Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شاشات التواصل الاجتماعي اصطادت ماكرون بحبال تشابكاتها مع البشر

الأبعاد الاجتماعية أولى بالتركيز عليها في اضطرابات مقتل الشاب نائل

ملخص

الأبعاد الاجتماعية أولى بالتركيز عليها في اضطرابات مقتل الشاب نائل

"المسألة هي البشر لا شاشات التواصل". لم تقتبس الكلمات السابقة من أي لسان، لكنها جملة ربما دارت في أذهان كثيرين مع استماعهم إلى تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مسؤولية السوشيال ميديا عن الاضطرابات التي أعقبت مقتل الشاب الفرنسي نائل .

ولعل ذلك ما يستشف أيضاً مما صدر على لسان منبر دولي وطيد الصلة بالغرب واستراتيجياته السياسية ومشاربه الثقافية. ففي جنيف، طلبت الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان رافينا شمداساني من فرنسا معالجة مشكلات العنصرية والتمييز العنصري في صفوف قوات الأمن. وقد دعت شمداساني، "السلطات [الفرنسية] على الدوام إلى ضمان أن تحترم الشرطة لدى استخدامها القوة مبادئ المساواة والضرورة والتناسب وعدم التمييز والحذر والمساءلة، لدى تعاملها مع العناصر المسببة للعنف خلال التظاهرات".

بالطبع، ربما تدافعت جمل أخرى إلى بعض الأذهان المغرمة بتصيد التناقضات، كتلك التي تشير إلى أن الغرب درج على إدانة تصريحات مماثلة حين تصدر من أمثال فلاديمير بوتين أو شي جينبينغ أو رجب طيب أردوغان أو إبراهيم رئيسي، في سياق حوادث تتصل بتخلخل السلطة على غرار الظواهر المتنوعة المتعلقة، على التوالي، بتذمر الروس من حرب أوكرانيا، أو الاضطرابات ضد سياسة صفر كوفيد وتقييد الحريات، أو التظاهرات ضد التسلط السلطوي الفردي والتمييز الإثني والفشل الاقتصادي، أو الاحتجاجات على الإفراط في القمع حيال رفض فرض الحجاب والمناداة بتغيير النظام.

شباك خفية وقاسية

على نحو غير مفاجئ، بدا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كأنه وقع في الشباك الخفية المتلاعبة للظاهرة الهائلة التي تمثلها منصات التواصل الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة التي بات البعد الرقمي في صلب نسيجها وتفاعلاتها.

لم يكن ذلك التخبط الرئاسي مفاجئاً بمعان كثيرة. في المقابل، بدت كلمات الرئيس ماكرون بعيدة عما يتوقع من رئيس حاضرة غربية كبرى معاصرة، من تعمق في فهم السوشيال ميديا وعلاقاتها بالاضطراب الاجتماعي المتعدد الأبعاد. ولا يحمل ذلك التخبط مفاجأة بمعنى أن البحث عن الخيوط المتشابكة للعلاقات بين الوسيط الرقمي والمجتمعات المعاصرة، صار من الأشياء المكرسة والأساسية في التفكير المعاصر، خصوصاً في الغرب الذي يصنع ذلك الوسيط. وليس صعباً تذكر سيول النقاش عن تلك المتشابكات في محطات بارزة قد تمتد مثلاً من تدرب عناصر تنظيم "القاعدة" على منصات "فلايت سميوليشين" Flight Simulation، والدور الذي نسب إلى تطبيق "سكوند لايف" Second Life (الحياة الثانية) في وصول باراك أوباما كأول أفريقي أميركي إلى الرئاسة، والاستعمال الواسع والمتمرس لتنظيمي "داعش" و"القاعدة" في التجنيد وتنفيذ العمليات، وانتشار نظريات المؤامرة المختلفة، واستفادة متظاهرين مؤيدين لترمب من المنصات الرقمية لتنظيم اقتحام الكونغرس في 6 يناير 2021 والقائمة طويلة.

وعلى نحو مفارق ومغاير لتلك المسارات كلها التي عانت فرنسا بعض فصولها في عمليات إرهاب طاولت صحفها وشوارعها وبشرها، وصلت كلمات ماكرون إلى حد تقليص الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية للاضطرابات التي تلت مقتل الشاب نائل مرزوق، إلى مجرد أفعال تقليد وتماه مع ما تشاهده أعين الشباب على شاشات الموبايل، خصوصاً في أشرطة "تيك توك"، إضافة إلى نداءات التعبئة على "سناب شات" و"تويتر". وبحسب كلمات ماكرون، "نشعر أحياناً بأن بعضهم يمثل في الشارع ما يحدث في ألعاب الفيديو التي سممتهم". ألا تبدو تلك الكلمات كأنها تساوي بين اضطراب اجتماعي معاصر وعميق، وبعض الممارسات المعروفة على الوسائط الاجتماعية كالـ"مايمز" Memes (تقليد الحركات والإيماءات)، والتحديات الجسدية والنفسية المختلفة الشائعة منذ فترة على الإنترنت؟

عين إعلامية نقدية

في مثل لافت تماماً، لم يفت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية، التقاط ذلك التخبط الرئاسي الفرنسي المثقل بالتناقضات.

ونشرت الصحيفة مقالاً جاء عنوانه شديد الدلالة على ذلك الأمر، "فيما فرنسا تحترق، ماكرون يلوم السوشيال ميديا على تأجيج ألسنة اللهب".

وفي تشديد على وجود جذر اجتماعي مشترك بين الاضطرابات الحالية وتلك التي شهدتها الضواحي الفرنسية في عام 2005، لفتت "بوليتيكو" إلى أن الفارق بين الحادثتين يتمثل في غياب التوثيق البصري المباشر بالنقل الحي عن اضطرابات الماضي، فيما حضر بقوة أثناء الاحتجاجات على مقتل الشاب نائل مرزوق. وقد جرت مشاركة الأشرطة، بما في ذلك الشريط عن تلك الجريمة نفسها، مئات الآلاف من المرات عبر منصات كـ"تيك توك" و"سناب شات" و"تويتر" وغيرها.

في ذلك الصدد، أظهرت مقاطع مصورة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي اشتعال النيران في حدائق بالمدن، وفي قطار داخلي بمدينة ليون، و12 حافلة داخل مرأب في باريس.

وإذ اقتبست "بوليتيكو" كلمات ماكرون عن تقليد الشباب لما يرونه على شاشات السوشيال ميديا، لاحظت أن "الظاهرة الرقمية أقلقت القادة السياسيين الفرنسيين الذين هرعوا بذعر إلى إيجاد حلول، فيما لم تظهر الاضطرابات أي علامة على التلاشي".

ونقلت الصحيفة الأميركية عن قناة "بي أم أف" BMF التلفزيونية التي تعتبر الأولى فرنسياً في متابعة الأخبار، أن موقعا "تيك توك" و"سناب شات" أغرقا صبيحة الجمعة الماضي، بأشرطة توثق أعمال الشغب والنهب في مختلف أنحاء فرنسا. وقد نقل مسؤولون في الشرطة إلى تلفزيون "بي أم أف" أن المحتجين نسقوا ونقلوا احتجاجاتهم عبر خدمات التواصل على "واتساب" و"تيليغرام"، ما لم يكن متاحاً أثناء اضطرابات الضواحي في عام 2005.

الحلول في مكان آخر

وفي السياق نفسه، أوردت "بوليتيكو" أن اللوم ألقي على الوسائط الرقمية بشكل غير عادل من قِبَل كبار الساسة الممسكين بالسلطة حاضراً في فرنسا، فيما تبقى جذور الاضطرابات وحلولها في مكان آخر.

وقد استندت "بوليتيكو" في تلك الخلاصة إلى معطيات إضافية تشمل تصريح رئيسة وزراء فرنسا، إليزابيث بورن، عن ضرورة تنبيه المنصات الاجتماعية إلى مسؤوليتها في أعمال الاحتجاجات الراهنة.

ويشابه ذلك إعراب الرئيس ماكرون أيضاً عن أمله في أن تتحلى منصات التواصل الاجتماعي "بروح المسؤولية"، خصوصاً "سناب شات" و"تيك توك" التي رأى الرئيس أنها مساحات تنظم فيها "تجمعات عنيفة. وتبعث على نوع من محاكاة العنف، مما يؤدي إلى نهوض الأصغر سناً بالتصرف بعيداً من الواقع".
وإضافة إلى ذلك، وصلت كلمات الرئيس الفرنسي إلى حد مطالبة المنصات بالمشاركة في إخماد الاحتجاجات عبر إزالة لقطات الشغب "الأكثر حساسية" من صفحاتها وإبلاغ السلطات بهوية المستخدمين الذين يحضون على ارتكاب العنف.
وفي تصرف مماثل جاء لقاء وزير الداخلية جيرالد دارمانان بممثلين عن شركات "ميتا" و"تويتر" و"سناب شات" و"تيك توك". وقد أشارت شركة "سناب شات" إلى أنها لا تتهاون مطلقاً مع المحتوى الذي يحض على العنف.

وفي خلاصة مكثفة، نقلت "بوليتيكو" رأياً أبدته ماجدة بطرس، الباحثة الاجتماعية من "جامعة واشنطن" والمتخصصة في شؤون تحركات النشطاء ضد الشرطة في فرنسا.

ووفق الباحثة ماجدة بطرس، "ثمة تغيير واضح، مع ميل تلقائي متزايد لدى الناس لتصوير أفعال الشرطة. وفوق ذلك كله، بات مجتمع النشطاء يمتلك القدرة على التنسيق باستخدام أشرطة الفيديو".

لقد بات البعد الرقمي جزءاً أساسياً في المجتمعات المعاصرة، لكن علاقته معها لا تختزل بالسيطرة والنمذجة والقولبة، بل إنها تفاعل مع كل المعطيات الأخرى في أحوال العيش الإنساني المعاصر.

ومرة أخرى، المسألة هي البشر لا شاشات التواصل. وللحديث بقية.

المزيد من علوم