لم يتفاجأ السوريون من اختفاء عملتهم المعدنية (الليرة) بعد تضخمها، وزيادة أسعار المنتجات في الأسواق، مع فارقٍ شاسعٍ بدخل الفرد وتدنّيه في سنوات الحرب، بقدر ما فوجئوا من فقدان العملة الورقية من فئة الـ 50 ليرة والتي لم يتبقّ منها إلا ما ندر في التداول بين أيدي الناس ومعظم ورقها مهترئ.
عملة بلا قيمة
وشغلت الخمسون ليرة تفكير السوريين، وباتت حديث الشارع على الرغم من أنها القطعة النقدية الأقل قيمة تسبقها عملة نقدية معدنية من فئة (25) ليرة سورية ما زالت محافظة على انتشارها في وقت لا تحقق هذه الورقة أي قيمة شرائية مع ارتفاع أسعار المنتجات وزيادة تكاليفها.
في المقابل، يواجه المشترون والبائعون هواجس التعامل مع بضائع تحمل هذه القيمة في الأسواق في تحد نحو الحصول على هذه الفئة النقدية، بل امتد فقدانها المفاجئ إلى إجراءات وتدابير تثير السخرية والطرافة.
عملات من الشوكولاتة
منها ما دفعت سائقين يعملون على خطوط مدينة دمشق إلى حمل عُلبٍ من (الشوكولاتة والعلكة والسكاكر) وغيرها من المنتجات الغذائية للأطفال في مركباتهم والتي تحمل قيمة الخمسين ليرة حتى يتثنى لهم دفع وإرجاع ما يتبقى من قيمة الأجرة للركاب. ويقول أحد السائقين على خط سير المركبات "برزة" في العاصمة السورية "يحدث في سيارتي يومياً صراع بيني وبين الركاب الذين يلقون اللوم عليَّ، إذ تكون قيمة التوصيلة 50 ليرة، وحين يدفع أحدهم 100 ليرة، لا يكون معي 50 لأردها له بسبب انقطاع هذه الورقة من السوق، فأضطر إلى تكملة القيمة بعلب الشوكولاتة حتى لا يصفوني باللص".
الحوادث اليومية من مشاجرات بين السائق والركاب في الحافلات يومية، زادت في الأشهر الأخيرة وتحولت إلى نكدٍ صباحي بشكل غريب اعتاد عليه الناس فعدم رؤية الخمسين ليرة إلا بشق الأنفس، في وقت الوزارات المختصة لا توضح للمواطنين أسباب حدوث ذلك، وكأن الأمر أصبح سراً من الأسرار.
مبررات الاختفاء
يرى مراقبون اقتصاديون أن اختفاء ورقة الـ 50 ليرة، جاء بعد ضخ كميات منها وفي أغلبها مهترئة كان المصرف المركزي قبل سنوات الحرب قد جمعها ووضعها في الاتلاف وأعاد استخدامها مجدداً.
لكن يوضح الاقتصادي والخبير المصرفي سابقاً، يوسف خولي أنه مع اشتداد الوضع الاقتصاد سوءاً في البلاد وحاجة الدولة إلى سداد الرواتب والتكاليف في العام 2014 وهو العام الأسوأ اقتصادياً حيث انهارت الليرة بشدة وزادت التكاليف، كان لا بد من الإفراج عن هذه الكميات عبر ضخها في التعاملات من منطلق إسعافي.
ويتابع خولي أنه مع ضخ هذه الكميات وتداولها بين الناس وهي قطع ورقية تعود إلى إصدارين الأول في 1998 والثاني في 2009 وهي منتهية الصلاحية، وما زاد من تلفها زيادة التعاملات خلال السنوات الأخيرة.
ويبرر اختفاءها بقوله "زيادة الطلب والتعامل وقيمتها الضعيفة دفعت إلى اهمال هذه الفئة وتركها، أو الإتلاف الحقيقي من قبل صاحبها، عوضاً عن تبديلها عبر المصرف لما في ذلك من مشقة وهي لا تساوي تكلفة وعناء استبدالها ولهذا اختفت بشكل تدريجي".
العملة الغامضة
ما يبرره المصرفي خولي يبقى وجهة نظر قابلها في الشق الآخر تساؤلات عن غموض اختفاء قطع نقدية صكّها المصرف المركزي بعد أن أعلن في يونيو (حزيران) عام 2018 نيته ضخ هذه العملة لتوفير هذه القطع في الأسواق وما أن ضخت للتداول حتى اختفت فجأة وهذا ما لاحظه كل السوريين في سابقة لم تشهدها البلاد من قبل.
في المقابل، أعلن المصرف المركزي تبديل أوراق نقدية تالفة العام الماضي من الفئة نفسها بما يساوي 5 ملايين ليرة.
في السياق ذاته، حملت العملة المعدنية للخمسين ليرة الجديدة في صورتها الأمامية شعار النسر السوري، ونقشَ على الوجه الخلفي للعملة صورة ضريح الجندي المجهول.
ويرى مراقبون أن العملة المعدنية الجديدة جاءت للتخفيف من حدة الطلب عليها وانتشارها لشدة التعامل بها وباتت تشكل قيمتها بما يعادل تقريباً قيمة الليرة، والتي انقرضت في الأسواق وباتت من التحف الأثرية ولم يعد يشاهدها السوري.
وبحسب مصادر مصرفية يرجح سر اختفاء العملة المعدنية الجديدة بسبب الكميات القليلة التي ضخت بالأسواق بعد سبكها والتي لم تلبِ الطلب المتزايد.
انتكاسات متلاحقة
تعرضت العملة السورية (الليرة) لأكبر انتكاساتها إبان الحرب الأخيرة والمستمرة منذ العام 2011 وما زالت الآثار السلبية بادية على الاقتصاد والعملة السورية آخذةً بالانهيار أمام العملات الأجنبية الصعبة.
ولم تفلح معها كل تدخلات مصرف سوريا المركزي إلى خفض ارتفاع الدولار الأميركي أمام الليرة والتي تهاوت حيث تجاوز الدولار الواحد حاجز 600 ليرة سورية منذ أشهر بعد أن ثبت صرفه في السنتين الماضيتين بين 500 إلى 550 ليرة سورية، إضافة إلى ارتفاع الذهب الذي تجاوز اليوم 14 أغسطس (آب) حدود 25 ألف ليرة سورية.
ومع كل هذه الأحداث الاقتصادية الأخيرة التي تشهدها دمشق والمدن التي تسيطر عليها الدولة من تراجع في الصرف وزيادة في قيمة المعدن النفيس يستغرب السوريون من ثبات دخولهم والتي لا توازي الزيادات العالية في الأسعار من دون توقف.