في الجزائر، تتقاسم اللغاتُ السلطاتِ السياسيةَ والإداريةَ، وهي اللغات التي يتم بها وفيها ممارسة الشأن الإبداعي والسياسي والتربوي والعباداتي واليومي، وأعني بها العربية والفرنسية والأمازيغية.
يحدث هذا منذ الاستقلال. فالتموقع الاجتماعي وكذا القدرة على التأثير وشكل هذا التأثير وعمقه، تلعب فيه اللغة دوراً مفصلياً، وذلك تبعاً لامتداداتها الاجتماعية و"الكومينوتارية" (المجموعاتية). وفي هذه المقاربة، سأتحدث عن طبيعة السلطة التي تمثلها العربية والفرنسية بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال.
ارتبط وجود اللغة العربية مبدئياً بالدين كأيديولوجيا وبالريف والمدن الداخلية كجغرافيا. بذلك، ظلت في مخيال الجزائري لغة "المحافظة" و"المحافظين"، لغة الهامش، في حين ارتبطت الفرنسية بالمعاصرة كتصور وبالمدن الكبيرة الشمالية كجغرافيا. وبهذا، ارتبطت صورة اللغة والمتكلم بها بالتفتح، لغة المركز.
أمام هذا التراكم السيكو- تاريخي، أخذ المثقف المعرّب المعاصر، في حكم العامة، كثيراً من ملامح صورة الفقيه، بل اختلطت صورة الفقيه بصورة المثقف المعرّب حتى لو كان هذا الأخير شاعراً حداثياً أو روائياً مجدداً. فالجزائري يطلق على كل من ارتبط بالعربية اسم "الشيخ".
ولعل العامل التاريخي الأساسي الذي كرّس هذه الصورة المحافظة هو ارتباط وجود العربية تاريخياً في الجزائر بجمعية العلماء المسلمين من جهة وبالدين الإسلامي من جهة ثانية. وهو ما لم تعرفه العربية في المشرق، حيث ارتبطت العربية هناك بتيارات وأحزاب علمانية وشيوعية وبكتّاب مسيحيين كبار من أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وجرجي زيدان وغيرهم.
ومع أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست عام 1931 برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس عُرفت في سنواتها الأولى بالدعوة إلى التفتح والمعاصرة والدفاع عن حق المواطنة في ظل عيش كريم وعادل تحت الإدارة الفرنسية، إذ إن شعار صحيفتها "السنة" التي كانت لسان حال الجمعية كان: "لسنا أعداء فرنسا ولا نحن نعمل ضد مصلحتها. بل نعينها على تمدين الشعب وتهذيب الأمة ونساعدها". وكان التعليم في مدارسها مختلطاً، لكن لاحقاً وبعد وفاة الشيخ بن باديس ومع انطلاق الثورة التحريرية ووجود بعض قادة هذه الجمعية في القاهرة وارتباطهم بصداقة وولاء فكري لجماعة الإخوان المسلمين، ابتعدت الجمعية عن فكرها الليبرالي الأول وانساقت نحو أطروحات الفكر الإخواني. يمكن التذكير هنا بعلاقة الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الفضيل الورتلاني وغيرهما بزعماء تنظيم الإخوان المسلمين، خلال سنوات إقامتهما في مصر.
لقد ظلت العربية التي كانت تُدَرَّس في جمعية العلماء المسلمين لصيقة بالفكر التقليدي، خصوصاً بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889- 1940)، إذ أصبحت الجمعية مطعّمة بالفكر الإخواني، معجبة به وبقادته من أمثال حسن البنا وسيد قطب ومحمد الغزالي وغيرهم. أمّمت جمعية المسلمين العربية وأدخلتها في ملاحق "التدين" و"التقديس" و"لغة الجنة"، حتى أصبح الجزائري يعتقد أن العربية جاءت مع نزول القرآن وأنها لم تكن سابقة عليه بقرون. بذلك، لم يعد في الإمكان الفصل بين العربية والأيديولوجيا الدينية الإسلامية في المخيال الجزائري والمغاربي بشكل عام.
ولعل المرة الأولى التي حاولت اللغة العربية التخلص من صورتها الدينية المحافظة هي حين تأسس ما سُمي بـ"المدارس الفرانكو- مسلمة" (Lycées Franco-musulmans) التي كانت موجودة في ثلاث مدن، هي الجزائر وقسنطينة وتلمسان. ولعل النخب الجزائرية الأكثر نقدية وعقلانية هي تلك التي تخرجت من هذه المدارس، وقد أعطت للجزائر المستقلة مجموعة من المفكرين والسياسيين والدبلوماسيين المتميزين، من أمثال مصطفى الأشرف، صاحب كتاب "الجزائر تاريخ وأمة" وعبد الحميد مهري ورضا مالك وعلي مراد، صاحب كتاب "تاريخ الإصلاح في الجزائر" ومحمد شريف ساحلي، صاحب كتاب "تحرير التاريخ" والشاعر والمحامي عبد اللطيف بن شهيدة والكاتب الدبلوماسي كمال بوشامة وغيرهم.
في تجربة المدرسة "الفرانكو- مسلمة"، وجدت اللغة العربية إلى جانب اللغة الفرنسية، وعلى قدم المساواة، وبذلك كان تعليم العربية في ظل فضاء حضاري مفتوح على الثروات الفكرية الإنسانية، ما أنتج هذه النخب الفكرية والسياسية النقدية المتميزة.
وحين استقلت الجزائر، وقد تبنت الخيار الاشتراكي كمنهج اقتصادي، واختارت التعريب كخيار بيداغوجي، كان من المفروض أن تكون العربية متناغمة مع هذا الخيار السياسي الاقتصادي المدني. لكن، مرة أخرى كانت تجربة التعريب فرصة للتيار الإخواني للتمدد والتكريس والتجذر. ومرة أخرى، ستتعرض العربية إلى شحن أيديولوجي إخواني، إذ إن غالبية من أشرفوا على عملية التعريب والوافدين من مصر، في إطار تعاقد مع وزارة التربية الوطنية، كانوا من مناضلي حركة الإخوان المسلمين. وما سهّل وصولهم إلى الجزائر هو رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في التخلص منهم.
ومرة أخرى، أخطأت العربية حريتها في الجزائر، فبدلاً من أن تكون لغة متجاوبة مع المنهج الاشتراكي الزمني المدني، على الرغم من عيوبه، سقطت بين أيدي الإخوان المسلمين. وبعدما منعت السلطة إثر الاستقلال، نشاط جمعية العلماء المسلمين، سلّمت العربية للإخوان مباشرة، ما نتج منه لاحقاً ابتداء من نهاية السبعينيات، أمراضاً أيديولوجية كثيرة، أسفرت عن عنف وحرب دموية دامت عشرية كاملة (1900- 2000)، ولا تزال آثارها قائمة حتى الآن.
أمام هذه الخلفية التاريخية المختصرة، تشكلت صورة المثقف المعرب والمفرنس في الجزائر بمواصفات مختلفة، سنحاول أن نوجزها في ما يلي:
يتميز المثقف المعرب بشكل عام في الجزائر، بعيداً من كل تعميم، بربط العربية بالإسلام وبفصلها عن بعدها التاريخي.
قد يبدو المثقف المعرب في خطاباته وكأنه يدعو إلى "العروبة"، ولكنه في الجوهر هو يدعو إلى الإسلام. يتناسى المثقف المعرب أن دعاة العروبة كانوا علمانيين في الأساس، وأن الأحزاب والتيارات التي تأسست حول العروبة كانت من المسيحيين والمسلمين من دون تفرقة، ويتناسى أو يتجاهل أن كثيرين من الكتاب التنويريين والعلمانيين العرب انتموا إلى هذه التيارات القومية والشيوعية، كأدونيس وحسين مروة ومهدي عامل وغيرهم.
لا يجتهد المثقف المعرب في الجزائر ولا يطرح أفكاراً، بل إن كثيراً من تصرفاته وأفعاله وأفكاره هي عبارة عن رد فعل ضد كتابات أو أفكار قد يطرحها المثقف المفرنس أو المثقف بالأمازيغية، إذن هو مثقف، في غالب الأحيان، يعيش حالة من رد الفعل وليس الفعل، وبالتالي تبدو أحكامه قيمية ومؤسسة داخل "الغضب" و"الكراهية" و"الحقد" والشعور بـ"التهميش"، وهو غالباً لا يفرق في أحكامه ما بين الأخلاقي والفكري، ما بين القناعة الفلسفية والحياة الشخصية لخصومه الفكريين.
حين يهاجم المثقف المعرب حضور اللغة الفرنسية في الجزائر، لا يقوم بذلك من خلال إنتاج أفكار وكتب معاصرة تنويرية، بل من خلال إطلاق أحكام "تخوينية" كالعمالة لفرنسا أو "تكفيرية" كالتشكيك في عقيدة خصمه بغية تشويه صورة خصومه أمام العامة المنقادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الدعوة إلى إحلال الإنجليزية محل اللغة الفرنسية التي نسمعها هذه الأيام في الجزائر، هي دعوة تقودها أصوات المثقف المعرب بشكل عام، وهي ليست حباً في الإنجليزية، إنما محاولة تصفية حساب مع المثقف المفرنس الذي لا يزال، بشكل عام، من يمثل الصوت الحداثي. ولا تزال الكتابة الأدبية باللغة الفرنسية التي ينتجها الجيل الجديد من أمثال كمال داود ورياض جيرو وشوقي عماري وعدلان مدي والمهدي أشرشور ومصطفى بن فضيل وسارة حيدر وغيرهم، على مستوى الرواية مثلاً، هي المنتشرة أكثر وهي التي تشكل الرأي العام الأدبي الفاعل وتحقق القراءة الثقافية المتميزة.
وأمام اغتصاب اللغة العربية من جانب الفكر الإخواني في الجزائر، يجد بعض الكتاب المعربين المحسوبين على الفكر الحداثي العلماني صعوبة في توصيل أفكارهم. فالقارئ باللغة العربية ونظراً إلى الحصار المضروب عليه، وغسيل الدماغ الأيديولوجي المعرّض إليه في الفضاءات العامة، المدرسة والمسجد والحزب، أصبح قارئاً متميزاً بالعنف واللاتسامح. وحين أتحدث عن القارئ لا أريد التعميم، ولكنها الوضعية الغالبة في مشهد القراءة في الجزائر.
في حين يبدو الكاتب باللغة الفرنسية ذو الاتجاه الفكري الحر والمتحرر، علمانياً كان أو شيوعياً أو ملحداً، أكثر راحة مع قرائه، إذ يتميز القارئ بالفرنسية بنوع من التسامح وقبول الرأي الآخر. وهذا أيضاً من دون تعميم. وهذه الوضعية السيكو-معرفية آتية من احتكاك القارئ بالفرنسية بنصوص عالمية مفتوحة على حرية التفكير. وهو، للأسف، ما تخلو منه المكتبة بالعربية وتغيب في القراءة التنويرية بالعربية.