ملخص
الوضع البيئي في الخرطوم يجعلها غير قابلة لعودة سكانها الذين غادروها بعد الحرب ما لم تتم إعادة تأهيلها
في وقت تتوق الأسر السودانية التي فرت من مدن العاصمة الثلاث الخرطوم وأم درمان وبحري بسبب اندلاع الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في 15 أبريل (نيسان)، للعودة إلى منازلهم بعد توقف الحرب مباشرة، التي يتمنونها بأسرع وقت ممكن لكونهم ضاقوا ذرعاً بالأوضاع التي يعيشونها في أماكن نزوحهم سواء في داخل السودان أو خارجه.
لكن كيف ينظر المتخصصون في مجالات البيئة والكوارث إلى الوضع في العاصمة من ناحية مدى ملاءمته للسكن وسير الحياة بشكلها الطبيعي، في ظل حجم الدمار الذي لحق بالبنى التحتية وغيرها من المرافق الخدماتية بخاصة الصحية والإنسانية، فضلاً عن الجوانب البيئية بسبب انتشار الجثث وتحللها في الشوارع لعدم تمكن فرق الإسعاف من دفنها لحدة الاشتباكات وتواصلها في كل مدن العاصمة.
فوضى وانهيار
يشير أستاذ مادة الحد من أخطار الكوارث في الجامعات السودانية محمد عبدالحميد، إلى أن "الخرطوم في الأصل لم تكن مدينة حضرية بكل المقاييس المتعارف عليها قبل الحرب، فهي كمدينة انتهت صلاحيتها كعاصمة تقريباً مع بداية موجات النزوح التي ترافقت مع مجاعة عام 1983 التي ضربت البلاد آنذاك، فضلاً عن حالة التداعي والانهيار التي يشهدها الريف السوداني لا سيما مع بداية تدهور مشروع الجزيرة ثم حرب الجنوب، التي أسفرت عن حالة توافد أعداد كبيرة من النازحين خلفت كنتونات سكانية عرفت بأحياء الكرتون أو الصفيح، لذلك شهدت الخرطوم ما يشبه الفوضى في التمدد الأفقي. وبحسب الدراسات، هناك أربعة محركات لمخاطر الكوارث جلها متوافر للأسف في العاصمة بدرجات متفاوتة من الحدة، أولها التوسع الحضري غير المنظم، وثانيها التدهور البيئي، وثالثها التغير المناخي، ورابعها الفقر الذي يمثل ظاهرة عامة في السودان ككل".
وتابع عبدالحميد "هناك جانب آخر وهو أن الخرطوم كمدينة لا تتمتع ولو بالحد الأدنى من المرونة التي تعني القدرة على العودة للحالة الطبيعية عقب الكوارث، فالجانب التخطيطي يكاد يكون أبرز الغائبين في عملية تأهيل المدينة ومدها بعوامل المرونة، ومع انعدامه، مقروناً بضعف حاد في البنية التحتية للمدنية من شبكات صرف صحي وخدمات مياه نقية وكهرباء وطرق ومواصلات، تكون الخرطوم في وضع أصلاً لم تكن لتحسد عليه".
وبين أنه "مع تفاقم الحرب في أكثر مواقع الخرطوم استراتيجية (وسط المدينة)، يمكن القول إن حالة الدمار الناشئة من الحرب تدعو للتفكير الجاد بنقل العاصمة لمنطقة أخرى بعيداً من موقعها الحالي وبمواصفات عالمية تتوافر على كل مقومات المرونة. فالخرطوم بعد الحرب ستكون حالة ميؤوساً منها وعلى المخططين أن يفكروا جدياً في وضع خطط لإعادة الأعمار بأفق مختلف، قوامه التخطيط لمدينة جديدة غير العاصمة الحالية التي غلب عليها الخراب، ولن تستعيد عافيتها لأنها لم تكن أصلاً أهلاً لأن تكون عاصمة بالمعنى الحضري والحضاري".
وزاد أستاذ مادة الحد من أخطار الكوارث "هناك مشكلة حقيقية سيعانيها معظم سكان الخرطوم وهي رفضهم الترحيل للمكان البديل، وذلك أمر مفهوم لأن السكان سيكونون مصابين بما يمكن تسميته متلازمة (الارتباط النفسي)، لذلك فإن تغيير هذه النفسية سيكون في حد ذاته جزءاً من عملية إعادة البناء والإعمار".
اختلال وإجلاء
وفي السياق، قال المتخصص في الشؤون البيئية أحمد قسومة، إن الوضع البيئي في الخرطوم يجعلها غير قابلة لعودة سكانها الذين غادروها بعد الحرب ما لم يتم إعادة تأهيلها، وهو بلا شك أمر غير محبب لأنه يقودنا إلى المربع الأول، وهو ما استأثرت به العاصمة على حساب مدن السودان الأخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف قسومة "تكاد تبلغ نسبة النزوح من الخرطوم أكثر من 50 في المئة من سكانها، في وقت باتت المدينة تفتقد لمقومات السكن المدني والبنية التحتية لها، بالتالي تصبح المشكلات البيئية هماً ثانوياً مع فقدان المقومات الأساسية للمدن، إضافة لعدم معرفتهم كسكان لمنهجية السكن، فهناك اختلال واضح في توزيع الأراضي وتقييمها مثل أن تكون الدرجات الممتازة في أسوأ أماكن للسكن، أي تجدها حول المطار أو قريبة من المقابر. كما يلاحظ أن الطرق لا تراعي خطوط الكنتور وتصريف المياه، وأن شبكة الصرف الصحي غير كافية ومتهالكة، كما أن خدمات المياه تعتمد على الآبار على رغم وجود آبار للصرف الصحي، ففي رأيي يفترض إزالة هذه العاصمة من الوجود وإعادة تخطيطها".
وواصل "كل هذه العوامل والأسباب تجعل عودة سكان الخرطوم في ظل الوضع البيئي الحالي والناتج من آثار هذه الحرب خصوصاً مع فصل الخريف، أمراً يجب منعه حفاظاً على السكان".
ولفت المتخصص في الشؤون البيئية إلى أن كثيراً من الدول تقوم بإجلاء السكان قسراً من المدن التي تحدث فيها الكوارث، لكن لا أعتقد أن يحدث هذا الأمر في الخرطوم التي تعاني من وضع بيئي كارثي، لعدم وجود إمكانية واستعداد لذلك سواء من قبل الدولة أو المواطن.
وأردف "في تقديري أن المشكلة ليست في الوضع البيئي الناتج من الحرب، بل هنالك أوضاع أمنية وتخطيطية وهيكلية وثقافية تمنع عودة السكان حالياً أو استعادة مكانها السابق كعاصمة للبلاد".
قتلى ونازحون
وأسفرت الحرب الدائرة بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو، عن أكثر من 3900 قتيل بحسب منظمة العفو الدولية، فضلاً عن نحو أربعة ملايين نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة.
وأشارت المنظمة على لسان أمينتها العامة أنييس كالامار، إلى أن المدنيين يعيشون رعباً لا يمكن تصوره في السودان، بخاصة الخرطوم سواء من ناحية القتل في منازلهم أو نقص الغذاء والدواء.
وتابعت "تعرضت عشرات النساء والفتيات، بعضهن لا يتجاوز أعمارهن 12 سنة، للاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي بأيدي متحاربين من الطرفين... ليس هناك مكان آمن".