ملخص
عدم تأثر الأعراف المحلية الطارقية بالعولمة يرفع من شأن القوم... ونساء "الطوارق" يواصلن صنع التاريخ
لا تزال مكانة المرأة داخل مجتمع الطوارق تلفت الأنظار وتجلب الاهتمام، لا سيما في الغرب الذي يدافع عن الحريات وحقوق المرأة، وتعتبر الملكة تينهينان التي حكمت في القرن الرابع الميلادي، إحدى أهم الشخصيات التي "صنعت" تاريخ المجتمع الطارقي بعد أن وضعت أسسه المجتمعية البارزة.
ألقاب من دون سنة ميلاد
"تينهينان" أو "ملكة الأهقار" أو "أم الطوارق" أو "تامينوكالت" باللهجة الطارقية التي تعني "ناصبة الخيام"، كما يطلق عليها داخل المجتمع الصحراوي "الأميرة الهاربة"، إليها يستند الطوارق في تنظيمهم الاجتماعي الذي يستمد السلطة حتى الآن من حكمة المرأة، وهي الأم الروحية التي أسهمت في الدفع بقدرة النساء على أن يتدخلن في الشؤون العامة للمجتمع الطارقي، بل يسيطرن على القبيلة بعد أن تمكنت من مناقشة وإدارة دفة الحرب والسلم، وفق ما تذكر كتب التاريخ، وحتى حين يُنتخب رجل على رأس القيادة، فما هو إلا ممثل للملكة تينهينان.
ولم يحدد المؤرخون على مر التاريخ سنة ميلادها، لكن تتفق الروايات التاريخية على أن تينهينان تعرضت لمضايقات من أسرتها الحاكمة في تافيلالت بجنوب شرقي المغرب الأقصى، بعد أن قرر والدها تزويجها بأمير أفريقي بالغصب، فأعلنت رفضها وثورتها، ثم ولت وجهها هاربة على رأس مجموعة من الجنود بصحبة خادمتها التي اعتبرتها بعض الروايات شقيقتها تاكامات.
فرار من أجل الحرية
فرت تينهينان برفقة حاشيتها نحو الصحراء حيث استمرت بالسير نحو المجهول لأيام عدة على متن ناقة بيضاء، لذلك سميت بـ"صاحبة الناقة البيضاء"، بحسب ما جاء في الأساطير، وكادت القافلة أن يهلكوا بعد نفاد الزاد والماء الذي في حوزتهم، لولا تفطن تاكامات إلى قوافل النمل من تحت أقدامها وهي تحمل حبات الشعير، وهو ما يرمز إلى وجود مياه بالجهة، الأمر الذي دفع "الفارين" إلى اقتفاء مسار النمل إلى أن وصلوا لمنطقة الأهقار حاليا بجنوب الجزائر، وهناك وجدوا ينابيع ماء تصب في برك كبيرة، يطلق عليها اسم "طرقة"، ومنها جاء اسم "الطوارق".
لكن هناك روايات تقول إن تينهينان أمرت القافلة بالسير عكس اتجاه النمل حتى وصلوا إلى جبال الأهقار في أقصى الجنوب الجزائري، حيث عثروا على المياه والطعام، فاستقرت هناك وتمكنت من كسب ود السكان وانطلقت في تشييد نواة مملكتها الجديدة الممتدة من صحراء ليبيا إلى التشاد، ومن الجزائر إلى مالي، ومن النيجر إلى موريتانيا، وهو ما يعادل ثلث مساحة القارة الأفريقية، ولقد أثبتت الأساطير أنها كانت ملكة متفردة، تدافع عن أرضها وشعبها ضد الغزاة من قبائل النيجر وموريتانيا الحالية وتشاد، وعُرفت بالحكمة والدهاء.
لماذا يغطي الرجل الطارقي وجهه؟
تزوجت تينهينان وأنجبت أولاداً وبنات أشهرهم أهقار الذي تنسب إليه الروايات أصل ارتداء الطوارق اللثام، إذ يرجع الأمر إلى هروبه من إحدى المعارك، وخلال عودته لقبيلته لم يجد من حل يجنبه العار سوى تغطية رأسه ووجهه، وهو قائد الجيش وابن ملكة "الطوارق"، وكذلك فعل جنوده وبقوا مرابطين وفق كتب التاريخ على مشارف الديار شهراً كاملاً مخافة ملامة النسوة لهم، ولما طالت بهم الحال ونفد ما معهم من زاد، وجدوا أنفسهم مجبرين على دخول مدينتهم، وبقوا على تلك الحال طيلة حياتهم، وكذلك فعل من جاء بعدهم، حتى أصبح الأمر تقليداً إلى يومنا هذا.
وتحدث المؤرخ ابن خلدون عن الطوارق ووصفهم بأنهم "أبناء تيسكي" ويعني أبناء المرأة العرجاء، وهذا يتطابق مع ما توصلت إليه أبحاث الحفريات التي أفادت بأن تينهينان كانت عرجاء بعد إصابتها بجرح في رجلها في إحدى المعارك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اختلاف ديني
وفي حين ذكرت روايات كثيرة أن تينهينان كانت مسلمة، إلا أن الكشف عن بقايا جثتها أظهر طريقة في الدفن تتعارض مع الإسلامية، بحيث وجدت جثتها ممددة على ظهرها ووجهها نحو الشرق على لوح خشبي، وكان ذلك عام 1925، من طرف بعثة فرنسية- أميركية مشتركة في أبلسة بالهقار، جنوب الجزائر، والتي أشارت في تقاريرها إلى أنها كانت امرأة طويلة ورشيقة، عريضة الأكتاف وذات ساقين نحيفتين، بحسب ما يظهر من هيكلها الذي عثر إلى جانبه على عدد من التحف الثمينة والمجوهرات النادرة.
ويرقد الهيكل العظمي للملكة تينهينان منذ أكثر من نصف قرن داخل صندوق زجاجي وتظهر محاطة بحليها الذهبية والفضية ولباسها الجلدي في متحف "باردو" بالعاصمة الجزائرية.
للمرأة مكانة خاصة
وتركت تينهينان مجتمعاً لا يزال مصدر إلهام، فمثلاً يأخذ الطفل نسب أمه بصرف النظر عن أصل أبيه، فمثلاً إذا كانت الأم نبیلة والأب عبداً فإن الطفل يكون نبيلاً، وإذا كانت الأم أمَة والأب نبيلاً، فإن الابن يصبح عبداً، كما أن للمرأة الطارقية خادمتها التي تساعدها في تنظيف الخيمة وحلب الشياه والنوق، وجلب الماء من الآبار ورعاية الأطفال عند المشي، وفي وقت يكيل بعض المجتمع العربي اللوم للمرأة المطلقة، يبقى الطلاق أمراً تفتخر به النساء في مجتمع الطوارق، فالمرأة المطلقة تسمى "الحرة"، ويحق لها أن تطلب الطلاق متى تشاء وتغادر البيت من دون وصاية، وحين تفعل فليس بإمكان الرجل أن يأخذ معه إلا ما تعطيه هي.
كما أن الزوج غير مخول الدخول على زوجته ما دام لم يسلم المهر كاملاً لأسرتها، فضلاً عن أن أم العروس تشترط "تاغتست" أو هديتها الخاصة، وعادة ما تكون ثوراً أو جملاً، وتحتم العادات أن البنت التي تتزوج للمرة الأولى ينبغي أن تقضي عاماً في رعاية أمها حتى تنقل إليها أساسيات القيم العرفية، من حيث أشكال تكوين الأسرة ومعاملة الزوج، ويبقى الزوج إلى جوار أصهاره والمرأة مع أسرتها إلى أن تلد مولودها الأول، حينها يكون مخيراً بين البقاء أو الرحيل إلى أهله.
حرة أكثر من الحرية
وتتمتع المرأة بالحرية الكاملة في اختيار زوجها، ويتم ذلك عادة من خلال جلسات "تاغيلت" للتعارف، وعليه أن يعامل الزوجة وفق قانون ليالي التراحم الثلاث، ففي أول ليلة عليه اعتبارها أمه، وفي الثانية أخته، والثالثة زوجته، فإن فسدت علاقته بها كزوجة، عاملها كأخت، وإن فسدت علاقة الأخوة، عاملها كأم، ولا تكاد علاقة تفسد بين أم وابنها، كما لا يمكن أن يستعلي الابن على أمه.
كذلك المرأة الطارقية التي يتوفى زوجها ولها أطفال تقيم مع أهلها، وأبناؤها العزاب يعيشون تحت وصاية خالهم وهو أولى برعايتهم من أحد أعمامهم. وعندما يتزوج أحدهم، تعيش معه أمه وإخوانه.
الروائي الإسباني ألبرتو فيكييروا عبر عن هذه الحرية في روايته "طوارق" وقال إن "الطوارق هم الوحيدون بين كل الشعوب الإسلامية الذين ما زالوا يتبعون بوفاء تعليمات الرسول محمد، معلنين المساواة بين الجنسين، ونساؤهم ليس فقط أنهن لا يحجبن وجوههن بحجاب خلافاً للرجال، إنما يتمتعن أيضاً بحرية مطلقة حتى لحظة الزواج".
يُذكر أن ضريح تينهينان في منطقة أبلسة جنوب الجزائر، مبني من حجارة ذات شكل بيضوي ويحيط به سور بسمك 1.4 متر وينقسم إلى 11 غرفة غير منتظمة الشكل، باستثناء الغرفة الجنائزية التي تضم قبر الملكة، أما الغرفة التي وجد في داخلها الهيكل العظمي، فهي محاطة برواق دائري ونُحتت حول الضريح 13 معلماً جنائزياً صغيراً.