ملخص
أسئلة الوحدة ومراتب الصمت والمخاوف وشؤون البدايات في ديوانه الجديد "ارني وجهك أيها الهارب"
يقول تزفيتان تودوروف في ختام كتابه عن نظريات الرمز بما معناه: "يتبين للباحث أن الشعراء، إذ يتوسلون الكلام سبيلهم إلى التعبير، فإنهم يحملوننا على اعتبار الشعر صوراً، وتداولات بالزمان والمكان، وبالمعجم الخاص، وبأبنية الجمل، وبالنعوت، والاشتقاقات، والعبارات الشعرية، وبحسن الجرس، والترادف، والقوافي، وجميعها تشكل جوهر الشعرية المنادى بها".
ماذا يعني هذا الأمر في ما خص أعمال الشاعر اللبناني محمد ناصر الدين (1977) في مناسبة صدور مجموعته الشعرية الثامنة "أرني وجهك أيها الهارب" (دار الجمل 2023)؟ تحاول هذه المقاربة الالتفات إلى ما يصنع شعرية الشعر لدى ناصر الدين، من خلال مدونة شعرية، وإن تكن محدودة أي ثلاث مجموعات شعرية متقاربة زمنياً، فإنها يمكن أن تكون ممثلة لمجمل نتاج الشاعر. وفي ما يأتي أباشر النظر في مجموعتين شعريتين للشاعر "سوء تفاهم طويل"، و"فصل خامس للرحيل"، إضافة إلى كتابه الجديد "أرني وجهك" من أجل وضع النتاج الأخير في سياقه التطوري أو التزامني، على ما يقال في اللسانية الحديثة، وتبياناً للمسار الذي سلكته أعماله الشعرية إلى حينه، وصولاً إلى تبيان طبيعة شعريته المشار إليها أعلاه.
سوء تفاهم طويل
في مجموعته الرابعة "سوء تفاهم طويل" التي أتاح لنا الشاعر الاطلاع عليها، بدا مهتماً بتيمة الهوية (صورة شمسية، 1-2-3-4) لتعيين تصور هجين عن ذات الكائن، من خلال مرجعياته الفكرية وانتمائه الطبقي الفقير، وهيئته الجسمانية القليلة، وقابليته على الانعطاب والموت. وتلي ذلك قصائد يركز فيها الشاعر على تيمات هي محور حياة الكائن المعاصر، مثل الوحدة، ومراتب الصمت، والمخاوف، وأسئلة البدايات، وإنكاره تصورات فرويد، وغيرها. ويصنع من ذلك كله شعراً فياضاً بوجدانية خافتة، وعميقة، معجوناً بلغة لا تركن إلى الكلام المتداول، معجماً وتراكيب وصوراً شعرية مضيئة لجدتها وكثافة دلالاتها، مما لا تفي الالتفاتة الحاضرة حقها: "عبثا تقنعني الريح/ أن أبقى مكاني/ ولو أن السماء/ تمدني بفصيلة من العصافير/ أكبر من السماء ذاتها/ حين يكون الشاعر شجرة/ عليه إذن/ في الفصول الأربعة/ أن يصمت/ أن يستمع لكلام البشر/ دون أن يجيب البتة/ أن يكون كله/ في ورقة/ وأن يراها تطير".
إذاً، لا يكاد الشاعر محمد ناصر الدين يغادر مجموعته الرابعة إلا وقد آنس من نفسه قدرة على محاورة كيانه العميق، انطلاقاً من وجهة نظره الخاصة وقناعاته المتشكلة من ثقافته الفلسفية والعلمية والأدبية التي لا يرى ضيراً من إيراد بعضها، وتجريب بنى تركيبية وأشكال من القصائد، وصولاً إلى اعتماد بنية النشيد الذي تنضوي تحته قصائد تتراوح أحجامها بين القصيرة والوسطى، ولكن إنجازه الأهم، والمتبلور لاحقاً، برأيي، إنما كان تركيزه على القصيدة - المشهد، واعتبار الصورة الشعرية المبتكرة أساساً عظيم الأهمية لبناء القصيدة، يرفدها مراس في ضبط التداعي وإدارته على النحو الذي يمثل فيه رؤية للعالم لا تخفى على المحلل، قوامها هشاشة الكائن الفرد، وغلبة مظاهر العدوان عليه، وعلى إطاره المحلي غير المحدد والمطلق بدلالاته، وطغيان حساسية مفرطة حيال الزمن، والمرض، والذاكرة البائسة، والعناصر، والكائنات التي تحف بهذا الكائن المعاصر الضئيل الوجود، والعديم الأثر، والعظيم الوتر والشكاية وتشكيل الكلام، عنيت به الشعر.
فصل خامس للرحيل
يواصل الشاعر محمد ناصر الدين مشهديته الشعرية في مجموعته الشعرية الخامسة "فصل خامس للرحيل" الصادرة عن دار النهضة العربية (2017)، موسعاً إطار عوالمه الموزعة بين العناصر الطبيعية الأربعة، على مرجعية باشلار، وبين الكائنات و"الحيوانات الأليفة"، ومواجع المشفى، والحرب، والفصول، والموتى، وغيرها، ناظراً فيها من كاميرته المتخلصة لتوها من الرومانسية، والذاهبة إلى عدمية واقعية، لتقتطف منهما مستحيلاً متوارياً عنيت الرجاء الممكن، والحياة الباقية، والحلم بجمال لم يندثر بعد، ولم يقل.
ولئن كانت عوالم الشعر، في هذه المجموعة، خارجة من إهاب الشاعر وجراحاته الشخصية (هندسة الطب)، فإن قادراً ما - ولربما كان الشاعر نفسه أو عديله - ما وني ينفح نفحتين اثنتين، واحدة للأسى والحزن الشفيف، يطلقه على التأمل في المصير البشري حيناً (جماجمنا)، وفي إثر مروره على "المشافي"، وتصويره تناوب الأمراض على الكائن المصاب بسرطان الدم وبغيره، و"نومه إلى الأبد تحت الأغطية البيضاء" (ص:18)، وحيناً آخر، إثر ترديده أغنيتين شجيتين للمصلوب (ص:24-25) مستعيراً فيهما نبرة طفولية بريئة من أجل أن يخط رسالة عن دوام الألم واجتراح الأعجوبة المستحيلة: "أن أمشي مثلك فوق الماء/ خلف بطة صغيرة".
أغنية ثانية
يداي صغيرتان/ لا تشبهان أيدي الفلاحين/ أو النجارين/ أو أصغر ملاكم من الهواة/ قدماي كذلك/ أيها الناصري/ لا قدرة لي على صليبك/ وعلى مساميرك الصدئة/ لديَّ طلب محدد وحيد/ منك/ أو من أبيك الذي في السماوات/ أن أمشي مثلك فوق الماء/ خلف بطة صغيرة" (ص:25).
في مثل هذه المشهدية الطالعة من قاع المعاناة، إلى إحدى ذرى الغرائبية المنسجمة مع طبيعة الوهن الإنساني ومآسي الواقع، تتسع رؤية الشاعر سعياً إلى الإحاطة بالألم البشري المادي من أجل تطويبه، أو نقشه شعراً لئلا ينمحق أثره، أو تتلاشى صور تشويهاته في ضحاياه، وينسى الجناة في غيبة الزمن. من ذاك القبيل، تسلط كاميرا الشاعر على ما تقترفه الحرب بحق الأطفال، كما يسلطها على الموت كظاهرة موازية للحياة، وعديلة لها، وحاثة عليها، في آنٍ. ويقول: "ثمة أشياء بمنتهى الجدية/ يفعلها الموتى في الأسفل/ الغناء ليهمد البركان/ الزفير لتخرج الوردة" (ص:53).
بيد أن الشاعر، وإن رضي بحضور الموت ختاماً للرحلة، فإن ذاته لا تني تأسى منه، فتطلق توصيفاً توازن فيه بين نوعين من الحياة. يقول: "تصاميم لحياة مكتملة أولى: زيتونة، مكتبة، مدينة حزينة، مقبرة مزدحمة/ تصاميم لحياة مكتملة ثانية/ وردة، كنيسة، خطبة، سرطان في الرئة/ يصعد الموتى في السماء أكثر قليلاً" (ص:48). ومع ذلك، يجد القارئ، في المجموعة الخامسة هذه كلاماً على الحب، والشعر، والصمت، والهذيان والموسيقى، مطعماً بغرائبية طفيفة، وبمرجعيات أسطورية وإيمانية وشعرية أليفة. يقول: "تخرج أمي من المسجد في ليلة القدر/ تدس في يدي مفتاحاً صغيراً/ أغلق باب شكك المشرع يا بني قليلاً/ أو علقه في عنقك قرب القلب تماماً/ وافتح لمن يطرقون جدار القفص برقة/ للعصفور في صدرك/ أمي التي تحفظ قصص الأنبياء/ عن ظهر قلب/ نقشت فوق المفتاح حكمة قديمة/ "الفأس والرصاصة/ لا تغيظان التماثيل العظيمة/ بل روث عصفور وخفته" (ص:62).
أرني وجهك أيها الهارب
في الكتاب الشعري الأخير 39 قصيدة تنقسم إلى محاور عديدة انقساماً غير متناظر هندسياً، ففي القسم الأول، بعنوان "الشعر في اليوم السابع" يفتتح الشاعر الكتاب، بأسلوب من يكون عالماً جديداً، وقد استعار أسلوب التوراة في سفر التكوين ("في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خاوية... وكان مساء، وكان صباح...") (تكوين-1-5)، من أجل أن يرسم لوحته الشعرية الكبرى، من خلال لوحتين -قصيدتين وهامش وحيد، يقول فيهما إن الشعر الذي يباشره إنما هو نسيج خليط من أسطورة وديانات وعناصر، وتدخل نبوي (موسى، ويوسف) وسحرة:"موسى يعقد هدنة مع السحرة/ يوسف يعانق إخوته/ فقط حين ينزل الشعر إلى الجب/ ويخرج بحبة ملونة" (ص:6).
وفي اللوحة الثانية، يرسم الشاعر إطارين متقابلين، جبل من الفقراء، على "بعد ربوتين في الجليل/ (حيث) كانت المعجزة أوهن من أن تجد العرس"، وطائرة هوشع (بن نون) كناية عن القائد الإسرائيلي السفاح على صورة سلفه التوراتي الذي "يحول دورة الدم في أوردتهم (الفقراء)/ إلى دم فوق الأشجار/ هللويا... هللويا" (ص:8).وعلى هذا النحو، يواصل الشاعر محمد ناصر الدين بسط رؤيته العالم من خلال لغة شعرية لا تني تتكون، وتزداد رموزاً، ومحمولات أسطورية، ووضوح خطاب فضاح للتسلط والعدوان المتمثل "بطائرات يوشع بن نون" (ص:12).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يزال الشاعر موسعاً عالمه، ومتدرجاً من زمن الأسطورة إلى الزمن الواقعي، الذي تتبدى فيه ملامح المعركة، بين مقاومين والعدو الذي يترك "دبابة على تخوم القرية" (ص:26). هذا، من دون أن تعلو نبرة الشاعر، أو يشحن شعره بأكثر العواطف الوطنية أو الشعارات السياسية، وإنما بجعله الشعر يقارع بالرمز وحده، رموز العدوان، مبيناً فداحة ما يصنعه تجميد الزمن، وتوثين النصوص التوراتية، وتحويلها إلى سلاح فتاك لقمع أهل الجوار (الجنوب، حيث أهل الشاعر) وشعب فلسطين الأصيل. ولربما حاز الشاعر بذلك الترميز العام نعمة مضافة، إلى نعم الشعر الخالص، وهي الارتقاء بلغة الشعر لدى ناصر الدين، وبهذا المنظور، إلى مرتبة الصراع بين حضارة الرمز والسحر والابتهال، وحضارة القوة العارية والاعتداد الهوياتي المغالب للزمن ومنطقه.
لا يتسع المجال للكلام على النزعة الأورفية في الكتاب، من خلال الأغنيات التي صاغها الشاعر لأجل الفصول ("يخلق الشعر فصوله ويفاضل بينها"، ص:66-71)، ولا يتيح الحديث عن النزعة الغنائية - الوجدانية في قصائد الغزل العالي (ثم ينطق الحب، روحك، قلبك، اسمك، شعرك، وجهك...). وكثير مما يصنع رونق الشعر، ويكمل صرحه، ويترك للقارئ النبه.
مظاهر اللغة الشعرية
لمن قرأ أعمال الشاعر الأولى وصولاً إلى مجموعته الخامسة والسادسة الصادرة حديثاً، المشار إليها أعلاه، وتنبه لمظاهرها اللافتة، لا بد أن يتنبه إلى الأمور الآتية:
أولها، وأهمها على الإطلاق، أن الشاعر محمد ناصر الدين ارتقى بصيغ التداعي، أو الترابط غير المنطقي، بين الكلمات، ولا سيما في تكوينه المشاهد الشعرية السالف وصفها باعتبارها صوراً شعرية كبرى، إلى مراتب عليا، لم يعهدها شعر قصيدة النثر، إلا أقله. ولعل هذا ما يوفر للقارئ غير المتعجل فرصة للتأمل واستبطان الدلالة التي يحملها الكلام الشعري المصوغ على هذا النحو.
ثانيها، أن الشاعر لم يبد أنه ضاعف معجمه، على مدار مجموعاته الخمس، والمجموعة الأخيرة أيضاً "أرني وجهك أيها الهارب" التي أتى الحديث عنها، سوى أن هذا المعجم ما وني يتسع مع اتساع المشاهد الشعرية، وتنوع المفردات، وتزاحم وظائفها، بين معجم العناصر الأربعة، والرموز الدينية، والأساطير، والمفردات المستلة، عبر التناص، من نص آخر ("نيسان أقسى الأشهر"، أرض اليباب، لتي أس إيليوت)، ومعجم المرض والموت والحب، وغيرها.
ثالثها، حرص الشاعر ناصر الدين على استخدام كل التراكيب والبنى الجملية والمداورات، مثل تقنية التكرار، والقلب، والإبدال، والتوازي، والتوازن، والتفريع، والكولاج، والتراصف، في جهد تشكيلي جديد بقصيدة النثر، يحاكي فيه الشاعر التشكيل الفني في المنمنمات الشرقية، حيث تتراصف الكائنات المرسومة لتصنع المشهد الفني على صورتها الأصلية أو ما شبه للشاعر: "زيتونة، مكتبة، مدينة حزينة، مقبرة مزدحمة..." (ص:48).
ورابعها، جرأة الشاعر في محاكاة أساليب غالبة في نصوص دينية (التوراة، والقرآن، الشيرازي، الإنجيل، الأرض اليباب، قصيدة الهايكو، إلخ) لتكوين قصائد نثر، تكون أقدر على حمل دلالات كثيرة. حسبي، أن كل ما عددته، ووصفته، يُنمى إلى شعرية الشاعر محمد ناصر الدين، وعالمه الرمزي، على ما لمح تودوروف، في مستهل المقال.