ملخص
العنف الجنسي رخيص وسهل وفعال لتحقيق الهدف الأسمى وهو الانتصار، وعندما يغتصب المقاتلون عشرات أو مئات أو آلاف النساء فإن الأمر لا يتعلق فقط بالدوافع الجنسية بل بكسر العدو.
من الوارد أن تكون ساحة المعركة صحراء جرداء لا زرع فيها أو ماء، فقط دبابات وتبادل إطلاق النار. وقد تكون أرض المعركة قرى ومدناً تتبادل فيها الأطراف المتحاربة جهود الكر ومحاولات الفر، فتسقط مبان وتسلب مقتنيات ويلحق الضرر بالممتلكات. وقد تكون الحرب افتراضية حيث التراشق بالاختراقات والتعارك بالهجمات السيبرانية، وحيث لا تراق قطرة دماء واحدة، فإن نزيف الخسائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية قد يدفع بدولة بأكملها نحو الانهيار.
أما أن تكون أجساد النساء والفتيات ساحة معركة أخرى على هامش الصراع فهذا مما لا يجوز، لكن ما لا يجوز لا يعني أنه لا يحدث وبضراوة وشراسة وتصاعد واستمرار.
استمرار تعرض الإناث في أماكن الصراع لخطر الاعتداءات الجنسية بأنواعها ودرجاتها وأشكالها على مدى عقود وقرون يعني أن المأساة متكررة، لكن التكرار وإن كان دليلاً على لا مبالاة العالم فإنه يبقى حجة على أن أجساد النساء ساحة معركة تحظى بالقبول والصمت.
تقارير موثقة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أفادت قبل أيام بأن عشرات من النساء والفتيات تعرضن لانتهاكات مروعة في السودان. الفارات من الصراع أبلغن عن وقوع حوادث صادمة من العنف الجنسي. وتقول المفوضية إن هذه الحوادث ترتكب من قبل المقاتلين والمهربين ضد المدنيات في الخرطوم وغيرها من المناطق، وضد النساء والفتيان أثناء تنقلهن من مكان إلى آخر.
وأفادت المفوضية كذلك أنه إضافة إلى العواقب الجسدية والجنسية والنفسية الطويلة الأمد فإن بعض النساء وصلن مقصدهن في الدول المجاورة هرباً من الصراع وهن حوامل نتيجة الاغتصاب.
إلى الأمان عبر الاعتداء
تحدثت نساء وفتيات سودانيات للفرق التابعة للمفوضية عن أعمال نهب لمحتويات البيوت من قبل المقاتلين، إضافة إلى الاعتداءات الجنسية، وتحدث بعضهن عن تحرش واستغلال جنسيين كذلك عند نقاط التفتيش وأثناء الرحلة من ساحة الصراع إلى بر الأمان عبر الاعتداء. ليس هذا فقط، بل إن المراهقات يواجهن خطراً إضافياً وهو "زواج الأطفال"، فبعض الأسر يقدم على تزويج البنات القاصرات اعتقاداً منهم أن في ذلك حماية لهن من المخاطر الجنسية التي تلوح في الأفق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أفق الاعتداءات الجنسية الدائرة في السودان يحمل بعداً آخر هو أن الرجال والأطفال من الذكور يتعرضون كذلك لها وإن ظلت الإناث صاحبات العدد الأكبر.
تتقاتل الفيلة فيعاني العشب، هذا ما يحدث في أماكن الصراع وهذا ما يدور في السودان حالياً. "فيلة" الحرب تتناطح وتتصارع، والعشب من تحتها يتهالك ويتحول إلى يابس فاقد للحياة. لم يجد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أفضل من هذا المثل ليدلل به على ما يجري في السودان.
قال قبل أيام إن المفوضية تستهجن أية أعمال عنف جنسي بما في ذلك جرائم الاغتصاب، مضيفاً "تلقت مفوضيتنا تقارير موثوقة عن 18 حادثة عنف جنسي مرتبطة بالنزاع ضد 53 امرأة وفتاة في الأقل، بينهن أكثر من 10 طفلات. وفي إحدى الحالات أفيد بأن 18 أو 20 امرأة تعرضن للاغتصاب في سياق الاعتداء نفسه. وفي جميع الحالات تقريباً تمت الإشارة إلى قوات الدعم السريع باعتبارها الجاني. أما الوصول إلى الدعم الطبي والنفسي والاجتماعي للضحايا فمحدود للغاية، كما لا يتم الإبلاغ عن عديد من حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسي".
طقس سنوي ضد العنف
قبل أيام قليلة تابع العالم بعضاً من أخبار وقليلاً من تقارير الصراعات والعنف الجنسي. وعلى رغم أنه طقس سنوي منذ صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن يكون يوم 19 يونيو (حزيران) من كل عام يوماً دولياً للقضاء على العنف الجنسي في حالات النزاع، فإن هذا اليوم يأتي الآن على خلفية تفاقم الصراع في السودان وتواتر أخبار تعرض نساء وفتيات لأشكال من الاعتداء الجنسي.
تثير حالات الاعتداء والعنف الجنسي في السودان كثيراً من التعاطف والخوف والرغبة في التدخل لوقف ما يجري من فظائع، لكنها في حقيقة الأمر ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فلأسباب كثيرة ارتبطت الصراعات والحروب بالاعتداءات والانتهاكات الجنسية على مر التاريخ.
التاريخ المعاصر حافل بها، من العراق وسوريا وليبيا والصومال إلى سيراليون وليبيريا ورواندا وأوغندا والكونغو، ومنها إلى البوسنة والهرسك والهند وأفغانستان، شهدت الصراعات اعتداءات جنسية بعضها وصل إلى بضعة آلاف.
في رواندا مثلاً تعرضت بين 100 ألف و250 ألف امرأة للاغتصاب في خلال أشهر الإبادة الجماعية الثلاثة في عام 1994، كما قدرت الوكالات التابعة للأمم المتحدة عدد النساء اللاتي تم اغتصابهن في الحرب الأهلية في سيراليون (1991-2002) بما يزيد على 60 ألف امرأة وفتاة، وفي ليبيريا (1989-2003) بنحو 40 ألف امرأة، ويوغوسلافيا السابقة (1992-1995) بنحو 60 ألفاً، وما لا يقل عن 200 ألف في الكونغو.
ويعتقد البعض أن الاغتصاب أو الاعتداء الجنسي ينتهي بانتهاء فعل الاعتداء، لكن الحقيقة أن حياة الضحية تنقلب رأساً على عقب بعد انتهاء عملية الاعتداء لتبدأ صفحة جديدة مقيتة. وحتى بعد انتهاء الصراع أو الحرب الأهلية تستمر آثار العنف الجنسي الذي يتراوح بين علل نفسية وعصبية، وأمراض منقولة جنسياً ووصم، ناهيك بحالات حمل وولادة أطفال أصبحوا حالياً مراهقين وشباباً.
أجساد النساء حلبة الصراع
إنها الحرب التي اتخذت من أجساد النساء حلبة لها. مديرة معهد الدراسات النسائية في الجامعة اللبنانية الأميركية لينا أبي رافع تشير في ورقة منشورة بـ"ذو كونفرسيشين" تحت عنوان "النزاعات تعرض النساء للعنف لكن العالم العربي يبحث عن سبل للرد" (2016) أن "أوقات الطوارئ أكثر خطورة على النساء والفتيات، ففيها تتفاقم نقاط الضعف وعدم المساواة، ويتم استهدافهن عمداً. ويزيد العنف القائم على النوع في هذه الظروف لأن المجتمعات تتعطل وينزح السكان وتختفي أنظمة الحماية والدعم".
تشير أبي رافع إلى ما قاله الرئيس السابق لفريق المراقبين الدوليين في الحديدة (اليمن) الجنرال الهولندي باتريك كاميرات في هذا الصدد، "أن تكون امرأة الآن أكثر خطورة من أن تكون جندياً في النزاعات الحديثة"، مشيراً إلى أن الاغتصاب يستخدم كسلاح حرب، وأن أجساد النساء باتت ساحات قتال.
وهذه الساحات موجودة دائماً على مر التاريخ الذي هو أيضاً تاريخ الصراعات، في الماضي والحاضر وعلى الأرجح في المستقبل، ليظل غالبية ضحايا الحروب مدنيين لا سيما النساء والأطفال.
وكالات الأمم المتحدة المختلفة العاملة في الصراعات وتلك التي تعنى بالمرأة والطفل وحقوق الإنسان تشير إلى أن النساء بشكل خاص يواجهن أشكالاً بشعة من العنف الجنسي في الصراعات التي أحياناً ما تستخدمهن بشكل ممنهج لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية. وفي أغلب الأحوال يتم ارتكاب حوادث الاغتصاب في الصراعات بغرض ترهيب السكان وكسر الأسر وتدمير المجتمع، وأحياناً يكون الغرض من الاغتصاب الممنهج إحداث تغيير في التركيبة الإثنية في الجيل المقبل.
إضافة إلى الاغتصاب والتحرش بدرجاتهما قد يكون العنف الجنسي في الصراع إكراهاً على البغاء أو الحمل أو الإجهاض أو التعقيم أو الزواج القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي. ويرتبط هذا العنف بشكل مباشر أو غير مباشر بالنزاع، ويكون الجاني غالباً منتسباً إلى دولة أو جماعة مسلحة قد تكون مرتبطة بالدولة أو تعمل وحدها، وهي تشمل كيانات إرهابية. أما الضحية فقد تكون مواطناً عادياً أو شخصية بارزة في المجتمع أو منتمياً لأقلية سياسية أو عرقية أو دينية أو مستهدفاً على أساس الميول الجنسية الفعلية أو المتصورة أو الهوية الجنسية، كما يشمل هذا النوع من العنف الاتجار بالبشر لغرض العنف الجنسي أو الاستغلال.
أغلب المتداول عن العنف الجنسي في الصراعات لا يحمل وجوهاً للضحايا. أرقام مفزعة وتعريفات تفرق بين أنواع الاعتداء ودرجاته وقرارات أممية في شأنه وتقارير عما تبذله منظمات وجمعيات لتقديم يد العون للناجيات من الاعتداءات في أماكن الصراع، لكن قلما يتم الربط بين الأرقام والتعريفات ووجوه وقلوب وعقول وقعت ضحية هذه الاعتداءات.
الرغبة في كسر العدو
"بكلماتهم: أصوات الناجيات من العنف الجنسي في أماكن الصراع ومقدمي الخدمات" عنوان كتاب صادر عن منظمة الأمم المتحدة يحتوي على شهادات لعشرات النساء والفتيات ممن وقعن ضحايا اعتداءات جنسية في أماكن الصراع حول العالم، من أفغانستان إلى العراق ومنها إلى سوريا والصومال وبوروندي ثم كوسوفو وميانمار ونيبال وجنوب السودان وغواتيمالا وإثيوبيا والكونغو. تبدو القصص متطابقة في العنف والوحشية والإهانة الموجهة بشكل ممنهج ومخطط إلى أجساد النساء. إنها ساحات قتال يتم تحقيق المصالح عبرها وجني المكاسب من خلالها.
في أوقات السلم تقع حوادث الاغتصاب، وبعضها يمكن فهمه في ضوء الشهوة أو الاضطراب العقلي أو الفساد، لكن في أوقات الصراع فإن الأمر يختلف، إذ قد تقع حوادث اغتصاب فردية بسبب الشهوة الجنسية، لكن الاغتصاب في الحروب يكون وثيق الصلة بفرض الهيمنة.
الرغبة في "كسر العدو" تكون عارمة، وفي الحروب الغايات تبرر الوسائل وتجملها بل وتبجلها، وأي انتصار مهما كان صغيراً يضاف إلى قائمة النصر المرجو، وليس هناك ما هو أسهل وأسرع من كسر العدو عبر الاعتداء على نسائه وفتياته.
الناشطة في مجال السلام والمتطوعة في الأمم المتحدة المحامية الهندية كيرثي جاياكومار تقول في ورقة عنوانها "لماذا ينتشر العنف الجنسي بكثرة في الحرب؟" (2013) إن "السبب يكمن في أنه (العنف الجنسي) رخيص وسهل وفعال لتحقيق الهدف الأسمى وهو كسر العدو. عندما يغتصب المقاتلون نساء العدو بالعشرات أو المئات أو الآلاف، فإن الأمر لا يتعلق فقط بالدوافع الجنسية، بل يتعلق بكسر هؤلاء النساء ومن ثم انهيار مجتمع العدو برمته. إنه نصر سادي وطريقة لكسب الحرب من أبواب خلفية".
جانب من الاعتداءات الجنسية في الحروب والصراعات عشوائي ويرتكب في ظل أجواء فوضوية، لكن أغلبه محسوب ومنظم ويندرج تحت مظلة تكتيكات الحرب (غير المعلنة) التي تعمل على نشر الخوف والشعور بالذل وإحداث الدمار، لا في المعركة فقط ولكن في ما يتبقى من المجتمع بعد انتهاء الحرب في الساحات، سواء كانت حلبات الكر والفر أو أجساد نساء العدو.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر تقول إنه على رغم تجريم الاعتداءات ذات الطابع الجنسي في الحروب فإنها تظل واقعاً وحشياً. وتنبه اللجنة إلى قواعد خاصة بالاعتداءات الجنسية في الصراعات، منها أن الاعتداء الجنسي في الصراع جريمة حرب، وعلى رغم أن النساء يتربعن على عرش قائمة الضحايا فإن الرجال أيضاً يمكن أن يتعرضوا لاعتداءات ذات طابع جنسي أثناء الحرب، والاعتداء الجنسي ظاهرة غير مرئية إذ يعمد غالبية الضحايا إلى عدم الإبلاغ أو الحديث أو الإشهار خوفاً من الوصمة، وأخيراً فإن آثار الاعتداءات الجنسية في الصراعات ممتدة وتبقى العمر كله.
الجميع يعرف نصب الجندي المجهول التذكاري، ونصب ضحايا الحروب من الطواقم الطبية، ونصب التمريض، ونصب مهندسي الدبابات والمدرعات والطائرات، ونصب ضحايا الحرب من المدنيين، بل ونصب الكلاب التي ساعدت قوات الجيش في تقفي أثر الألغام أو قامت بأدوار بطولية في الحروب، أما نصب المرأة المغتصبة أو المعتدى عليها أو التي تعرضت للاعتداء الجنسي في الصراع فلا وجود له على قائمة الأنصاب التذكارية أو الاهتمامات الدولية أو حتى الاعتراف بالمأساة والتعامل معها بحكمة وجرأة، بدلاً من دفن رؤوس الإنكار والوصمة في رمال الضرر النفسي والاجتماعي والجسدي البالغ.