ملخص
أسئلة مفكر عتيق: لماذا نحمل أجسامنا وظائف لا تطاق ثم نغطي ذلك بالتوابل والزيوت؟
نعرف طبعاً أن المؤرخ الروماني بلوتارخ بخاصة في كتابه العمدة "السيَر" قد أرخ للعدد الأكبر من التيارات الفلسفية، والفكرية بصورة عامة، التي عرفها العالم منذ فجر الوعي البشري، كما أرخ لقادة الفكر والسياسة والإبداع منذ ما قبل ولادة السقراطية نفسها حتى الزمن الذي عاش فيه. لكننا نعرف في المقابل أن ليس ثمة في أي من صفحات وفقرات كتابه التي تعد بالألوف أي ذكر لتيار نباتي يستنكف عن أكل اللحوم، بل أي نوع على الإطلاق من اللحوم، ويفضل الاكتفاء بما تنتجه الطبيعة من نباتات وفواكه وحبوب وما شابه ذلك، لكن بلوتارخ كان، على رغم ذلك الغياب لذكر النباتيين في كتابه، "نباتياً"، بل حتى منظراً للسلوك النباتي في جل معانيه الصحية والأخلاقية والفلسفية والعلمية، ومن هنا إلى اعتباره المؤسس الحقيقي للتيار النباتي في مجرى التاريخ الإنساني، خطوة يحلو لبعض المؤرخين والمنظرين المعاصرين لنا اجتيازها، ولكن لماذا نقصر حديثنا هنا على المعاصرين؟ فالسبب في غاية الوضوح، فقط في زمننا هذا بات السلوك النباتي بخاصة في مجال عوائد المائدة موضوعاً للتأريخ والتنظير. قبل ذلك كان ممارسة بالكاد يتحدث عنها أحد.
ومن هنا كانت المفاجأة كبيرة، بل مدهشة، حين "اكتشف" نص لبلوتارخ يرد في ثنايا كتاب له غير معروف كثيراً إلا لغلاة المتخصصين عنوانه "حول استخدام اللحوم" يعد جزءاً من كتابات له تسمى "كتابات أخلاقية". وقبل هذا الكتاب كان ينظر إلى مسائل من هذا النوع تتعلق بالأطعمة على أنها شؤون دينية بالكاد ينبغي تفسيرها عقلانياً.
نظرة أكثر منطقية
لكن بلوتارخ في هذا النص الذي يتسم في نهاية الأمر بطابع علمي – صحي لا مراء فيه، حرص على أن يجعل نظرته إلى الأمر نظرة منطقية بحيث أن نصه يبدو وكأنه نص علمي شديد المعاصرة حتى دون أن نعرف ما إذا كان قد شاع بين الناس وحدد لهم سلوكهم في مجال التغذية أو كان منظومة تحتذى، وفي المقابل نعرف أن بلوتارخ كان رائداً في مجال اهتمام كثر من الفلاسفة والمفكرين ومنذ عهود الفكر الإغريقي القديم، بذلك النوع نفسه من الشؤون حتى وإن لم نكن نعرف ما إذا كانت العامة قد اتبعت النصائح المقدمة أو أن هذه تمكنت من أن تندرج في سياق المعرفة الطبية على شكل وصفات يقدمها أبرع النطاسيين، ومهما يكن من أمر هنا، نعرف أن الفلاسفة المسلمين في العصر الوسيط الذين كانوا في الوقت نفسه أطباء، غالباً ما كانوا ينصحون مرضاهم بسلوكات غذائية دون أن تكون محدودة بكونها سلوكات نباتية، بل دون أن تخرج غالباً عما تفرضه الأديان من أعراف في هذا المجال، ترى أفلم يكونوا يقولون إن المعدة بيت الداء؟. وفي المقابل لا بد أن نعود هنا إلى بلوتارخ ونظرياته النباتية التي نلاحظ دون أدنى ريب أنها في منتهى الأمر نظريات علمية فكرية خالصة.
الحقيقة تنفي المزاعم
ينطلق بلوتارخ في تأسيس نظريته هذه من قوله "يقال عادة إن استخدام اللحم في التغذية أمر يتأسس على ما تتيحه الطبيعة نفسها، غير أن تشكل الجسم الإنساني يؤكد لنا في حد ذاته ما هو معاكس لذلك القول تماماً. فالإنسان لا يمتلك منقاراً ولا مخالب ولا حتى أنياباً شديدة الحدة تمكنه من قطع اللحوم التي تتميز بشكل عام بصلابتها، كذلك فإن معدة الإنسان لا تتمتع بتلك القيمة الهضمية التي تمكنها من هرش اللحوم داخل الجسم بينما تبدو الأمعاء أوهن من أن تنقل عصارتها، والشرايين أضعف من أن تتلقى سوائلها بسهولة كي تنشرها في زوايا الجسم الداخلية، وعلى العكس من ذلك فإن جسم الإنسان مزود بصورة طبيعية بأسنان متساوية تقريباً ومنتظمة وبفك متوسط القوة وبلسان رخو وهش فيما تبدو حرارة الجسم أضعف من أن تشتغل على ما يسفر عنه تناول اللحوم الحيوانية داخل الجسم، هذا الجسم لا يبدو في طبيعته مجهزاً للتعامل مع تلك اللحوم بوصفها أغذية تصلح للإنسان، ومع ذلك هناك ثمة من يزعم أن الجسم البشري قد رُكّب بحيث يكون قادراً على هضم تلك اللحوم كما حال الدببة والذئاب والأسود التي يشكل اصطياد الحيوانات والاغتذاء بها جزءاً حقيقياً من طبيعتها. بالتالي يقال للإنسان إن عليه ألا يعبأ وأن يعض تلك اللحوم ويهشمها بفمه ويزدردها كما يحلو له، بل حتى أن يأكلها نيئة كما تفعل الضواري".
إغاظة الطبيعة
وانطلاقاً من هنا يسأل بلوتارخ قراءه بلغة احتجاجية قاطعة: "... فإذا كنتم تنتظرون موت تلك الحيوانات قبل أن تقدموا على أكلها بالنظر إلى استحالة أن تأكلوها حية، أو أن تذبحوا كائناً حياً كي تأكلوه بعد ذلك، لماذا تراكم بالتالي وفي شكل يثير غيظ الطبيعة ضدكم كما قد تقولون، تغتذون من لحم حيوان لم يؤذكم، بل تدعون أنه عزيز عليكم؟ بل لماذا لا تنصرفون بالتالي إلى التهامه كما هو بعد أن يقتل سواء قتل على أيديكم أو وجدتموه مقتولاً أو حتى ميتاً؟ حسناً، أعرف وتعرفون أن عليكم قبل أكله أن تبدلوا من وضعيته بشيّه أو سلقه أو قليه على حرارة مرتفعة جداً، وهي الأمور التي تبدل كلية من كينونته ووضعيته، إذ إن النار أو المرق السائل وما شابه ذلك هي ما يجعلكم تنسون الهول الذي يشكله موته، وهو نسيان لا بد من استخدام التوابل وشتى الأعشاب للتستر عليه، ففقط بفعل تلك الإضافات تنتفي الوضعية "الطبيعية" لتلك اللحوم وتسوغ التهامها، بالتالي فهي نوع من أقنعة دورها أن تنسيكم أنكم تأكلون لحم كائنات ميتة، بالتالي تغتذون بغذاء غريب يخرج عن إطار الطبيعة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما كنت في حاجة إلى السمكة!
وهنا تحضر بلوتارخ في سياق حديثه نفسه، حكاية ذلك المواطن الإسبارطي الذي قصد يوماً نزلاً وطلب من طباخ مطعم النزل أن يبيعه سمكة ثم طلب منه أن يحضر له وجبة من تلك السمكة، فطلب منه الطباخ أن يأتيه بشيء من الخل والزيت والزبد لكي ينقع السمكة في الخليط متبلاً إياها وتصبح صالحة كغذاء له، فدهش الإسبارطي وقال للطباخ محتجاً "لو كان عندي خل وزيت وزبد، ما كانت بي حاجة إلى أن أشتري سمكة". وهذه الحكاية تجعل بلوتارخ يخلص في حديثه مندهشاً ليقول لنا بأن الخدعة الأساسية التي نخترعها في هذا المجال الغذائي ونسير على هديها تكمن ها هنا، في أننا حتى نأكل اللحم نكون دائماً في حاجة إلى تحويله إلى ما نسميه وجبة متكاملة لمجرد أنه في حد ذاته لا يمكنه أن يكون وجبة كما حال النباتات والفواكه والحبوب التي يكفي استخدام النار لطبخها حتى نستخدمها كغذاء كاف لنا، بينما تحتاج اللحوم منا إلى ألف خدعة وخدعة وإلى اللف والدوران في محاولة بائسة منا لتقليد الحيوانات المفترسة وتحويلنا إلى آكلي لحوم دون أن تكون لنا القدرة الجسدية الطبيعية على القيام بذلك. ومن هنا يطرح بلوتارخ سؤاله الأساسي في هذا السياق: لماذا ترانا نبذل كل هذا الجهد ونحمل أجسامنا وجهازنا الهضمي وأسناننا وشراييننا فوق ما تطيق، فيما البدائل جاهزة دائماً في انتظارنا؟ لماذا نحول أنفسنا إلى قتلة والحلول الأخرى التي تحفظ لنا إنسانيتنا وتفرقنا عن الحيوانات المفترسة موجودة في متناول أيدينا، بل هي أقل كلفة وعلى الأقل من الناحية الصحية والأخلاقية؟ لقد طرح بلوتارخ هذه الأسئلة التي ربما تبدو اليوم ساذجة بعض الشيء أو على الأقل تبسيطية، قبل نحو ألفيتين من الزمن وربما لا يزال ينتظر من يجيبه عنها حتى اليوم، ولكن دون أن يتصور الازدياد المذهل في أعداد المؤمنين بنظريته من نباتيي اليوم الذين قد لا يكون أي منهم سمع باسمه أو يتصور أن ثمة من طرح مثل هذه الأسئلة التي تبدو شديدة الحداثة، خلال تلك الأزمنة الموغلة في القدم!