التغيير الذي حدث في السودان مع ثورة 19 ديسمبر المجيدة، هو نمط من التغييرات التي ترافق الثورات الكبرى، أي ذلك التغيير الذي ينظم الأفكار والعقليات والمفاهيم. وتغيير على هذا النحو سيخلق بالتأكيد ردود فعل تنعكس في الاستجابات القاصرة التي تعكسها أطراف كثيرة في المجتمع السوداني.
المجلس العسكري مثلاً، لم يستوعب قوة ذلك التغيير وجذريته في نفوس الأجيال الجديدة من شباب الثورة السودانية، إلا عندما هبت الملايين في يوم 30 يونيو (حزيران) الماضي لتؤكد له، أن حادثة فض الاعتصام على مذبحة القيادة العامة في 3 يونيو الماضي التي راح ضحيتها أكثر من 130 ثائراً ، لن تكون سبباً في هزيمة ثورتهم .
كذلك هناك حركات كانت تقاتل نظام الإنقاذ واختارت السلاح لمواجهته، سواء في جنوب السودان عبر الحركة الشعبية، التي انتهى صراعها بانفصال جنوب السودان عام 2011 مع بقاء جزء من تلك الحركة ممثلاً في الحركة الشعبية قطاع الشمال (التي انفصلت في ما بعد إلى قسمين)، أو لجهة حركات دارفور المسلحة التي هي كذلك انقسمت إلى أقسام كثيرة.
يبدو أن القتال المسلح مع نظام عسكري ديكتاتوري كنظام الرئيس المعزول عمر البشير، هو أنسب طريقة لذلك النظام، لأنه يمثل طبيعته التي يعرفها، لذا كان واضحاً أن الطريق الذي اختارته تلك الحركات سبيلاً للإطاحة بالنظام لن يؤدي إلى إسقاطه في الخرطوم، مهما طال الزمن.
اليوم، وفي ظل الواقع الجديد الذي أحدثته الثورة السودانية، بدت مواقف الحركات المسلحة متأخرة عن مواقف الشعب السوداني الذي استطاع إسقاط النظام بثورته السلمية المجيدة، ومن ثم بعدما تمثل الحراك السياسي للشعب في قوى إعلان الحرية والتغيير التي أنجزت مع المجلس العسكري اتفاقين سياسي ودستوري بالأحرف الأولى.
بدا موقف الجبهة الثورية، التي هي جزء من قوى الحرية والتغيير له خصوصيته لأنه مكون عسكري، وتضم حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان والحركة الشعبية جناح عقار ، كما لو أنه لا يزال موقفاً يمثل عقلية المفاوضات مع النظام السابق.
مواقف الجبهة الثورية، وما دار حولها من لغط عن محاصصات، أثناء المفاوضات بينها وبين قوى الحرية والتغيير في أديس أبابا الشهر الماضي، ومن ثم انتهى باتفاق شامل، عادت اليوم لتطل برأسها مجدداً، عبر اعتراض تلك الجبهة على بنود الإعلان الدستوري الذي وُقع في الثالث من أغسطس (آب) الجاري بحجة أنه لم يتضمن ما اتُّفق عليه بينها وبين قوى الحرية والتغيير في اجتماع أديس أبابا.
وعلى الرغم من أن الاعلان الدستوري لا يزال اتفاقاً بالأحرف الأولى، وأن التوقيع النهائي في يوم 17 أغسطس (آب) الجاري، إلا أنه خرج بعض منسوبي الجبهة الثورية ليكيل الاتهامات لقوى الحرية والتغيير ويلومها على ما أبرمته من اتفاق الإعلان الدستوري بينها وبين المجلس العسكري.
ومع وجود حركتين كبيرتين أخريين تحملان السلاح (حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور والحركة الشعبية شمال جناح عبد العزيز الحلو)، إلا أن التصريحات التي رشحت عن قائدَيْ تلك الحركتين لا تعكس أبداً استصحاباً أو تفهماً للروح الثورية والواقع الجديد الذي أحدثه الثورة في السودان.
فعبد الواحد محمد نور، وصف اتفاق الإعلان الدستوري في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط"، قائلاً "نحن في الحركة لا نعترف بالمجلس العسكري ولا بقوى الحرية والتغيير، ونعتبرهما انتهازيين اختطفا الثورة". أما عبد العزيز الحلو، فأعلن في حوار مع صحيفة " التيار " السودانية "إن الإعلان الدستوري عبارة عن وصفة لشمولية أخرى، ومقدمة لحرب أهلية أوسع من سابقاتها".
وعلى الرغم من غرابة تلك الآراء، يبدو واضحاً فيها، غياب تفهم الواقع الثوري الجديد التي أحدثته الثورة السودانية.
لقد بات كل من المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير ، مدركَيْن إدراكاً تاماً لقوة هذه الثورة وحيويتها وقدرتها المطلقة على حراسة الإنجاز الذي حققته، وأن هذا الجيل الجديد من الشباب السوداني، سواء لجهة الصمود والبطولات اللّذين أبداهما، أو لجهة الوعي الذي انعكس في تنظيمات لجان الأحياء، والمنهجية السلمية للحراك، يدرك الطرفان أن ما أجلسهما معاً من أجل تحقيق ذلك الاتفاق التاريخي، إصرار الثوار عبر حرصهم الكبير على إنجاح هذه الثورة والوصول بأهدافها إلى الغايات المرجوة.
أما من بات غير قادر على استيعاب الدرس و إدراك الحقائق الثورية التي أصبحت اليوم واقعاً ملموساً في السودان، سواءً من طرف الجبهة الثورية أو من طرف حركَتَيْ عبد الواحد محمد نور وعبد العزيز الحلو ، فإن الخشية الكبرى هي أن لا يستوعبوا الدرس ولو متأخرين، فأن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً!