ملخص
لطالما مثلت الأحياء المهمشة في العالم العربي حاضنة رئيسة للانتفاضات ضد السلطة
سلطت أعمال الشغب التي شهدتها فرنسا، أخيراً، بسبب مقتل الفتى المراهق نائل المرزوقي، الذي يتحدر من أصل جزائري في ضاحية نانتير الباريسية الضوء على أزمة الضواحي في البلاد، لكن هذه الأعمال التي نجحت السلطات في إخمادها بصعوبة تشكل إنذاراً حاداً للحكومات للالتفات إلى الأحياء الشعبية التي عادة ما يتم وصمها بالتمرد والانتفاض بوجه السلطات في شتى أنحاء العالم.
وتقف لحظات تاريخية على غرار استقلال بعض الدول أو الثورات الكبرى وراء تشكل الأحياء الشعبية أو الضواحي كما يحلو للبعض تسميتها، لكن ماذا نعرف عن هذه الضواحي، وما أبرزها، وهل يواجه سكانها صعوبات تدفعهم فعلياً إلى الانتفاض بوجه السلطات؟
ثورات صناعية وهجرة دولية
كثير من القصص تحكى على الضواحي والأحياء المهمشة في عديد من دول العالم، فمثلاً عند تفجر أعمال عنف، تسارع في أحيان كثيرة الحكومات إلى اتهام سكان هذه الضواحي بافتعال المشكلات في مواجهة الدولة، لكن كيف نشأت هذه الضواحي؟ سؤال لا يزال ينتظر جواباً.
يقول مؤرخون، إن هذه الأحياء ولدت من رحم المعاناة التي يواجهها أبناء الأرياف الذين أجبرهم التهميش والفقر في مراحل تاريخية إلى ترك منازلهم والنزوح إلى المدن حيث تمكنوا من الاستقرار في مناطق محددة، لكنها تمكنهم من الولوج إلى وظائف سواء في المناطق الصناعية أو غيرها.
كما يرجح هؤلاء أن هذه الظاهرة وصلت إلى ذروتها مع انطلاق الهجرة من دول الجنوب إلى القارة العجوز أو من دول أميركا إلى الولايات المتحدة في مسعى من المهاجرين لتوفير لقمة عيشهم.
ويقول عادل الطيفي، وهو مؤرخ تونسي مقيم في فرنسا، إن "ظاهرة الأحياء الشعبية يرجع ظهورها تاريخياً إلى ظهور الدولة الحديثة بصفة عامة وكل ما أتى في هذا الإطار حيث تعتمد هذه الدولة على المدينة وليس على الأرياف، في أنشطة اقتصادية وصناعية وغيرها وتطورت بعد القرن 19 هذه الأنشطة في شكل خدماتي وغيره على حساب الريف والمجتمع الزراعي".
وتابع الطيفي أن "هذه نتيجة للمنظومة الحضرية للخروج من الدولة التقليدية التي هي دولة زراعية إلى دولة المدن وهي دولة الصناعة، وظهرت الأحياء الشعبية أساساً خلال الثورة الصناعية حيث كان يقطن هذه الأحياء العمال. وكانوا يقطنون خصوصاً في وسط المدن للاقتراب من المصانع، ومصدر هذه الأحياء هم سكان الأرياف الذين نزحوا من الريف نحو المدينة"، لكن هذه الأحياء ليست حكراً على الدول التي شهدت طفرة في الإنتاج والصناعة حيث تعرف البلدان النامية انتشاراً واسعاً لهذه الأحياء مثل: لبنان، وتونس، ومصر وغيرها.
وقال الطيفي، إنه "بالنسبة إلى البلدان النامية تطور نفس هذا السيناريو بعد الاستقلال وموجات من الهجرة انطلقت من الأرياف نحو المدن وهو ما يعكس أزمة الريف في البلدان النامية، وهناك لحظة أخرى عرفت تنامي الأحياء الشعبية هي لحظة تفاقم الهجرة الدولية أي الانتقال من الهجرة الداخلية إلى الهجرة الدولية. وأتت أعداد كبيرة من المستعمرات لتعزز المناطق العمالية الموجودة أصلاً في الدول الأوروبية والولايات المتحدة".
أبرز الأحياء
بعد فرنسا، وخصوصاً العاصمة باريس، التي يتوارى خلف بريقها وإشعاعها العالميين ضواح مهمشة بدأت تثور بوجه السلطات، توجد في أوروبا عديد من هذه الأحياء التي تعيش على الهامش وتواجه تحديات عدة من بينها الآثار الناجمة عن الفقر والتهميش. ومن أبرز هذه الأحياء، حي مولنبيك في العاصمة البلجيكية بروكسل.
ويقطن هذا الحي نحو 100 ألف شخص، وهو من الأحياء التي عرفت بسمعة سيئة في وسائل الإعلام البلجيكية لا سيما بعد ارتماء كثير من شبابها في أحضان تيارات أصولية متشددة إثر سنوات من التهميش الذي عانوه بسبب السلطات المركزية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتحدر عدد من الإرهابيين الذين نفذوا اعتداءات في القارة العجوز بالفعل من مولنبيك على غرار صلاح عبدالسلام، الناجي الوحيد في الاعتداء الذي عرفته باريس في عام 2015، وتم اعتقاله في الحي إثر ذلك.
وفي بريطانيا، لا تختلف الصورة كثيراً حيث توجد عديد من الأحياء بل ومدن بأكملها يشعر سكانها بالقطيعة شبه التامة مع السلطات المركزية على غرار: ليفربول، إنفيلد، توتنهام، كلافام. وهذه الأحياء وصفها تقرير سابق لصحيفة "لوموند" الفرنسية بأنها تقدم نموذجاً للتعايش وقت الازدهار الاقتصادي، بينما يمكن أن تغذي الانقسام خلال الأزمات.
وفي عديد من المناطق الحدودية في العالم شيدت ضواح جديدة مدفوعة بموجات الهجرة على غرار ما يحدث على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، أو جزيرة لامبيدوزا الإيطالية التي تمثل قبلة المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا.
في مثل هذه المناطق بدأت تتشكل أحياء وضواح في قطيعة مع السلطات، وباتت تمثل ما يشبه قنبلة موقوتة بوجه السلطات قابلة للانفجار بأي لحظة، خصوصاً في ظل التعاطي الرسمي والأمني مع تلك المناطق وقاطنيها.
وفي العالم العربي، لطالما مثلت الأحياء المهمشة حاضنة رئيسة للانتفاضات ضد السلطة على غرار ما حدث في تونس التي كانت مهد ثورات ما يسمى "الربيع العربي"، حيث بدأت الانتفاضة من ولاية سيدي بوزيد من منطقة مهمشة، لتزيد في إشعالها مناطق أخرى يتم وصمها محلياً بالعنف مثل حي التضامن الشهير أو حي النور بالعاصمة وغيرهما.
ثقل سياسي
واللافت أن هذه الأحياء سرعان ما يتزايد عدد ساكنيها الطامحين لتحصيل وظائف أو اللجوء إلى مناطق يكون الإيجار فيها بأثمان في متناول دخلهم، أو غير ذلك.
وبثقل ديموغرافي كبير، أصبحت تلك المناطق قبلة الأوساط السياسية التي ترنو إلى استمالتها خصوصاً في المحطات الانتخابية المفصلية، فعلى سبيل المثال يبني كثير من المرشحين حملاتهم على دعم الفقراء ويعملون على استدرار عطفهم من خلال جولات داخلها متحدين الصورة النمطية التي تلاصق هذه الأحياء.
ويقول عادل الطيفي، إن "هذه الأحياء أصبحت شيئاً فشيئاً تشكل مركز ثقل ديموغرافي وسياسي خصوصاً بالنسبة إلى الأحزاب اليسارية. ولاحظنا تأثير هذه الأحياء في بلدان عدة، ففي فرنسا عام 1936 في إطار الأزمة الاقتصادية العالمية، أوصلت هذه الأحياء حكومة الجبهة الشعبية التي هي حكومة يسارية".
ويشدد المتحدث على أن "المشكل في هذه الأحياء يكمن في الثقافة والاندماج، والأجانب مقارنة مع السكان الأصليين، وتفاقم هذا المشكل خصوصاً في سنوات الثمانينيات والتسعينيات وأخيراً مع صعود الإسلام السياسي كتعبير من تعابير الوجود المهاجر في الخارج، وأصبح ينظر بنوع من الريبة إلى هؤلاء السكان، وفي المقابل بقيت أجهزة الشرطة تعامل هذه الأحياء بطريقة تنم عن أنها مصدر قلق وتوتر أمني وفساد وجريمة، وتركت هذه الأجهزة لوحدها بسبب غياب سياسات عمومية تسعى إلى دمج هذه الأحياء الشعبية".