ملخص
لا يمكن التنبؤ بزمان وقوع حراك أو ثورة جديدة في إيران لكن كلاً من المعارضة والنظام استعدا جيداً للحراك المقبل كل على طريقته
لا شك أن إيران حبلى بحراك وثورات مقبلة... فعلى سبيل المثال أقدمت السلطات أخيراً على إطلاق دوريات شرطة الأخلاق من جديد لمواجهة ما يصفه النظام بمنع السلوك الاجتماعي غير الملائم، لكنها في الحقيقة تعمل لفرض الحجاب واستعراض قوة النظام وتنذر هذه التطورات ببدء سلسلة احتجاجات جديدة.
لم تلبِّ الحكومة أياً من مطالب الثورة بعد القمع الوحشي للتظاهرات في شوارع البلاد، وكان ردها متمثلاً في الضرب والقتل والتعذيب واعتقال عشرات الآلاف من المحتجين. كما لجأ النظام إلى تنفيذ حملات كيماوية في مدارس الفتيات واستمر في حملة الاعتقالات ضد النشطاء السياسيين وإصدار أحكام السجن لفترات طويلة واستفزاز عائلات قتلى الاحتجاجات وتنفيذ عدد من الإعدامات في وضع يشبه صب الزيت على النار. ولم نشهد أي تغيير في أداء الحكومة المتغطرسة والطائفية، وكذلك أنصارها.
النظام الإيراني أيضاً لم يتوقع أن تحدث احتجاجات عارمة بعد مقتل مهسا أميني عام 2022، كما لم يتوقع سابقاً الأحداث التي تلت كلاً من الاحتجاجات على إغلاق صحيفة "سلام" (1999) وتزوير الانتخابات (2009) واحتجاجات المتضررين من الفساد البنكي (2017) والاحتجاجات على رفع أسعار الوقود (2019).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الأحداث كانت نتيجة لسياسات نظام لا يعرف إلا القتل والتزوير والنهب وبعد وقوع تلك الاحتجاجات لم يبادر بالتحقيق في المؤسسات الأمنية أو تعديل السياسات لأنه لا يملك أساساً مقومات مثل هذه التحقيقات ولا يدرك النظام حجم الحراك القائم ضده.
لا يمكن التنبؤ بزمان وقوع حراك أو ثورة جديدة في إيران لأنه لا نعرف الظرف والإجراء الذي يؤدي إلى وقوع مثل هذا الحراك وإثارة احتجاجات عامة، لكن نعرف أن هناك غضباً شعبياً متراكماً والرسائل التي ترد من المجتمع ومن عائلات الضحايا تنذر بانتقام صعب ضد النظام.
لا ينسى أي من العائلات مقتل أبنائها الشباب، فإذا ما فشلت المعارضة في تنظيم احتجاجات مليونية لطي ملف النظام فإن عائلات القتلى يملكون قوة هائلة لتعبئة مثل هذه الاحتجاجات.
خلال العقود الثلاثة الماضية، عجزت الحكومة الإيرانية في احتواء غضب المحتجين والناشطين، وعلى رغم انتزاعها اعترافات كاذبة من السجناء وبثها عبر التلفزيون الحكومي، فإن هذا الوضع لن يؤدي إلى عودة أجواء فترة الثمانينيات.
والسؤال الذي يطرح نفسه لدى الرأي العام هو نظراً إلى تجارب المعارضة في الخارج ما هي ملامح الثورة المقبلة في إيران؟
هذه الملامح يمكن بحثها في إطارين، التجارب المتراكمة التي تلقتها المعارضة من الانتصارات والخسائر وآثار أداء الحكومة في الغضب الشعبي. وأسعى إلى شرحها من خلال بحث إطار زمني ومكان الاشتباك وأساليب الاحتجاج والاستراتيجية التي ينتهجها المعارضون والنظام، وكذلك كيفية التعامل معها محلياً وخارجياً.
ومثلما كانت الاحتجاجات في عام 2019 استمراراً لاحتجاجات عام 2017 فإن الحراك المقبل سيكون نتيجة منطقية لسلسلة الاحتجاجات التي أعقبت مقتل مهسا أميني بناءً على الدروس التي تلقتها المعارضة والنظام من تلك الأحداث.
الدورة الزمنية
استمرت الثورة في عام 2022 لفترة ستة أشهر وسعت الطبقات المختلفة إلى المشاركة في الثورة من خلال العصيان المدني وكتابة الشعارات ونشر آثار فنية مثل الغناء والرسم وحرق اللافتات والتماثيل الحكومية وإسقاط عمائم من على رؤوس رجال الدين في الشوارع والتجمعات وإطلاق الشعارات من فوق أسطح المنازل لبيان رسائل بأنهم لا يرغبون بهذا النظام، لكن السلطات أغلقت آذانها ولجأت إلى القوات الخاصة و"الباسيج" لإسكات المحتجين ووقف التجمعات.
من جانبهم سعى المحتجون إلى الحضور في الشوارع بأعداد كبيرة. وخلال الاحتجاجات المقبلة لن نشهد مثل هذه الأعداد لأنها ترافق القتل والاعتقالات. وسيعمل المحتجون في الاحتجاجات المقبلة على تقليل حضورهم في الشارع ويركزون على إبطال إمكانات الحكومة في القمع.
يحكم العقل أن يلجأ المعارضون إلى تقليل الضحايا من خلال مواجهة الحكومة، كما أن الظروف مهيأة لذلك لأن النظام يستمر بالفساد، وهناك تقارير واسعة ترد عن حجم الفساد والأخطاء في أداء السلطات، وكذلك انشقاق عناصر منها فيما تستمر الضغوط على الشعب.
نطاق الاشتباكات
سعى المحتجون في الحراك الشعبي عامي 2019 و2022 إلى السيطرة على الشارع من خلال الحضور بأعداد كثيرة وعلقوا الآمال على انشقاق عناصر من النظام، لكن هذه الاستراتيجية لم يكتب لها النجاح لأن ماكينة القمع هيمنت على الشارع بسرعة وأثارت الرعب والهلع لدى الشعب.
أدرك المحتجون أنه في الاحتجاجات المقبلة يجب السيطرة على قواعد "الباسيج" والثكنات العسكرية لـ"الحرس" من أجل احتواء الرعب والهلع الشعبي والتمهيد لانضمام مزيد من المحتجين إلى الحراك المعارض.
ولا يزال الهيكل الورقي للنظام قائم على هذه المراكز (الباسيج والحرس الثوري) ومن خلال السيطرة عليها تسقط سلطة النظام في المناطق والمحافظات. وبات المحتجون يعرفون هذا الأمر، كما أن النظام يعرف أهمية هذه المراكز في استمرار عمر النظام، لذلك لجأ "الحرس الثوري" إلى إطلاق مراكز جديدة للباسيج في المناطق التي لا توجد فيها مثل هذه المراكز من أجل القضاء على المخاطر الأمنية التي يواجهها.
أرسل المحتجون بوضوح وبشكل وافٍ رسائل بضرورة إسقاط النظام، إذ يعلم الشعب عدم جدوى إصلاح النظام، فإنهم لا يرغبون إلا بإسقاطه.
في الحراك الذي تلا "ثورة مهسا" رأينا استمرار المطالبة بإسقاط النظام في غالبية التجمعات عدا التجمعات التي ينظمها المتقاعدون. فالحراك المقبل سيتضمن حتماً المطالبة بإسقاط النظام والتخلص منه. النظام يعرف ذلك لذلك لجأ إلى شراء أجهزة للقمع بقيمة عشرات ملايين الدولارات وعمل على زيادة عدد قوى القمع وأحال القوى غير الموثوق بها إلى التقاعد، كما استقال عدد من منتسبيها المعارضين لقتل الشعب وعمل النظام لزيادة ميزانية أجهزة القمع بنسبة 50 إلى 100 في المئة.
تشديد القمع
تعمل السلطات إلى إثارة غضب المحتجين من خلال استمرار الاعتقالات والضغط على عائلات القتلى وهدم قبور قتلى الاحتجاجات وإطلاق تجمعات مناصرة للحكومة، لذلك سنشهد مزيداً من العنف من المحتجين خلال الاحتجاجات المقبلة للدفاع المشروع عن أنفسهم، بخاصة أن النظام لجأ إلى القتل واستهداف المحتجين بالرصاص الحي وتنفيذ إعدامات ضد عدد من المعتقلين.
المحتجون باتوا يعرفون أنه إذا تخلوا عن الهجوم فإنهم سيقتلون أو يعدمون أو يفقدون بصرهم مثلما حدث لكثير منهم. فلم يتوقع كثير من المحتجين أن يلجأ النظام إلى هذا الحد من الشدة والقسوة في الاحتجاجات السابقة.
لا يعرف قادة القمع أنه كلما ارتفعت شدة القمع يزيد ذلك من الغضب الشعبي، فضلاً عن الهرب من البلاد وتفشي أمراض نفسية مثل الكآبة واللجوء إلى العزلة.
النظام لم يبقَ إلا خيار الحرب ضد المحتجين من خلال تصرفاته ومواجهته للحراك الشعبي السابق فالنظام يقول للمحتجين، "إما نحن أو أنتم". تلقى المحتجون هذه الرسالة بشكل جيد، وإنهم على علم بأن لجوء النظام إلى الميليشيات الأفغانية والعراقية والتمهيد لدخولهم إلى الجامعات لم يحل مشكلات النظام.
استراتيجية "النصر"
تجاوز المحتجون في ثورة مهسا أميني، الإصلاحيين بشكل كامل، لكنهم لجأوا إلى الأساليب الاحتجاجية نفسها التي سار عليها التيار الإصلاحي منها إطلاق شعارات من فوق الأسطح وتنفيذ احتجاجات سلمية، لكن في ثورة مهسا إميني شهدنا أيضاً مظاهر جديدة، بخاصة بذلك الحراك منها حرق اللافتات الحكومية ومظاهر الدعاية الحكومية وإسقاط عمائم رجال الدين من على رؤوسهم في الشوارع.
ستكون الأساليب أكثر حدة في الاحتجاجات المقبلة لأن الهدف منها سيكون "النصر" من خلال مواجهة "السفاحين"، إذ لا يقتصر وقتها احتجاجهم على إرسال رسائل تعبر عن ضرورة رحيل النظام فقط، بل أنهم سيسعون إلى النصر على النظام. وطريق النصر يمر عبر القضاء على قوى القمع.
المعارضة في الخارج
كثير ما سمعنا عن المنافسات السياسية بين أحزاب المعارضة في الخارج أن جهة سياسة أو شخصاً معيناً كان السبب وراء تراجع الاحتجاجات في الشوارع إيران، لكن احتجاجات عام 2022 لم تحدث بدعوة من أي من تنظيمات الخارج ولم توقفها الأحزاب الناشطة في الخارج. في الواقع لم يهتم المحتجون في الداخل بالخلافات بين هذه التنظيمات التي تعمل خارج الحدود.
أدت التظاهرات التي نظمها المعارضون في الخارج إلى تشجيع المحتجين في الداخل وتقوية حراكهم، لكن سلوك المعارضين المقيمين في الخارج لم يكن مؤثراً في القرارات وطبيعة الحراك في الداخل ولا توجد صلة بين احتجاجاتهم ودعوات المعارضين.
تنهمك الأحزاب الخارجية بتوجيه اللوم ضد بعضها في إطار النزاع من أجل السلطة ولا صلة لهذا الحراك بالداخل، لذلك لا تترك هذه الأحزاب تأثيراً في المحتجين بالداخل، بخاصة أن نشاط هذه التنظيمات مشتت ولا توجد هناك مركزية في حراكهم.
الاحتجاجات المقبلة من المحتمل إلا تكون بدعوة من المعارضة في الخارج، أو أن وقفها لا يكون مرتبطاً بقرارات المعارضين خارج البلاد. الاشتباكات ستكون داخل البلاد بشكل مباشر، وستترك طبيعة الحرب والتطورات نفسها على مجرى الأمور في الداخل، لكن المعارضة المقيمة في الخارج بإمكانها التأثير إيجابياً على التطورات من خلال مواجهة لوبيات النظام في الخارج وإبطال مفعول الدعاية السياسية له وإرغام البلدان المختلفة على وقف التعاون معه.
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"