Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يعيد كيسنجر الدفء للعلاقات الأميركية - الصينية؟

سياسته الواقعية قد تجد آذاناً صاغية من إدارة بايدن لكن الرياح المضادة عاتية

كيسنجر خلال لقائه مع الرئيس الصيني: استذكار لدور تاريخي (رويترز)

ملخص

سياسة كيسنجر الواقعية التي اتبعها طوال حياته قد تجد آذاناً صاغية من إدارة بايدن التي تعمل على المبادئ نفسها

مع زيارة وزير الخارجية الأميركي السابق ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر لبكين واستقباله من قبل الرئيس الصيني شي جينبينغ وكبار المسؤولين الصينيين في حفاوة بالغة كصديق قديم، ثارت تساؤلات حول ما إذا كان الرجل الذي تجاوز سنواته الـ100 من العمر، في مايو (أيار) الماضي، ما زال قادراً على ممارسة الدور نفسه الذي لعبه قبل أكثر من نصف قرن حينما زار الصين سراً، عام 1972، وفتح الباب لتحول هائل في العلاقة الأميركية - الصينية، فهل يعيد التاريخ نفسه وينجح كيسنجر في ما فشل فيه المسؤولون الرسميون اليوم، أم أن العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها ذهبت إلى نقطة اللاعودة في التنافس الجيوسياسي بين القوتين؟

الثعلب في الصين

على رغم أن هاينز ألفريد كيسنجر وهو الاسم الأصلي لهنري كيسنجر حين ولد في ولاية بافاريا الألمانية، عام 1923، احتفل بعيد ميلاده الـ100 قبل شهرين، فإنه ما زال يلقى آذاناً صاغية من كبار قادة العالم حتى الآن، ويقدم نصائحه الجيوسياسية بمهارة كبيرة، الأمر الذي يثير الإعجاب، فالرجل الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في سن الـ15 مع عائلته وأصبح أميركياً في سن الـ20، اجتهد بما يكفي منذ الصغر لينال كل هذا التقدير، وحصل على الدكتوراه في التاريخ عام 1958، من جامعة "هارفرد" العريقة عن بحث موضوعه سلام الـ100 عام في أوروبا من الحروب النابليونية إلى الحرب العالمية الأولى، قبل أن يختاره الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، عام 1969، ليشغل منصب مستشار الأمن القومي ثم عينه وزيراً للخارجية مع الاحتفاظ بمنصبه السابق بين عامي 1973 و1975، وبقي كيسنجر سيد الدبلوماسية الأميركية في عهد جيرالد فورد بعد استقالة نيكسون.

لكن ما أكسب كيسنجر لقب "ثعلب الدبلوماسية"، يعود إلى سياسته المعروفة باسم "السياسة الواقعية" خلال هذه الفترة المتخمة بالأحداث والتحولات السياسية من خلال وضع الأيديولوجيا والمثالية في مقعد خلفي لتحقيق المصلحة الوطنية الأميركية، فقد أطلق انفراجاً في العلاقات مع الاتحاد السوفياتي وسط احتدام الحرب الباردة بين القوتين العظميين في ذلك الوقت، وأجرى مفاوضات سرية لإنهاء حرب فيتنام والتي نال بمقتضاها جائزة "نوبل" للسلام مع الفيتناميين الشماليين، عام 1973، على رغم الجدل السياسي الذي صاحبها.

غير أن أهم ما ارتبط باسم كيسنجر طوال تاريخه، هو نجاحه في تجاوز الصعوبات وتطبيع العلاقات مع الصين عبر استغلال الخلاف الناشئ بينها وبين الاتحاد السوفياتي لتحسين العلاقة شبه المعدومة مع بكين، منذ أن هزم الشيوعيون الصينيون أعداءهم القوميين المدعومين من الولايات المتحدة عام 1949، وهي الجهود التي توجت بزيارة نيكسون التاريخية للصين، عام 1972، ولقائه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، ما أدى إلى مزيد من الخلاف بين بكين وموسكو ومهد الطريق لعالم أكثر أماناً.

رهان بكين

وفي حين أن كيسنجر زار بكين بشكل متكرر منذ أن ترك منصبه وألقى عديداً من الخطابات هناك، إلا أن زيارته الحالية حملت مغزى خاصاً كونها تأتي وسط تراجع حاد في العلاقات مع الولايات المتحدة، بينما تراهن بكين على إحياء الزخم الإيجابي في العلاقة مع واشنطن مع تحذير إدارة الرئيس جو بايدن، في الوقت نفسه من أنه من المستحيل تحويل الصين أو تطويقها أو احتوائها، بحسب ما أشار كبير الدبلوماسيين في الحزب الشيوعي وانغ لي خلال لقائه كيسنجر الذي وصفه بأنه صديق قديم لعب دوراً لا بديل له في تعزيز التفاهم المتبادل بين البلدين، بينما تتطلب سياسات الولايات المتحدة تجاه الصين حكمة دبلوماسية على غرار كيسنجر وشجاعة سياسية على غرار نيكسون.

ويرى مراقبون، في واشنطن، أن استقبال الصين الدافئ والحماسي لكيسنجر مقارنة باستقبال المسؤولين الأميركيين بمستويات متفاوتة من البرودة، هو أحدث مثال على كيفية وصول بكين إلى القنوات غير الرسمية لتوسيع نطاق رسالتها ومحاولة التأثير في تفكير واشنطن من خلال التواصل مع من تعتبرهم أكثر انسجاماً مع موقفها مثل كيسنجر ومن قبله قادة الأعمال الأميركيين مثل بيل غيتس وإيلون ماسك ما يؤكد رغبتها في التعاون وتسليط الضوء على العلاقة الاقتصادية الطويلة الأمد بعدما أصبحت أكثر تشككاً تجاه إدارة بايدن، وفي بعض الأحيان محبطة منها بشكل علني.

مقاومة الاحتواء

ومع اقتراب منافسات الانتخابات الرئاسية الأميركية بين المرشحين في الحزبين، التي من المرجح أن يكون فيها المرشحون أكثر انتقاداً للصين، تراقب بكين توحد الجمهوريين والديمقراطيين ورغبتهم في البقاء صارمين في سياساتهم وأجندتهم مع بكين، ولهذا تسعى بكين إلى مقاومة ما ترى أنه سياسة احتواء للصين على المستويات الجيوسياسية والعسكرية والتكنولوجية كافة من قبل إدارة بايدن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكجزء من هذه المقاومة، تتبع الصين استراتيجية متعمدة من أجل خطب ود الشخصيات الأميركية التي قد تساعد على تغيير الآراء في واشنطن ولديها اهتمام ومصلحة في الاقتصاد الصيني والعلاقة بين الجانبين بشكل عام، بحسب ما يقول الرئيس السابق لتحليل الصين في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية دينيس وايلدر، وهو ما يتفق معه أستاذ العلاقات الدولية في جامعة "نانجينغ" تشو فنغ، من أن زيارة كيسنجر أشارت إلى قلق بكين في شأن كيفية التأثير وإقناع النخب السياسية الأميركية للحد من قمعهم الاستراتيجي للصين، في وقت كانت فيه مثل هذه الأصوات نادرة في واشنطن.

استحضار تاريخ كيسنجر

كثيراً ما تستحضر بكين فترة السبعينيات من القرن الماضي حيث عمل كيسنجر وزيراً للخارجية وساعد في تمهيد الطريق لزيارة نيكسون التاريخية للصين، في عام 1972، كمثال لعصر ذهبي في العلاقات الثنائية، وهي الرحلة التي أدت إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين واشنطن والصين التي كان يحكمها الشيوعيون، وأوضح المسؤولون الصينيون أن المسؤولين الأميركيين يجب أن يتعلموا من مواقف كيسنجر المؤيدة للانخراط مع بكين بعد أن توترت العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة.

وعلى سبيل المثال، سلطت الصين الضوء على الأهمية التاريخية لمكان اجتماع الرئيس الصيني شي جينبينغ مع كيسنجر، واختار المسؤولون الصينيون فيلا رقم خمسة من دار ضيافة الدولة "دياويوتاى"، وهو المبنى نفسه حيث التقى كيسنجر قبل نصف قرن مع تشو إنلاي رئيس الوزراء الصيني، في ذلك الوقت، وانعكس هذا في كلمات ترحيب الرئيس الصيني التي قال فيها إن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة سترتبط إلى الأبد باسم كيسنجر، ونقلت وسائل الإعلام الصينية عن الرئيس شي رغبته في أن يستمر كيسنجر والأشخاص ذوو البصيرة في الولايات المتحدة في لعب دور بناء في التقريب بين الصين والولايات المتحدة، وأن تعود العلاقات إلى المسار الصحيح.

رسائل صينية

وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن زيارة كيسنجر ليست سوى جزء من سياسة تتودد بمقتضاها الصين إلى قادة الرأي والأعمال الأميركيين. وأشارت إلى أن زيارات هؤلاء إلى بكين لم تقتصر على بيل غيتس وإيلون ماسك، فهناك قائمة طويلة من شخصيات مماثلة مثل الرئيس التنفيذي لشركة "أبل" العملاقة تيم كوك والرئيس التنفيذي لمؤسسة "جيه بي مورغان" تشيس جيمي ديمون اللذين زارا الصين، هذا العام، ما يشكل فرصة للصين لإرسال رسالة للداخل المحلي حول الثقة الأجنبية في الاقتصاد الذي واجه تعافياً غير مؤكد.

ووفقاً لمدير برنامج الصين في مركز "ستيمسون" في واشنطن يون صن، فقد أصبحت هذه الرسائل أكثر أهمية بالنسبة لبكين التي تريد الاحتفاظ بالمستثمرين الأجانب وبخاصة في قطاع التكنولوجيا بعد أن دهم مسؤولون صينيون مكاتب شركات أميركية أو استجوبوا موظفيها مثل شركة "باين أند كومباني"، ما أثار مخاوف عديد من الشركات الأجنبية.

أين تقف واشنطن؟

ومع بدء زيارة كيسنجر، التي كانت واشنطن على علم بها من الصينيين أنفسهم خلال زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأخيرة لبكين، أوضحت الخارجية الأميركية أن كيسنجر ذهب إلى الصين كمواطن عادي وليس نيابة عن الحكومة الأميركية، كما استغرب المسؤولون الأميركيون أن يستقبل وزير الدفاع الصيني بحفاوة كيسنجر في حين رفض لقاء وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، قبل أسابيع قليلة، في سنغافورة بسبب فرض واشنطن عقوبات عليه تمنعه من زيارة أميركا نتيجة شراء الصين أسلحة من روسيا عام 2018.

ومع ذلك، فإن واشنطن تتطلع لإعادة ضبط العلاقة مع بكين بعد أشهر من التوتر والجمود الشديد، إذ بدأ البلدان بإعادة الانخراط في قضايا مثل التجارة وتغير المناخ، لكن التقدم كان محدوداً، إذ خرج مبعوث الرئيس بايدن للمناخ جون كيري من المحادثات، هذا الأسبوع، في الصين خالي الوفاض من دون اتفاقيات جديدة، فيما جادلت بكين بأن المشكلات في العلاقة تعوق تعاونها مع واشنطن في شأن مكافحة الاحتباس الحراري.

هل ينجح كيسنجر؟

وما زال كيسنجر يتمتع بقسط من التأثير في مجتمع النخبة السياسية في واشنطن وليس أدل على ذلك من حرص وزير الخارجية بلينكن على حضور الاحتفال بعيد ميلاد كيسنجر الـ100 في نيويورك، كما أشارت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون إلى أنها كانت تستمع إلى نصائح كيسنجر خلال شغلها لمنصبها.

ومع ذلك، فإن كيسنجر الذي حث من قبل على التعاون بين الصين والولايات المتحدة والقضاء على سوء الفهم والتعايش السلمي وتجنب المواجهة لأنه لا يمكن تعامل كل طرف مع الآخر كخصم، قد يواجه رياحاً مضادة في واشنطن أقوى مما يتصور بالنظر إلى أن التوترات ما زالت عالية، والهوة متسعة بين الجانبين، إذ تريد الصين من الولايات المتحدة رفع القيود المفروضة على التكنولوجيا وكبح دعمها لتايوان ووقف ما تعتبره بكين استراتيجية احتواء تركز على بناء علاقات أمنية مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء آسيا، وقد تتفاقم أزمة العلاقات أكثر إذا فرضت إدارة بايدن قيوداً جديدة على الاستثمارات الأميركية في الشركات الصينية العاملة في الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، وهو ما حذر منه سفير الصين في واشنطن محذراً من أن بكين سترد على واشنطن.

سياسة كيسنجر الواقعية

ومع ذلك، فإن سياسة كيسنجر الواقعية التي اتبعها طوال حياته قد تجد آذاناً صاغية من إدارة بايدن التي تعمل على مبادئها نفسها وفقاً لأستاذ العلاقات الدولية في جامعة "جنوب كاليفورنيا" - دورنسيف، إذ تشير السياسة الواقعية إلى فلسفة اتباع الدول للسياسات الخارجية التي تعزز مصالحها الوطنية، حتى على حساب حقوق الإنسان، والقيم الليبرالية الجوهرية في سعيها وراء مصالحها في الخارج، وهي سياسة بلورها الرئيس ريتشارد نيكسون، بتوجيه من مستشاره للأمن القومي ووزير خارجيته لاحقاً، هنري كيسنجر، ما أدى إلى تطبيع العلاقات مع الصين والتخلي عن ميول مناهضة الشيوعية لصالح نهج كان يأمل أن يقوي الولايات المتحدة في نهاية المطاف.

وعلى رغم أن كيسنجر لا يدافع عن سياسة خارجية خالية من الأخلاق، فإنه يؤمن بالاعتراف بحدود تعزيز المصلحة الوطنية إذا كانت المثالية مقيدة بالسياسة، وعلى سبيل المثال كان احتواء الشيوعية يعني الانخراط في سياسات خارجية تتعارض مع القيم الأميركية التقليدية لاحترام حقوق الإنسان وتقرير المصير، كما كان إنهاء حرب فيتنام، بطريقة يجدها الجمهور الأميركي مقبولة، كان يعني اتخاذ إجراءات بغيضة، بما في ذلك قصف كمبوديا بكميات هائلة من القنابل لوقف الإمدادات التي كانت تصل منها إلى الفيتناميين الشماليين.

وفي حين أن قدراً كبيراً من السياسة الواقعية ينسب إلى حقبة تاريخية سيطر عليها كيسنجر، فقد ظلت ولا تزال هذه السياسة قائمة في السياسة الخارجية الأميركية المعاصرة من خلال اختيار الولايات المتحدة أن تضع مصلحتها قبل قيمها المعلنة.

نهج ضار

ومع ذلك، يرى بعض المفكرين والباحثين السياسيين في أميركا أن السياسة الواقعية لكيسنجر تعد بمثابة نهج ضار له نتائج مدمرة على مكانة الولايات المتحدة في العالم لأنه نهج مصلحي قائم على القوة، ويستند إلى ما قاله كيسنجر نفسه إن صانعي السياسة الخارجية يقاسون من خلال قدرتهم على إدراك التحولات في القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية في النظام الدولي ومن ثم جعل هذه التغييرات تعمل لصالح بلادهم، وهو ما يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة "أوماس لويل" جارود هايز أن هذا النموذج من السياسة الخارجية لا دور فيه للقيم السياسية التي تجعل من الولايات المتحدة لاعباً مميزاً في النظام الدولي.

ويشير هايز إلى أن كيسنجر نصح باستمرار صانعي السياسة الأميركيين بتغيير السياسة الأميركية لتلائم مصالح وتصرفات القوى الأجنبية المهمة مثل روسيا والصين، حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى التنازل عن حقوق الآخرين لتحقيق مكاسب للولايات المتحدة، ففي مايو 2022، جادل كيسنجر علناً بأن أوكرانيا، يجب أن تتنازل عن أجزاء من أراضيها المعترف بها دولياً، التي استولت عليها روسيا، كما أكد كيسنجر أن الولايات المتحدة يجب أن تستوعب الصين، وعارض مواجهة القوة والنفوذ الصاعدين للصين، وهو ما يراه البعض لا يقدم حلاً سحرياً لتحدي السياسة الخارجية الأميركية.

ومن غير المعروف ما إذا كان كيسنجر سيكون مؤثراً على صانعي السياسة ومتخذي القرار في البيت الأبيض، أم إن انتخابات الرئاسية المقررة، العام المقبل، لن تسمح للعلاقات مع الصين بأن تتعافى وسيكون كل مرشح مضطراً إلى المزايدة في كيفية مواجهة الصين والحد من نفوذها، وإذا حدث ذلك ستكون سياسة كيسنجر الواقعية قد لفظت أنفاسها الأخيرة.

المزيد من تحلیل