Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ضل الخريجون في مصر طريق سوق العمل؟

معاناة مع الرفض الوظيفي بعد سنوات الدراسة ومتخصصون يطالبون بتغيير نمط التعليم في البلاد

1.4 مليون خريج في مصر سنوياً بين التعليم العالي والمتوسط (أ ف ب)

ملخص

السوق في استغناء تام عن آلاف من الخريجين ممن تستقر بهم الحال متعطلين أو حتى في وظائف الصدفة

رفض ورفض تلو آخر، خيبات أمل كالصواعق، أصابت الشاب العشريني خريج جامعة دمياط، مصطفى خليل، عقب كل مقابلة أجراها في مهمة البحث عن وظيفة، ولسان حاله وموضع دهشته "إن لم تكن سوق العمل في مصر تفتش سوى عن المؤهلين وذوي الخبرات فأين يذهب المتخرجون، ومن يمنح هؤلاء إذا الوقت والتجربة والصبر لاكتساب المهارات؟".

قبل أكثر من خمس سنوات، سير مصطفى خليل غير مخير نحو الالتحاق بجامعة دمياط، كلية التربية، لا لرغبة في نفسه أو تخصص دراسي يستهويه، أو هدف وظيفي ينشده مستقبلاً، اللهم إلا مجموع متواضع لدى اجتيازه شهادة الثانوية العامة، وتنسيق جامعي مجحف كما يقول.

لأربع سنوات درس الشاب العشريني، كما يقول لـ"اندبندنت عربية"، علوم الحاسب، لكن أمام عدم حاجة وزارة التربية والتعليم الملحة للتخصص كبقية تخصصات العلوم الأخرى، غاب طلب الوزارة لهذا التخصص عن غالبية مسابقات التوظيف المطروحة من جانبها ليظل وعديد من أقرانه يبحثون عن أي مجال آخر للعمل به.

آلاف في قوائم الانتظار

مثله، خريجة كلية التجارة جامعة المنصورة، منة أشرف التي رفضت في مقابلة قبل أسابيع بإحدى شركات الاتصالات لأسباب تجهلها. ورأت في "الوساطة" الداعم الأمثل والسبيل الأقصر، لنيل الوظيفة، وهي المتخرجة حديثاً من بين عشرات الآلاف التي تخرجهم كليات ومعاهد التجارة في مصر وأمام طلب محدود على شغل الوظائف من جانب القطاع الحكومي والخاص.

تقول الفتاة العشرينية لـ"اندبندنت عربية"، إن الأمور لا تمضي هكذا، فهناك الآلاف من حديثي التخرج ينتظرون، ولا خبرات بطبيعة الحال، في وقت تأتي العروض التوظيفية الأكبر من جانب البنوك والشركات لأصحاب الخبرات السابقة في المجال، وهو أمر يستحيل أن يتوفر لخريج.


في مصر، يتخرج كل عام قرابة 700 ألف خريج من الجامعات والكليات والمعاهد الحكومية والخاصة، وبحسب بيانات النشرة السنوية لخريجي التعليم العالي الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2021، فإن البلاد شهدت تخرج 667 ألف خريج العام قبل الماضي، مقابل 643 ألف خريج عام 2020 بنمو بلغ 3.7 في المئة، يضاف إليهم 750 ألف خريج آخر من التعليم الفني، بحسب تقديرات صندوق تطوير التعليم بمجلس الوزراء، الذي أشار إلى أن عدد خريجي التعليم الفني في مصر خلال آخر ثلاث سنوات، وصل إلى أكثر من 2.5 مليون طالب.

وعلى ما يبدو فإن مخرجات التعليم في البلاد تعزف لحناً فيما سوق العمل تطرب لآخر، وكل منهما يغني على ليلاه، فأمام التطور التكنولوجي أصبحت تطلعات سوق العمل تفوق سقف طموحات مناهج التعليم النظرية الجامدة، حتى إن كل منهما ضل طريقه إلى الآخر في كثير من الأحيان، وهو ما يجعل السوق في استغناء تام عن آلاف من الخريجين، ممن تستقر بهم الحال متعطلين أو حتى في وظائف الصدفة.

المتقدمون للوظائف غير مؤهلين

تقرير حديث صادر عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية يلفت الانتباه إلى عديد التغيرات التي طرأت على سوق العمل في مصر، وتستدعي المعالجة، من قبيل ارتفاع العرض من جانب الخريجين مقابل طلب أقل على جانب التشغيل، مع وجود بطالة هيكلية مزمنة بسبب عدم توافق العرض والطلب، إلى جانب أن الغالبية العظمى من المتقدمين للوظائف غير مؤهلين بما يكفي (90 في المئة منهم).

ويقر التقرير بمواجهة المبتدئين في مصر، صعوبة الحصول على الوظائف وتأمين الدخل، لانخفاض المهارة وضعف الخبرة، مع تراجع الطلب على حديثي التخرج ومحدودي الخبرة أكثر من غيرهم، وأن لكل وظيفة في مجال المالية والمحاسبة على سبيل المثال، هناك 126 متقدماً، أربعة في المئة فقط مؤهلين، وهو ما يفسر ارتفاع معدلات العمر الحر، كما يذكر تقرير المركز.

يشير التقرير إلى وجود بيانات تفصيلية عن الخريجين في مصر، بينما لا يوجد في المقابل بيانات كافية عن متطلبات الوظائف، ويرصد تراجع إنتاج الوظائف في مصر بشكل متواصل منذ الربع الثاني 2022، وتحديداً في قطاعات الصناعة، التسويق والمبيعات، تطوير البرمجيات، خدمة العملاء، والنقل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في أبريل (نيسان) 2019، قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، خلال احتفالية عيد العمال "يجب أن نجهز أبناءنا وبناتنا بشكل صحيح لسوق العمل، خلال السنوات المقبلة... لا يجوز أن يكون لدينا كل عام 100 ألف خريج من كلية الحقوق ومثلهم من كلية التجارة"، وفي مايو (أيار) من العام السابق له، قال في معرض حديثه عن الظاهرة منتقداً إياها، إن " كلية الآداب بها 100 ألف طالب، ومئات الآلاف من مختلف التخصصات".

وبحسب ما يورد تقرير المركز، فوفقاً لمسح أجراه البنك الدولي يسعى الشباب المصري للسفر إلى الخارج لتعزيز الدخل ورفع مستوى المعيشة والأهم اكتساب الخبرات وتعميق المهارات، فالعائدون من الخارج يحققون دخلاً أعلى بـ25 في المئة مقارنة بنظرائهم ممن لم يكتسبوا خبرات عالمية.

المشكلة في غياب الخبرة

نتائج تقرير المركز البحثي المستقل، تتوافق تقريباً مع دراستين سابقتين صادرتين عن معهد التخطيط القومي، الذراع البحثية لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية في البلاد، أشارت الأولى المعنونة بــ"البطالة بين المتعلمين في مصر.. نمط العلاقة بين التعليم وسوق العمل" والصادرة عام 2021 إلى "عدم وجود الخبرة الكافية لدى المتقدمين لشغل الوظيفة هي المشكلة الأكبر عند طلب عمالة"، في حين ذهبت الثانية المعنونة بـ"تحليل هيكل القوى العاملة في الاقتصاد المصري في ظل الثورة الصناعية الرابعة" والصادرة العام الماضي، إلى أن البلاد تعاني "البطالة الهيكلية التي ترتبط بعدم المواءمة بين مخرجات الأنظمة التعليمية والتدريبية والمهارات المطلوبة في سوق العمل، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة الهيكلية، التي تتركز بالدرجة الأولى بين الحاصلين على مؤهل جامعي فأعلى والحاصلين على مؤهل فوق المتوسط".

وتشير دراسة "المعهد" الأخيرة إلى أن ظاهرة عدم التوافق بين مخرجات العملية التعليمية وحاجات سوق العمل ظاهرة عامة تزداد خطورة واتساعاً، بخاصة مع التغيرات الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد الوطني".

وفرة المهندسين وعجز الأطباء

في مصر، تجدد نقابة المهندسين، عاماً تلو آخر دعوتها وزارة التعليم العالي، إلى تخفيض أعداد المقبولين في الكليات والمعاهد الهندسية، إلى 25 ألف طالب لمواجهة أزمة المعروض الهائل من الخريجين، بعد أن تسبب انتشار التعليم الهندسي الحكومي والخاص والأهلي إلى رفع أعداد الخريجين إلى 40 ألفاً كل عام، ما يرفع تمثيل المهندسين إلى تسعة لكل 1000 مواطن، بينما لا ينبغي أن يتجاوز العدد سنوياً حاجز 22 ألفاً.

لكن خلافاً لنقابة المهندسين التي تشكو الوفرة، فإن لدى وزارة الصحة المصرية في المقابل، عجزاً في الأطباء بعد هجرة 60 في المئة من الخريجين للعمل خارج البلاد، في وقت تخرج كليات الطب الحكومية والخاصة كل عام تسعة آلاف طبيب، وهو ما يجعل معدل الأطباء في مصر (8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن) أقل من متوسطه العالمي (23 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن).

المتخصصون قالوا لـ"اندبندنت عربية" إن سوق العمل في مصر تحتاج إلى مهارات ومتطلبات قد لا تتوفر في كثير من الأحيان في خريجي المؤسسات التعليمية على اختلاف تنوعها، فلا تزال بعض الكليات تخرج كل عام بضعة آلاف من الخريجين من دون حاجة فعلية من جانب السوق، في حين يظل العجز قائماً في وظائف أخرى تفتش عمن يشغلها.

التعليم من أجل التوظيف

عضو الجمعية المصرية للإحصاء والتشريع والاقتصاد محمد أنيس، قال إن العملية التعليمية لا تتبع مبدأ التعليم من أجل التوظيف، وتخريج فرد لديه متطلبات التوظيف، إضافة إلى مواصلة المؤسسات التعليمية تخريج أعداد لا يحتاج إليها سوق العمل في مصر.

يضرب أنيس المثل بألمانيا التي يجمعها مع مصر علاقة التضاد، فلدى الأولى 70 في المئة من الخريجين هم من العمالة الفنية المدربة والمؤهلة، في حين أن هيكل الخريجين في مصر على النقيض من ذلك، 70 في المئة هم من خريجي مؤسساتها التعليمية من أصحاب التعليم العالي، المتخرجين من كليات التجارة والحقوق والآداب التي لا تحتاج إليها سوق العمل على هذا النحو، بينما 30 في المئة من خريجي المدارس الفنية.


الأمر من منظور محمد أنيس، في حاجة إلى تغيير في الثقافة المجتمعية يؤدي إلى تغيير في هيكل مخرجات العملية التعليمية، وتغيير النظرة للتعليم الفني باعتباره تعليماً غير لائق، على رغم أن دخل التعليم الفني أعلى من التعليم العالي في كثير من الحالات.

يلفت المتخصص الاقتصادي إلى ضرورة تغيير مخرجات التعليم العالي التقليدي إلى التعليم الفني المنتج والمناسب لخطط التصنيع المصرية وفق أحدث الأساليب التعليمية، الأمر الذي يضمن وجود عمالة فنية مدربة وبدخل أعلى وقيمة مضافة لسوق العمل، بالتالي يغير في تقييم مصر بمؤشر كفاءة العمالة الفنية وهو أحد المؤشرات التي يراجعها أي مستثمر خارجي قبل اتخاذ قرار دخول السوق وضخ استثمارات.

فاتورة مكلفة

في كثير من الأحيان، قد يضطر المستثمر في مصر لتحمل عبء تدريب وتأهيل العمالة، كما يقول المتخصص الاقتصادي، على رغم أن توفير هذا الأمر يعد إحدى أدوات وآليات جذب الاستثمار الأجنبي المباشر المستهدف للتصدير، وهو ما يستلزم معه العمل على تخريج عمالة فنية ومؤهلة، مع الابتعاد عن التعليم العالي التقليدي معدوم الفرص العمل، فالسوق ليست في حاجة إلى هذه الأعداد الغفيرة.

واستوعبت المشروعات القومية الكبرى في البلاد، بحسب بيانات رسمية، خمسة ملايين عامل مصري، للعمل في مجالات التشييد والبناء بالعاصمة الإدارية والمدن الجديدة والطرق، ومشروع المليون ونصف المليون فدان، إلى جانب مشروعات الاستزراع السمكي.

تراجع في البطالة

تظهر البيانات الرسمية تراجعاً طفيفاً في البطالة المسجلة رسمياً في البلاد بنسبة 7.1 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي، بحسب "جهاز الإحصاء" متراجعة بنسبة 0.1 في المئة عن الربع السابق له.

وبحسب البيانات، تقدر قوة العمل في الربع الأول بـ30.571 مليون فرد، ويبلغ تعداد المتعطلين في أول ثلاثة أشهر من العام 2.17 مليون متعطل يشكلون 7.1 في المئة من إجمالي قوة العمل، بينما بلغ عـدد المشتغلين 28.400 مليون فرد بينما كان 28.159 مليون فرد في الربع السابق بنسبة ارتفاع 0.9 في المئة، وبلغت نسبة المتعطلين في الفئة العمرية حتى 29 سنة في الربع الأول 60.3 في المئة، ويبلغ إجمالي المتعطلين من حملة المؤهلات (الشهادات المتوسطة وفوق المتوسطة والجامعية وما فوقها) 81.7 في المئة.


أثيرت القضية في مارس (آذار) الماضي، تحت قبة البرلمان المصري. وقال نواب من بينهم عضو المجلس، أيمن محسب، إنه "لا يوجد تخطيط واضح بين التعليم العالي وسوق العمل رغم أن دور وزارة التعليم العالي المنوط به هو سد الفجوة بين الخريجين وسوق العمل"، مشيراً في إحاطته إلى وجود تخصصات متكررة لا تحتاج إليها السوق، ومناهج لم يتم تطويرها، وهو ما أضاف إليه زميله النائب مجاهد نصار، حينما قال إن "الجامعات المصرية أصبحت في تصنيف منخفض وفقاً لمؤشر الجامعات في العالم، مع عدم وجود تنسيق بين وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، وفروق في العملية التعليمية بين الجامعات الخاصة التي تحوي بعض المصانع داخلها، والجامعات الحكومية".

آفة قديمة حديثة

من جانبه، يتفق عضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة، منجي بدر، مع النتائج الواردة في تقرير المركز المصري للدراسات الاقتصادية في جانب ضعف التسويق للشباب المصري. ويقول لـ"اندبندنت عربية" إنها آفة مصر قديماً وحديثاً، ويعتقد أن علاج هذا الضعف يمكن أن يأتي عبر تكليف مكاتب التمثيل التجاري بسفارات مصر بالخارج بالتسويق لهذا الشباب بعد تأهيله.

ويشير منجي بدر الذي كان في الماضي وزيراً مفوضاً تجارياً لبلاده لدى الهند، إلى أن الدولة تعمل على تجهيز نخبة من الشباب بشكل علمي وعملي، وأن اهتمام المؤسسات التعليمية بتطوير المناهج في الفترة الأخيرة صار ملموساً على نحو يعالج أي اختلالات سابقة.

وبينما تطالب المدير التنفيذي للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، عبلة عبداللطيف، بضرورة تعاون كل الجهات لتعظيم الاستفادة من الطلب المتزايد على العمل الحر عالمياً، تؤكد أهمية الدور الذي تلعبه وزارة الاتصالات المصرية في توفير برامج التدريب والتأهيل للشباب على التخصصات التكنولوجية المختلفة، ولكن هناك حاجة إلى لتعاون واستكمال هذه الجهود لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذه السوق.

الدراسات في المجال، ومنها تلك الصادرة عن معهد التخطيط القومي، تدعو إلى أهمية ربط مخرجات المنظومة التعليمية في البلاد بسوق العمل وحاجاته، مع أهمية التنبؤ بطلب وعرض العمالة في السوق المصرية، لتحقيق التوافق، ومواكبة التطورات والتغيرات التي تحدث عالمياً ومحلياً.