ملخص
بعد ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت، ما زالت الحقيقة ضائعة والعدالة مفقودة... لكن حقيقة واحدة لا لبس فيها: الفساد يقتل وبيروت تشهد، ففيها قتلنا ألف مرة ومرة!
كأن شيئاً لم يتغير منذ ثلاث سنوات حتى اليوم في بيروت، كأن الوقت يمر مسرعاً في بقاع الأرض كلها ما عدا في مرفأ بيروت، هنا الوقت يبدو أنه توقف بعيد السادسة من مساء الثلاثاء الرابع من أغسطس (آب) 2020، عند لحظة الانفجار الذي عصف بالعنبر رقم 12 فحول العاصمة إلى خرابة للدم والدمار.
من يقف أمام مرفأ بيروت اليوم، يعاين ما تبقى من إهراءات القمح ماثلةً لتشهد على واحدة من أفظع جرائم القرن الحادي والعشرين، يرى الحطام والركام مكدساً على حاله في باحات المرفأ، يشاهد هياكل مستودعات التخزين عارية ومشعلة على تخوم مسرح الجريمة، يلتفت قليلاً فيرى أبنية بلا نوافذ تحمل شرفاً وجدراناً مبتورةً لم تجد من يرممها بعد، من يمر في بيروت، تستقبله تماثيل ومجسمات وصور وأسماء لعشرات الضحايا ما زال ذووهم يبحثون عن حقيقة ضائعة وينادون بعدالة مفقودة.
هذا في الحجر، أما عند البشر، فنحن لم ننس أصلاً لنستذكر ما حل بنا في ذلك الثلاثاء المشؤوم قبل ثلاث سنوات من اليوم، أنا واحدة من كثيرين يدينون لكورونا بنجاتهم من مصير أسود محتمل بعدما تحطمت مكاتب عملنا في بيروت بفعل الانفجار، فحينها، كنت على غرار معظم سكان الكرة الأرضية، أعمل عن بعد من منزلي الذي يقع على مسافة نحو 28 كيلومتراً إلى شمال العاصمة، أي على بعد نحو نصف ساعة من القيادة بالسيارة، كنت مستلقية أستريح بعد يوم عمل انتهى للتو، حين دوى انفجار قوي عصف بنوافذ وأرجاء المنزل كافة، توجهت مسرعةً إلى الشرفة أصرخ وأسأل ماذا حصل، كلي ظناً أن انفجاراً وقع في موقع قريب جداً، التفت أبحث فلم أجد شيئاً، عدت مسرعةً إلى التلفاز والتقطت هاتفي أبحث عن نبأ يفسر هذا الذي حدث، وسرعان ما بدأت الأخبار تتوالى، إنه انفجار ضخم هز مرفأ بيروت ووصل عصفه وصداه إلى أبعد ما يكون.
راحت صور الخراب والدمار والموت تتواتر، وكأن الجحيم بذات نفسه حل في بيروت، جثث وجرحى ودماء في الأرض، حطام وركام في كل مكان، سيارات أشبه بالخردة تملأ الشوارع، تقطعت أوصال العاصمة كافةً وبات التنقل بين طرقاتها أشبه بمهمة مستحيلة، مواطنون ومسعفون ورجال أمن يهرعون لإنقاذ آلاف الجرحى فيما تعجز مستشفيات العاصمة المدمرة عن إسعاف المصابين الذين يتدفقون بأعداد هائلة، عمال الإغاثة في كل مكان يبحثون عن ناجين تحت الركام وينقلون الجثث إلى المستشفيات، وكم من شخص يومها راح يطوف العاصمة بحثاً عن أب أو أم أو أخ أو زوج أو صديق، وكأنه يبحث عن إبرة في كومة قش، كثر عاينوا عشرات الجثث قبل أن يصلوا إلى ذويهم، وكثر لم يتعرفوا إليهم سوى بعد أيام عبر فحوص الحمض النووي، وكأن المأساة حينها لم تكن وحدها كافية لتقرر السلطات أن تزيد الأمور سوءاً بوقف البحث عن ناجين في الليلة نفسها، بذريعة نقص المعدات والكهرباء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان وقع تلك المأساة صعباً ولا يزال، هو جرح من تلك الجروح التي لا تندمل، من تلك التي تترك ندباً مدى الحياة، حتى بعد مرور ثلاث سنوات بالتمام والكمال، نحن لا نصدق أن ما حصل، فعلاً قد حصل! تعجز أدمغتنا لوهلة عن استيعاب الكارثة، حتى لو أن آثارها الماثلة تذكرنا بها كل يوم. كيف لنا أن نتخطى المأساة وبيروت لم تلملم جراحها بعد، كيف لنا أن نجتاز الأمر ونحن لم نعرف شيئاً عن حقيقة انفجار أودى بأكثر من 200 قتيل وجرح أكثر من سبعة آلاف شخص وشرد آلافاً آخرين بعدما دمر العاصمة برمتها موقعاً خسائر بمليارات الدولارات. نبحث عن أجوبة ولا نجدها: كيف حصل ذلك؟ لماذا ومن المسؤول؟ كيف يعرقل التحقيق في جريمة بهذا الحجم؟ كيف يتنصل الجميع من المسؤولية ويفلتون من العقاب وكأن ما جرى مجرد حادث قضاء وقدر؟
الفرضيات كثيرة والاحتمالات متشعبة، لكن حقيقة واحدة لا لبس فيها: إنه الفساد يا سادة. بغض النظر عن كيف وقع الانفجار، لقد بات معلوماً أن ما حصل قد حصل بسبب الإهمال بالدرجة الأولى، الإهمال الذي أتاح تخزين أطنان من نيترات الأمونيوم في مكان غير مناسب لمواد متفجرة ومن دون أي مراعاة لإجراءات السلامة، إنه الإهمال الذي حول هذه المواد إلى قنبلة موقوتة على مدى أكثر من سبع سنوات بعلم كثيرين من أعلى هرم الدولة إلى أسفلها، إنه الإهمال الذي سمح به أساساً الفساد المستشري في دولة تحكمها المحسوبيات وتسودها سياسة الإفلات من العقاب، إنه الفساد الذي يسمح للمسؤولين السياسيين بالتدخل في القضاء وعرقلة العدالة، إنه الفساد الذي يبقي زعماء على عروشهم مهما فظعت ارتكاباتهم وتقهقرت بلادهم.
الفساد يقتل يا سادة، وبيروت تشهد، فيها قتلنا بانفجار الرابع من (آب) وما زال يمعن بغياب المحاسبة، فيها قتلنا بانهيار اقتصادي أطاح بلبنان الدولة والجامعة والمستشفى والقطاع المصرفي فيما يقف ساستنا متفرجين وكأن الزمن توقف بهم أيضاً عند الدولار بـ1500 ليرة.
منذ ثلاث سنوات حتى اليوم، لم يتغير شيء في قضية انفجار المرفأ، ومنذ أربع سنوات حتى اليوم، لم يتخذ المسؤولون في دولتنا خطوة واحدة لإنقاذ البلاد والعباد من هول الانهيار، إنه الفساد يقتلنا ألف مرة ومرة... فهل من يتعظ؟