ملخص
الحقيقة أن جمع فاغنر وفيردي في ذلك الصرح بالتحديد لم يكن صدفة
ولدا معاً في عام واحد هو 1813، وعاشا طوال القرن الـ19 تقريباً، ودخل اسماهما التاريخ بوصفهما معاً، وربما على قدر المساواة أيضاً، أكبر مؤلفين للموسيقى الأوبرالية ومجددين فيها ليس في القرن الذي عاشا فيه فقط، بل في كل الأزمنة. ومع ذلك، يجمع المؤرخون على أنهما لم يلتقيا أبداً، على رغم أنهما عاشا في بلدين لا يبعدان كثيراً عن بعضهما بعضاً، بل على رغم أنه حدث لهما كثيراً أن مرا بالمدينة نفسها في وقت واحد، بل من المؤكد أنه قد أتيح لهذا وذاك منهما أن يشهد عروض أوبرا جديدة للآخر. ونتحدث هنا طبعاً عن ريتشارد فاغنر (1813 – 1883) وعن جوزيبي فيردي (1813 – 1901). الأول ألماني جرماني أولاً وأخيراً، والثاني إيطالي متوسطي من دون أي لبس، ولكن من المؤكد أن هذا التفاوت الجغرافي وفي الجذور بينهما، حتى وإن كان لعب دوراً في اختلاف المزاج بينهما، لم يكن السبب الرئيس في تلك الكراهية التي قال المؤرخون وكاتبو سيرة الرجلين إنها استشرت بينهما وحفلت بالتعليقات الساخرة وإبداء كل واحد منهما آيات الهزء بالآخر في كل مرة جرى حديث عن واحد منهما أمام ذلك الآخر.
مجنون
فمثلاً، حين حضر فيردي لسبب ما افتتاح التقديم الباريسي لأوبرا فاغنر "تانهاوزر" في باريس عام 1869، وهو العرض الذي قرظه بودلير بشكل لافت وفتح الأبواب الفرنسية مشرعة أمام أعمال فاغنر، سئل الموسيقي الإيطالي عن رأيه فيما شاهد فاكتفى بعبارة "إنه مجنون" مع ابتسامة متهكمة. والحقيقة أن التعبير بهذه العبارة كان من شأنه أن يبدو إيجابياً في معنى من المعاني لولا أن فيردي كان قد سبق له أن قال عن موسيقى فاغنر إنها "بشكل عام بطيئة إلى حد إثارة ضجر لا يحتمل".
من ناحيته، كان فاغنر يضاهي زميله اللدود في مكره وتهكمه حين قال عن أوبرا "عايدة" التي كتبها فيردي لتقدم في افتتاح قناة السويس في مصر، إنه يعتبرها "رمزاً للانحطاط الذي بدأ يصيب فن الأوبرا". ولم يكن هذان الرأيان سوى نموذج فاقع عن رأي كل من الموسيقيين في الآخر، لكنهما رأيان يقولان كثيراً، بيد أن صمت فاغنر نفسه عن جهود فيردي الموسيقية وغياب اسم الموسيقي الإيطالي عن كتابات كثيرة دون عليها فاغنر آراء لا تعد ولا تحصى في الموسيقى وما كان يعرف عن موسيقى زمنه إنما كان من نوع الصمت الذي يقول كل شيء، ومن هنا يبدو أن الاثنين قد ضيعا على نفسيهما وعلى الحياة الموسيقية الأوروبية فرص لقاء كثيرة بينهما.
باريس تدخل على الخط
غير أن باريس لم تسكت عن تلك "الحماقة المزدوجة" بحسب تعبير واحد من مؤرخي الحياة الموسيقية والفنية فيها. فالعاصمة الفرنسية، وما إن حلت الذكرى المئوية الثانية لولادة فاغنر وفيردي، حتى قررت أن تقدم على ما لم يفعله الاثنان خلال حياتيهما. قررت أن تجمعهما، وكان ذلك عند نهاية عام الاحتفال بهما معاً، فإذا كانت إيطاليا قد صخبت احتفالاً بالمئوية الثانية لولادة فيردي من دون أن تهتم كثيراً بذكرى ولادة منافسه الكبير، وإذا كانت ألمانيا قد بادلت التجاهل الجنوبي بمثله فاحتفلت بصخب أكبر بذكرى فاغنر متجاهلة زميله، ها هي باريس تقرر شيئاً آخر تماماً، فهي لم تكتف حينها بالاحتفال بالاثنين معاً، بل تضافرت جهود المكتبة الوطنية الفرنسية مع جهود "أوبرا باريس" لجمع الإثنين في معرض واحد حمل يومها عنواناً موفقاً، "فيردي وفاغنر في أوبرا باريس"، ودام طوال أشهر تدفق الهواة خلالها ليكونوا شهوداً على ذلك "الحدث التاريخي" الذي كان "الفن ومعجزة الفن" في مكان واحد وزمان مشترك فريد من نوعه. وهكذا في قاعات تشكل جزءاً من المكتبة الملحقة بدار أوبرا "غارنييه" العريقة في وسط باريس، اجتمع الموسيقيان، على رغم أنفيهما على أية حال، وبعد قرن ونيف على موتهما تباعاً (عام 1883 بالنسبة إلى فاغنر، و1901 بالنسبة إلى فيردي).
لم تكن صدفة
والحقيقة أن جمع فاغنر وفيردي في ذلك الصرح بالتحديد لم يكن صدفة، فدار الأوبرا تلك، والتي لم تكن قد فقدت ولو أنملة من مكانتها وقيمتها على رغم النجاح الهائل الذي حققته "منافستها" أوبرا "الباستيل" التي أنشئت وازدهرت منذ الربع الأخير من القرن الـ20، دار أوبرا "غارنييه" تلك، كانت هي التي شهدت ومنذ أواسط القرن الـ19 تلك النجاحات الباريسية الهائلة التي حققتها حيناً أوبرات فيردي وحيناً أوبرات فاغنر حتى وإن كان المزاج الباريسي، والفرنسي عموماً، قد مال ناحية الجار الإيطالي على حساب الجار الألماني اللدود.
فبشكل عام، من الواضح أن فاغنر قد استغرق زمناً طويلاً قبل أن يدخل أمزجة هواة الأوبرا الفرنسيين وليس دائماً لأسباب فنية ولا حتى لأسباب سياسية تتعلق بتاريخ العلاقات المتوترة في معظم الأحيان بين الفرنسيين والألمان، خلال "الكومونة"، وبعد ذلك خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل تحديداً لأسباب تتعلق بتقارب المزاج بين الجمهور الفرنسي والمتوسطية (نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط) التي كثيراً ما حملتها موسيقى فيردي ذات الحيوية المطلقة مقارنة بالبرودة الجرمانية التي وسمت دائماً موسيقى فاغنر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل في إمكاننا أن نزيد على هذا هنا كون فاغنر الذي كان يسعى إلى تحقيق ما كان يسميه "الفن الشامل" كتب في معظم الأحيان نصوص أوبراته وأغانيها بنفسه، إذ كان يعتبر نفسه موسيقياً وشاعراً وكاتباً، بل حتى مناضلاً سياسياً، كما يخبرنا بنفسه في صفحات رائعة من كتابه "حياتي"، حيث يسترسل في الحديث عن علاقته مع الفوضوي الثائر ميخائيل باكونين. وكان فاغنر في معظم ما يكتبه يستلهم الأساطير والحكايات الجرمانية القديمة حتى من دون أن يحاول عصرنتها، ومن هنا أتت بالنسبة إلى الفرنسيين صعوبة وبطء التفاعل مع إبداعاته.
فيردي "البهلوان"
في المقابل، كان فيردي يبدو أقرب إليهم، بمتوسطيته كما أشرنا، ولكن أيضاً بما كان فاغنر نفسه يعتبره "بهلوانيته"، بمعنى أن الموسيقي الإيطالي كان بعد كل شيء لاعباً ماهراً يعرف كيف يمكنه ليس فقط أن يطرب الجمهور بأغنيات سرعان ما تصبح على كل شفة ولسان، بل حتى بمواضيع وحكايات لا يريد منها أن تكون عصية على الفهم، بل أقرب إلى الترفيه عن الجمهور. ومن هنا لئن كان فيردي قد جدد فإنه جدد في العطاء الموسيقي وفي تقريب فن الأوبرا من الناس: باختصار، وكما قال عنه فاغنر في معرض اللوم لا في معرض المدح: نزل إلى الجمهور العريض كي يكسب وده. أما فاغنر فإنه إنما أراد دائماً أن يسحب الجمهور إلى عليائه غير متخل لا عن عجرفته ولا عن صعوبة ألحانه ولا حتى عن استخدامه للغة في الأشعار التي يكتبها تكاد تكون بائدة. ومن المؤكد أن الأسلوبين قد حققا نجاحاً كبيراً يجعل من الصعب المفاضلة بين الرجلين حتى اليوم وغالباً لدى الجمهور نفسه الذي اعتاد أن يتفاعل مع أوبرات فيردي بقدر ما اعتاد أن يتفاعل مع أوبرات فاغنر، والحقيقة أن المعرض الذي جمع الاثنين في تلك القاعات بدار أوبرا "غارنييه" طوال تلك الأسابيع التي كانت قبل 10 سنوات من الآن احتفالية موسيقية كبيرة، أكدت ما يمكننا أن نقوله هنا من "أن الفن يتسع لكل المبدعين الحقيقيين وليس فيه مكان لتلك التراتبية التي يمكن افتراضها".
كأنهما واحد
ففي ذلك المعرض الذي كان الزائرون، ونحن من بينهم، يتنقلون بين نحو 100 وثيقة ودفتر نوتة ولوحة وآلة موسيقية ومنحوتة وإعلان تتعلق كلها على أية حال بتقديم أوبرا "غارنييه" نفسها لأعمال الموسيقيين الكبيرين على خشبتها طوال ما يقرب من قرن ونصف القرن، بدا أمام أعيننا وكأن معجزة فنية صغيرة تتتابع أمام أنظارنا وأسماعنا: معجزة هي عبارة عن مزج خلاق بين شخصيتين كانتا متناحرتين خلال حياتهما، وها هما متمازجتان اليوم في بوتقة فنية تاريخية واحدة. بدا لنا وكأن الموسيقيين الكبيرين باتا واحداً، وكأن أعمالهما على تفاوتها مشتركة تجمع بين الشعوب والأمم والثقافات والحضارات عبر الحدود القومية والهويات المصطنعة، ولعل ذلك كان أجمل حدث موسيقي شاهدناه في السنوات الأخيرة.