائز منحة هنري ديل التي تمولها مؤسسة ويلكم ومعهد رويال سوسايتي [للبحوث الأكاديمية]. ويتلقى بيتر كامبل كذلك التمويل من مؤسسة ويلكم من طريق برنامج زمالة للبحوث العليا في العلوم السريرية.
© The Independent