ملخص
لم يعد ثمة ما يحول دون انضمام المرأة إلى خوض غمار الرحلة، وتجشّم مشاق السفر، وتذوّق متعة الاكتشاف
في تاريخ أدب الرحلة العربي، لطالما كان الرحّالة من الرجال. ولعل ذلك يعود إلى أن الرحلة كانت تتمّ بوسائل نقل بدائية، وأن الطرق غالباً ما كانت محفوفة بالمخاطر، وأن الرجل أكثر قدرة من المرأة على تحمّل مشاق الرحلة ومواجهة المخاطر الداهمة. فبقي الخوض في ذلك النوع الأدبي، في القرون السابقة، حكراً على الرجل، إلى حدٍّ كبير. أمّا في العصر الحديث، وفي ظل وسائل النقل الحديثة وتوافر سلامة الانتقال، فلم يعد ثمة ما يحول دون انضمام المرأة إلى خوض غمار الرحلة، وتجشّم مشاق السفر، وتذوّق متعة الاكتشاف، وتدوين الانطباعات والمشاهدات بعيون المرأة، وهي تختلف بالتأكيد عن عيون الرجل. ولم يعد أدب الرحلة وقفاً على الرجل وحده. وإذا بمجموعة من الكاتبات العربيات المعاصرات يخضن هذا الغمار، ويخلّفن آثاراً في أدب الرحلة تستحق القراءة. وحسبنا أن نذكر، في هذا السياق، غادة السمان، ليلى العثمان، منصورة عز الدين، شيرين عادل، سامية علي، عائشة بلحاج، وسواهن من الكاتبات.
من هذه الشرفة، نطلّ على كتاب "الطريق إلى كريشنا / رحلات في كشمير والهند" للرحالة الأردنية سناء كامل أحمد شعلان، الصادر أخيراً عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت و"دار السويدي للنشر والتوزيع" في أبو ظبي، في إطار سلسلة "ارتياد الآفاق" التي أربى عدد حلقاتها على الثلاثمئة حلقة مع ولوج عقدها الثالث، ما يشكّل نواة مكتبة كبرى لأدب الرحلة في الثقافة العربية. مع الإشارة إلى أن الكتاب، موضوع هذه الإطلالة، حائز جائزة ابن بطوطة ـ فرع الرحلة المعاصرة 2022 ـ 2023.
على أن الكتاب ليس الأوّل الذي يتخذ من الهند موضوعاً له، وأن الرحالة شعلان ليست أوّل من شدّ الرحال إلى شبه القارة الهندية. ولعل أوّل من قام بذلك هو الرحالة محمد بن أحمد البيروني، في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، خلال مرافقته السلطان محمود الغزنوي، فأقام في الهند أربعين سنة تمخّضت عن كتاب ضخم هو "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة". ولعل آخر من قام بذلك الرحالة هي المصرية سامية علي في عام 2017 التي دوّنت وقائع رحلتها إلى الهند في كتابها "أناماستي". ويأتي "الطريق إلى كريشنا" ليكون ثالثة الأثافي في هذا السياق. ومن البديهي أن لكلٍّ من الرحالة الثلاثة عيونه ومشاهداته وانطباعاته المختلفة عن الآخر، وإن كان يجمع بينهم الارتحال إلى المكان نفسه. فما الذي يميّز هذا الكتاب عن سواه؟ وما هي المدائن التي جابتها الرحالة؟ وما هي الغنائم التي عادت بها؟
علامات فارقة
في الإجابة عن السؤال الأول، يمكن الإشارة إلى أن الكتاب وضعته امرأة، وهي ميزة أولى في أدب الرحلة العربي. وأنه نتاج "تجربة أنثوية مزدوجة" لأنّها قامت بالرحلة مع أمّها الأديبة نعيمة المشايخ، وكتبت بقلمها صدى صوت أمها "وهي تحدّث الأقارب والأهل والأصدقاء والجيران عن رحلاتها بصوتها الحنون المنفعل المتحمّس الذي يريد أن ينقل للمستمع كل ما رأى، وسمع، وأحسّ"، وهي ميزة ثانية. وأن الرحلات تمّت في عامي 2016 و2017، في إطار المشاركة في مؤتمرات علمية وندوات جامعية، ما يجعل العلمي إطاراً للرحلي، وهذه ميزة ثالثة. ناهيك بأن الكتاب هو نتاج عيون أربعة وليس عينين اثنتين ما يجعل حقل الرؤية أوسع، وهذه ميزة رابعة. أمّا في ما عدا ذلك، فلا ريب أن الكتاب يتقاطع مع سواه في رؤية الغرائب والعجائب والتناقضات والمفارقات الكثيرة التي تزخر بها بلاد الهند، وسبر أغوار النفوس، واكتناه أسرار العقائد، ورصد أنماط العيش، ومعرفة العادات والتقاليد، ممّا يشكّل الحضارة الهندية ذات التعدّد العرقي والديني والثقافي.
في الإجابة عن السؤال الثاني، تقوم الرحّالة وأمّها بأربع رحلات مختلفة، يرافقهما فيها أصدقاء أكاديميون؛ الأولى في كشمير وجبال الهيمالايا، الثانية في آغرا، الثالثة في نيودلهي، والرابعة في كلكتّا. وتخصّص لكل رحلة فصلاً مستقلاً من كتابها، غير أن هذه الفصول تتفاوت في ما بينها، من حيث الطول؛ فيشكل الأوّل منها سُبْعَ الكتاب، والثاني تسعَهُ، والثالث حوالى نصفه، والرابع رُبْعَهُ. وبذلك، يفتقر الكتاب، في الشكل، إلى التناسب بين الفصول، وهو ما ينعكس على المضمون، بطبيعة الحال. على أن فعاليات الرحلات الأربع تتوزّع على: التمتّع بالجمال الطبيعي جبالاً وأودية وبحيرات وينابيع، التمتّع بالجمال العمراني معابد وأضرحة ومرافق سياحة، التمتّع بالجمال البشري نساءً ورجالاً، زيارة الأسواق، ارتياد المطاعم، معاينة الصروح العلمية، الاحتكاك بالناس، الاطلاع على العقائد الدينية، والتعرّف إلى العادات والتقاليد وأنماط العيش، وغيرها من الفعاليات، ممّا يتصل بالطبيعة والإنسان والفن والتاريخ والجغرافيا والإثنوغرافيا والدين والثقافة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، تتجاور في الكتاب الحقول المعرفية المختلفة، تنتقل الكاتبة بينها بسهولة ويسر، تراقب وتدوّن وتحلّل وتقارن وتستنتج، إلى ما هنالك من مهارات عقلية وعاطفية وأدوات معرفية توظّفها في اكتشاف المكان وسبر أغوار الناس. يساعدها نزوع نحو المغامرة وشغف المعرفة ومتعة الاكتشاف ودقّة الملاحظة وسعة المعرفة، وتعود من جرّاء ذلك كلّه بغنائم معرفية ونفسية كثيرة.
غنائم وفيرة
في الإجابة عن السؤال الثالث والأخير، تعود الرحّالة من رحلاتها بغنائم معرفية وفيرة، تشتمل على الكثير من المفارقات والتناقضات، وتتعلّق بالطبيعة والشعب والإنسان، فالهند بلاد الغرائب والعجائب، على كلّ الصعد. وإذا كانت الحقائق الجغرافية والتاريخية والأنتروبولوجية مطروحة في الطريق ويمكن للقاصي والداني الاطلاع عليها، فإنّ مهمّة الرحالة، برأيي، كشف الخصوصية واكتشاف المُفارِق واقتناص الغريب، وهو ما تقوم به شعلان، بالاستناد إلى مصادر العيان والسماع والقراءة وغيرها. ففي الخصوصيات الهندية، تشير الكاتبة إلى ما يأتي، على سبيل المثال لا الحصر: الجغرافيا الهندية هي حسن جوار بين الجبال الثلجية والصحارى الرملية والأراضي العشبية. "السفن الخشبية الراسية في البحيرات هي مقاهٍ راقية ومطاعم وفنادق نهرية". الشاي الكشميري مالح. القهوة الكشميرية مصنوعة من الزعفران والثمار الجافّة. المطبخ الهندي مترعٌ بالبهارات والتوابل. العلماء والباحثون والطلبة يتمتّعون بحظوظ كبيرة من الأدب واللياقة والكياسة. كبار السن هم موضع تقدير وإجلال. الرأس الهندي يتم تدليله بضروب العمامات والقبعات واللفائف والمناديل، إلى ما هنالك من خصوصيات تتعلّق بالمكان وأهله.
مفارقات وغرائب
وفي باب المفارقات، نقرأ ما يأتي، على سبيل التمثيل: كشمير جنّة الأرض المحترقة بالحروب. عدد من يملكون الهاتف النقّال أكبر من عدد الذين يملكون المراحيض في بيوتهم. نيودلهي تجمع بين وجه جميل أنيق في الأماكن الرسمية والتاريخية ووجه متغوّل عريض في الفقر والجوع والاكتظاظ والتلوّث. "العالم الهندي الهندوسي أو البوذي يترك عقله في المختبر، ويخرج إلى الحياة من دون عقله، فيصدّق ما يصدّق به السذّج والدهماء والحمقى...". الهندي مسالم لطيف لكنه سرعان ما يصبح دموياً إذا ما تعلّق الأمر بمعتقداته. المتسوّل الهندي قد يتضوّر جوعاً لكنه يطير إلى المعبد للتبرّع بقطعة ذهب حصل عليها، وغيرها من المفارقات التي تزخر بها المجتمعات الهندية.
أما في باب الغرائب فحسبنا أن نعرف، على سبيل المثال، أن قرية بخاربورا في كشمير تبيع بناتها على شكل جوارٍ وإماء لعجز الأهل عن تأمين مهور الزواج لهن، وأن بعض الهندوس يتعبّدون قطعاً جليدية على شكل العضو الذكري باعتباره رمزاً للخصوبة والحياة، وأن بعض القبائل في الهيمالايا يتشارك الإخوة فيها في الزوجة والأبناء، وأن المرأة قد تحرق نفسها حية مع زوجها المتوفّى، إلى ما هنالك من غرائب وعجائب تزخر بها تلك البلاد المترامية الأطراف.
وعلى رغم أن الكاتبة تحرص على توخّي الموضوعية في التوثيق والدقّة في الانطباع والصدق في المشهد، فإنّها لم تسلم من بعض الهنات التي تعتور عملها؛ ففي مقاربتها الخصوصيات والمفارقات والغرائب قد تسقط في التعميم وتسحب الجزء على الكل. وفي معرض التطرّق إلى معتقدات الآخرين وعباداتهم نراها تسخر منها في بعض الأحيان وهو ممّا يتنافى مع القواعد الذهبية للرحّالة التي تذكر بعضها. إضافة إلى أنّها تتحدّث عن أماكن لم تزرها معتمدة على مصدر السماع وهو لا يرقى إلى مرتبة العيان بطبيعة الحال. غير أن هذه الهنات لا تقلّل من أهمية "الطريق إلى كريشنا" التي تستحق السلوك ولو بالقراءة، ولا بدّ لقارئها أن يصل إلى المتعة والفائدة في نهاية الطريق.