ملخص
استلهم المبدعون شخصية سقراط في أعمال فنية تنوعت بين الرواية والفلسفة والأوبرا
من المؤكد أن أفلاطون حين جعل من أستاذه ومثله الأعلى سقراط الشخصية الأساسية في معظم حواراته التي حفظها لنا تاريخ الفكر، وما زالت تبدو حتى اليوم طازجة قوية معبرة وكأنها كتبت في الأمس القريب، كما تبدو، في أفكارها وجرأتها، معاصرة وكأنها من نتاجات أحلى العصور للفكر الحر والتنويري في القرنين الثامن والتاسع عشر، لم يكن يدري أن كثراً من بعده سيسيرون على خطاه متخذين من سقراط نفسه بطلاً لأعمال إبداعية أخرى، منها ما هو مسرحي وأوبرالي، ومنها ما هو تشكيلي وروائي، وما إلى ذلك.
والحال أن هؤلاء المبدعين كانوا في غالب الأحيان يتخذون سقراط شخصية أساسية في نتاجاتهم دون مواربة، فيما كان آخرون يواربون بعض الشيء. غير أن ثمة منهم من جعل الشخصية السقراطية مجرد خلفية للعمل بهدف الوصول إلى غايات مختلفة. وحتى في مثل هذه الحال كان من الواضح أن الاعتماد هنا أساساً إنما هو على شعبية سقراط ومكانته أكثر مما هو حضوره المباشر.
ومن هذا الصنف الأخير الموسيقي الإيطالي باييزييلو، الذي جاء سقراط عنده مستعاراً، أي قناعاً يختفي وراءه شخص آخر يحاول أن يستفيد من مكانة سقراط وأفكاره لإيجاد مكانة له في المجتمع والفكر. كما في قلوب النساء.
ولعل في إمكان هذه الاستعارة أن تقول، أقل ما تقول، مكانة سقراط التي تجعله في خلفية عمل أوبرالي شعبي فكاهي ظهر في خريف عام 1775 للمرة الأولى، بـ"تياترو نوفو" في نابولي، الذي كان يعد من أكثر المسارح شعبية يرتاده عامة الناس والبسطاء في تلك المدينة الإيطالية الشعبية بدورها.
الفلسفة على الطريقة الشعبية
ما نتحدث عنه هنا هو أوبرا "سقراط الوهمي" التي لحنها باييزييلو، عن نص غنائي كتبه غالياني ولورنزي، على شكل أوبرا هزلية، من النوع الذي كان سائداً تحت اسم كوميديا ديل آرتي، لكنه مطور بعض الشيء، بيد أن التطوير هنا لم يكن يعني نخبوية العمل، بل رقيه حتى في إطاره الشعبي، حيث إن الملحن كان قد اشتهر بأعمال أخرى له تبدت أكثر شعبية لاحقاً من "سقراط الوهمي"، وهي "نانا" و"باياس"، وبخاصة "حلاق إشبيلية" التي أتت سباقة على أوبرا روسيني بالعنوان والموضوع نفسيهما، علماً أن أوبرا روسيني سيكون من حظها أن تخلد، على حساب أوبرا باييزييلو.
بالطبع لسنا هنا في مجال المقارنة بين إنتاج الموسيقيين الإيطاليين الكبيرين، لكننا في صدد الحديث عن الأوبرا المنطلقة من مكانة سقراط الفكرية والاجتماعية لتصب في عمل كوميدي شعبي.
ومنذ البداية، لا بد من الإشارة إلى أن سقراط لا وجود له على الخشبة هنا. فهو كما يشير العنوان سقراط وهمي. والحكاية هي أن سيداً ثرياً من الأعيان يدعى دون تامارو اكتشف ذات يوم توجهات فلسفية لديه، إذ ولع بالفلسفة اليونانية، وراح يقرأ نتاجاتها ويقارن فيما بينها، حتى اللحظة التي دخل فيها في رأسه أنه صار سقراط الثاني (المعلم الثاني إنما على الطريقة الهزلية الإيطالية)، وهو قبل أن يقنع المحيطين به بهذا أقنع نفسه به في المقام الأول، معتمداً على قوته ومكانته.
جاهل يعلن عن جهله
وكان من الطبيعي للدون أن يبدأ سقراطيته بالإعلان عن جهله. لقد فهم صاحبنا من حياة سقراط أن هذا الأخير كان جاهلاً حقاً، وهكذا أعلن جهله هو الآخر مدعياً في كل لحظة أنه لا يعرف شيئاً عما يطرحه من أسئلة، وأنه يجدر به أن يستنبط المعرفة من الآخرين، على أن يستنبطوا هم معرفتهم من طرحهم أسئلة عليه. وهنا، في هذا الصدد تكون زوجته الشرسة، كصورة حديثة من الصورة المعهودة عن زوجة المعلم الأول، سقراط، له بالمرصاد، فتسخر منه وتعامله بقدر كبير من القسوة، فيما هو يتحمل تصرفاتها بحكمة وتعقل فلسفيين، مما يزيد من قناعته بأنه بات حقاً وريث سقراط في العصور الحديثة، ويزيد بالتالي من قناعة الزوجة بأن زوجها جُنّ حقاً.
العثور على أفلاطون معاصر
وهنا كي تزداد الحكاية تعقيداً، يجد "سقراط" ذات لحظة أنه بات في حاجة إلى أن يكون ثمة "أفلاطون" معاصر إلى جانبه. وهو يكتشف "أفلاطونه" بالفعل لدى حلاقه أنطونيو، فيقنعه بهذا، ويروح الاثنان يتبادلان الحوارات الفلسفية، وينسجمان مع بعضهما بعضاً إلى درجة أن يقرر دون تامارو أن يعطي يد ابنة إميليا إلى الحلاق كي يصير صهره والشخص المقرب إليه أكثر من أي شخص آخر. فسقراط وأفلاطون لا ينبغي أن يفترقا من الآن وصاعداً، وليس ثمة ما هو أنسب من هذه المصاهرة لإبقائهما قريبين متحاورين متوافقين، ولكن لأن المصاهرة يجب أن تكون تبادلية، لا يكون أمام دون تامارو إلا أن يبدي بدوره رغبة في الاقتران من تشيلا ابنة الحلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبهذا، إن نجحت الخطة، فكر دون تامارو، سيكون لديه امرأتان، ما يمكنه من أن ينجب مزيداً من الأولاد الأذكياء الفلاسفة، مما سيعود بالخير على وطن حين يزداد عدد فلاسفته ومفكريه. ولنفتح هلالين هنا لنذكر أن الغناء الذي يصاحب تعبير دون تامارو "السقراطي" عن فكرته هذه، يعد من أجمل ألحان هذه الأوبرا، مصحوباً بنص شعري عن مكانة الفلسفة والحكمة في بناء الأمم، يتجاوزان الطابع الهزلي للعمل، ليضحيا أشبه بنشيد في مديح الفكر.
مشروع عائلي ولكن
إذاً، هكذا يبني دون تامارو مشروعه الفكري – العائلي، وقد خيل إليه أن كل الأمور سهلة، ما عليه هو إلا أن يأمر فيطاع. غير أن الأمور لن تجري على هذا النحو، لأن الحياة في ارتباطها بالفكر ليست على السهولة التي تخيلها الدون الطيب والمحب للحكمة في تجسيده لمصلحه الكبير سقراط.
ويكمن أول الصعاب في أن إميليا ابنته، تحب الشاب هيبوليت وهي ليست مستعدة لإبداله حتى بأفلاطون نفسه لو أتى من وراء القبر، فكيف بالحلاق الآتي من وراء مقصاته وترهات أبيها؟ فما العمل: إنها ترفض الفكرة، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تحزن أباها وتزيد من جنونه جنوناً.
الأدهى من هذا أن تشيلا، ابنة الحلاق "الأفلاطوني" لا توافق بدورها على الفكرة، وقبل أي شيء لأنها مغرمة بالشاب الآخر كالاندرينو الذي يعمل خادماً لدى الدون تامارو. وهكذا تجتمع الصبيتان، والشابان العاشقان ويبدأون جميعاً بإعداد الخطط لإفشال مشروع سيد البيت دون الإساءة إليه والكشف أمامه عن جنونه.
أما العقل الذي يناط به إيجاد أنجع الحلول فهو كالاندرينو الذي يبدأ في تصور كل الحلول والمناورات الممكنة. ومن تصرفاته الأولى أنه حين يكتشف أن لدى دون تامارو شيطاناً يتباحث معه في شأن الأحداث والخطوات التالية بصورة يومية، يجعل من نفسه ذلك الشيطان وغايته أن يقنع "سقراط" بأن يترك ابنته إميليا لحبيبها هيبوليت، غير أن الدون يرفض هذا، إذ يعتبره تحطيماً مباشراً لكل مشروعه الفلسفي. فما العمل؟
ستنتهي الأمور نهاية سقراطية خالصة: سيطلب من دون تامارو أن يتجرع كأس السم على غرار ما فعله معلمه الأول قبل قرون طويلة، كي يكتمل التماثل بين حياتي المفكرين، ولكن فيما كان سقراط الحقيقي قد تجرع سماً حقيقياً، سيدس المتآمرون المعاصرون في كأس دون تامارو سائلاً منوماً قوياً وهو يعتقد أنه يتجرع السم.
كان كالاندرينو يأمل أن نوم الدون سيعطيه من الوقت ما يكفي لإخفاء حبيبته تشيلا وتمكين إميليا وهيبوليت من الهرب، لكن الذي يحدث هو أن المنوم يحدث لدى الرجل مفعولاً غير منتظر، يعيد إليه عقله وتنتهي الأمور على خير ما يرام. في زمنها حققت هذه الأوبرا نجاحاً كبيراً، لكنها نسيت إلى حد كبير بعد ذلك.
أما بالنسبة إلى ملحنها جوفاني باييزييلو (1740-1816)، فإنه كتب قبلها وبعدها عدداً كبيراً من الأعمال، من دون أن يبتعد كثيراً عن فن الأوبرا الذي كانت له الأرجحية الشعبية في ذلك الحين. ومن أعمال هذا الموسيقي اللامع، إلى ما ذكرنا، "الخادمة السيدة" و"المولينارا" و"السيدة جيراندولا" و"المهملون".