ملخص
هذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها ملف بهذا الثقل على طاولة السلطات والنخبة السياسية في فرنسا.
تراجعت اليوم الأحد حدة أعمال الشغب والاشتباكات بين الأمن الفرنسي ومحتجين على خلفية مقتل المراهق نائل برصاص شرطي تم اعتقاله، لكن ما حدث في الأيام الماضية خلف موجة تساؤلات لا تزال تنتظر أجوبة، خصوصاً في ظل الانتقادات الموجهة إلى الحكومة الفرنسية، وفي مقدمها الأمن، حول تعاطي أجهزتها مع الشباب، وأيضا التعاطي الرسمي مع المهاجرين ومعظمهم من العرب والمسلمين، لا سيما من شمال أفريقيا.
عاد الجدل من جديد في شأن الفشل بإدماج هؤلاء المهاجرين ليتصدر واجهة الأحداث والتصريحات السياسية في فرنسا، في حين لم يتردد الرئيس إيمانويل ماكرون في التعويل فقط على مقاربة أمنية لإخماد الاحتجاجات التي اشتعلت في أنحاء البلاد، وكأنها انتفاضة الضواحي التي تعج بالفرنسيين من أصول عربية ومسلمة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها ملف بهذا الثقل على طاولة السلطات والنخبة السياسية في فرنسا، فقبل أشهر قليلة كان تجفيف منابع التطرف الإسلامي الشغل الرئيس لماكرون وحكومته في أعقاب الهجمات الدامية التي شهدتها البلاد من قبل مسلحين من تنظيم "داعش" ومتطرفين آخرين، وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت في أبريل (نيسان) الماضي أطل الملف ذاته برأسه.
فشل تام
حادثة وفاة نائل، وهو شاب من أصل جزائري – مغربي، أحيت السجالات العنيفة بين اليمين المتطرف وماكرون حول الهجرة وقضية الإدماج التي طالما كانت مادة دسمة لكلا الطرفين في الاستحقاقات الانتخابية، إذ سارع المرشح الرئاسي السابق إريك زمور إلى تحميل الرئيس الفرنسي المسؤولية حيالها.
وذهب زمور المعروف بمواقفه المعادية للمهاجرين في تصريحات بثتها وسائل إعلام محلية إلى أبعد من ذلك بالقول إن "ما يحدث هو مقدم لحرب أهلية، ولو كنت في السلطة لقمت أولاً بوقف الهجرة فوراً، وسأقوم أيضاً بإلغاء قانون حق المواطنة وغيره من الإجراءات لوقف ما يحدث".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن كثيرين لا يشاطرون زمور واليمين المتطرف موقفهم مما يحدث في فرنسا على رغم المشاهد الدرامية التي تعكس حدة غير مسبوقة في الاشتباك بين الأمن والشباب في الضواحي المهمشة بشكل كبير، فإدماج المهاجرين وأبنائهم الذين يحملون الجنسية الفرنسية لا يزال ملفاً بعيداً من الحسم.
الناشط النقابي الفرنسي ديدييه سليوكا يعتبر أن "هناك فشلاً تاماً في إدماج المواطنين المهاجرين، وخصوصاً الشباب، سواء كانوا حاملين للجنسية الفرنسية أو جنسيات أخرى، لأن مبادئ الجمهورية الفرنسية الثلاث القائمة على الحرية والمساواة والأخوّة لا يتم تطبيقها على أكمل وجه بين الفرنسيين كافة".
ويشير سليوكا لـ "اندبندنت عربية" إلى "غياب المساواة في التعامل مع الشباب، فمثلاً هناك تفرقة بين شاب من أصول عربية أو أفريقية وآخر من أصول فرنسية خلال محاولة الحصول على عمل، حتى لو كان الأول حاصلاً على مؤهل علمي ويحمل الجنسية الفرنسية".
وليست هذه المرة الأولى التي تثير فيها قضية المساواة بين الفرنسيين اضطرابات من هذا النوع، ففي عام 2005 عرفت البلاد موجة عنف واسعة النطاق بسبب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي وصف محتجين اشتبكوا مع الأمن بـ "الحثالة"، وتحدث عن ضرورة القيام بما سماه "التنظيف الصناعي للضواحي الفرنسية" التي تقطنها غالبية من المهاجرين وأسرهم.
تراكمات طويلة
وتعكس دعوة الأمم المتحدة قبل يومين فرنسا إلى التعامل بجدية مع قضايا العنصرية والتمييز المشكلات التي تواجهها حكومة الرئيس ماكرون في تعاطي أجهزتها مع الشباب الذي يقطن الضواحي، خصوصاً من يتحدرون من أصول أفريقية وأجنبية.
وقالت المتحدثة باسم المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة رافينا شامداساني إن "على السلطات الفرنسية ضمان أن استخدام القوة من قبل الشرطة للتصدي للعناصر العنيفة في التظاهرات يحترم دائماً مبادئ الشرعية والضرورة والتناسب وعدم التمييز والحيطة والمساءلة".
وردت الحكومة الفرنسية برفض هذه التصريحات قائلة إن "اتهام الشرطة بالعنصرية لا أساس له"، لكن الشهادات في شأن تعرض أفراد من أصول أجنبية إلى العنصرية تتواتر، وهو ما يضع السلطات أمام مأزق حقيقي، لا سيما في ظل الفشل باحتواء الغضب الشعبي المتصاعد.
وقال الصحافي التونسي المقيم في فرنسا نزار الجليدي إن "أزمة الضواحي الفرنسية هي أزمة تراكمات منذ فترة طويلة، ونحن إزاء مشهد جديد أبطاله الحقيقيون هم أبناء المهاجرين، لأننا إزاء الجيل الرابع منهم، والهوة أصبحت واسعة بين الدولة الفرنسية وهؤلاء الشباب".
وأضاف الجليدي أن "هذه القطيعة تكرست بالأساس بعد عام 2005 حين استعمل ساركوزي العصا الغليظة لقمع المحتجين، لكن جيل 2023 مختلف عن جيل 2005، فله المجال الافتراضي الذي تسير فيه المعلومة بسرعة كبيرة، وهؤلاء المحتجون على رغم العنف الذي يمارسونه للسرقة وغير ذلك فإنهم يشكلون تعبيراً من تعبيرات رفض النظام البوليسي في فرنسا".
ورأى أن "كل شاب يرى في نفسه نائل، ولذلك تبدو الحكومة عاجزة عن فرض الهدوء خصوصاً أنها لجأت إلى أدوات بعيدة من التواصلية مع الشباب مما يكرس هذه القطيعة، كما اختار وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الذي لديه طموحاته، عسكرة الشارع وهو أمر خطر".
وأبرز الجليدي أن "قوة الشباب الديموغرافية تتكون من فتيان أصولهم من شمال أفريقيا لكنهم يحملون الجنسية الفرنسية، وهم من الجيل الرابع الذين يرتبط الحديث عنه بأزمات عميقة في شأن الهجرة، وتعامل غير جيد للحكومة الفرنسية حيال الإدماج وغيره".
ماذا عن ماكرون؟
طوال الأعوام الماضية وضع الرئيس ماكرون في صدارة أولوياته قضية إدماج المسلمين والأفارقة، لكن يبدو أن هذا الهدف صعب المنال، خصوصاً في ظل التجاذبات بين النخب السياسية في فرنسا حول وضعية هؤلاء.
وحتى الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدت فوز ماكرون على غريمته من اليمين المتطرف مارين لوبن، استخدمت الهجرة وترحيل المهاجرين كورقة بين المرشحين في هذا الاستحقاق مما أوقظ المخاوف من العنصرية.
وبالتوازي اتخذ الرئيس ماكرون سلسلة من الإجراءات ضد المنظمات والجمعيات الإسلامية المتشددة ومن بينها تفكيك تلك التجمعات، غير أن ذلك لم يثن الضواحي عن الانتفاض بوجه الشرطة الفرنسية، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول من يتحمل المسؤولية، فرنسا الدولة، أم الجاليات العربية والمسلمة وأبناؤها، أم ماكرون؟
ويرى مدير راديو "فرنس مغرب-2" طارق مامي أن "ما يحصل اليوم في فرنسا هو نتيجة تراكمات منذ عقود في التعامل مع الفرنسيين من أبناء المهاجرين الذين يحملون جنسيات فرنسية، لكن أيضاً يتحمل الرئيس ماكرون مسؤولية كبيرة في ذلك".
وأوضح مامي أن "الرئيس ماكرون مال إلى التعامل الأمني مع الاحتجاجات وغيرها بعد دخول البلاد في أزمات اقتصادية واجتماعية، ورأينا ذلك في احتجاجات السترات الصفراء، وأيضاً في الاحتجاجات ضد إصلاح نظام التقاعد وغيرها، ومن يحتجون اليوم هم شباب لم يشاركوا في تلك الاحتجاجات ووجدوا اليوم الفرصة للانتقام".
وأكد أن "الرئيس الفرنسي أيضاً على رغم أنه يقول إنه يولي أهمية خاصة للمجتمع المدني، فإنه قضى تماماً على الجمعيات والمنظمات، ولذلك لم يجد اليوم أدوات وقنوات للتواصل مع هؤلاء الشباب".
بدوره يرى الجليدي أن "الانقسام السياسي في فرنسا ماثل أكثر من أي وقت مضى، لا سيما في الرؤى واستخدام الهجرة كورقة رابحة في الانتخابات، ومحرك حقيقي لكل النقاشات السياسية في البلاد، والمشكلة باتت أعمق لأن فرنسا لم تستطع تأثيث بيتها لكل أبنائها الذين ولدوا فيها ودرسوا في معاهدها ونطقوا بلغتها، ولا يزال هناك تمييز باعتبار الأصل ولون البشرة".
وفي ظل غياب قنوات للتواصل بين الحكومة والمحتجين وإصرار كل طرف على التصعيد ضد الآخر، فمن غير الواضح ما إذا كانت فرنسا ستنجح في منع تمدد الاحتجاجات من عدمه، لا سيما بعد اعتقال المئات ونشر حوالى 45 ألف شرطي وإصابة المئات منهم.