ملخص
خطر الهدم يهدد دار الكتب التي أنشئت عام 1870 ودار الوثائق القومية والهيئة العامة للكتاب
بعد سبعة أعوام على قرار إنشائها، بدأت هيئات حكومية عملها من العاصمة الإدارية الجديدة لمصر التي تقع في منتصف المسافة بين مدينتي القاهرة والسويس على مساحة 170 ألف فدان، أي أكبر من مساحة سنغافورة.
تنتمي المدينة إلى الجيل الرابع للمدن الجديدة في مصر وحرص مصمموها على أن تضم الأكبر في المنشآت، ومنها أكبر دار أوبرا في الشرق الأوسط ضمن مدينة ثقافية تقع على127 فداناً، والمكتبة الرئيسة على مساحة 10 آلاف متر مربع، ومتاحف ومسارح وصالات سينمائية وقاعات تدريب، وحالياً يجري نقل مقار وزارة الثقافة ومنها الهيئة العامة لقصور الثقافة. فماذا عن المباني الأثرية التابعة للوزارة في القاهرة أو المقار ذات الطبيعة التاريخية مثل دار الكتب؟
رئيس اتحاد الكتاب السابق محمد سلماوي فجر قنبلة عندما علق على "بيان مجهل" متداول في الـ"سوشيال ميديا" عن خطر يهدد ثلاثة مبانٍ ثقافية هي دار الكتب التي أنشئت عام 1870على يد علي مبارك باشا باسم "الكتبخانة" لتكون مكتبة مصر الوطنية، ودار الوثائق القومية التي تحوي مستندات ووثائق تاريخ مصر وأنشئت باسم دار المحفوظات العمومية عام 1828، أي قبل إنشاء مثيلتها في لندن بعشر سنوات، والهيئة العامة للكتاب أكبر ناشر مصري، وجميعها تطل على النيل. صورة قديمة لدار الكتب
وزعم البيان أن أمراً صدر بأن يقام على أنقاض تلك المباني فندق خلال عام ونصف!، وعقب سلماوي بأسئلته، كيف سيتم نقل مطبعة الهيئة التي هي نفسها مطبعة "بولاق" التاريخية أقدم مطبعة في الشرق الأوسط التي تضم عشرات آلاف العاملين؟ وكيف سيتم نقل كنوز ومخطوطات دار الوثائق؟
استناداً إلى المقالة المنشورة في جريدة "الأهرام"، فإن وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني تحدثت عن التقنيات المتطورة المتوافرة في العاصمة الجديدة لقطاعات الوزارة، فيما أكد أحمد بهي الدين وأسامة طلعت رئيسا هيئة الكتاب ودار الكتب عدم صدور أمر إخلاء، مما يعني استمرار المؤسستين في موقعيهما.
كارثة مقبلة
لكن الكاتب أحمد الخميسي رأى في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن هذه التصريحات غير كافية ومجرد "كلام عمومي" لا ينفي عملياً اعتزام الحكومة نقل المؤسسات الثلاث، واعتبر ذلك بمثابة "كارثة" لأن المعاني وثيقة الارتباط بالأماكن التي ولدت فيها، خصوصاً إذا كان الهدف من النقل وضع اليد على المقار المطلة على النيل لبيعها، أو إضافة ثقل نوعي إلى العاصمة الإدارية، لكن نقل تمثال الحرية من نيويورك إلى شبرا الخيمة (حي شعبي في شمال القاهرة) لن يجعل منه أميركا.
في المقابل أشارت بعض التصريحات إلى أن عدداً من القصور التابعة للوزارة وبعضها في حي الزمالك الراقي، كانت مستأجرة ومحل نزاع قضائي، ومنها ما تم ضمه إلى سلطة وزارة الآثار، أي إن عملية النقل تفرض بالضرورة مراجعة شاملة لمنشآت الوزارة، ومنها مثلاً المبنى الضخم لهيئة قصور الثقافة بعد نقلها بالفعل، لكن لا تبدو الرؤية واضحة أو في الأقل غير معلنة، بمعنى أن النقل يجري، لكن لا يصدر بيان واضح في شأن مصير المقر القديم. فمثلاً ماذا عن المبنى العتيق للمركز القومي للترجمة الذي يقع في حرم دار الأوبرا ويتصدره تمثال نصفي لرفاعي الطهطاوي، بعد نقل موظفيه إلى العاصمة الجديدة؟ هل سيُؤجر أم يحتضن نشاطاً آخر؟.
غموض وجدل
ما ألمح إليه كثيرون في تعليقاتهم يدور حول مساحة الغموض وافتقاد المعلومات الكاملة من مصادرها، فمثلاً لم تعقد وزيرة الثقافة مؤتمراً صحافياً توضح فيه المؤسسات التي ستُنقل والتي ستبقى، أو سُيعاد تدويرها أو الاستغناء عنها، وما الفروق بين دور "مدينة الثقافة والفنون" الجديدة ودور القاهرة كمدينة ثقافية عريقة يزيد عمرها على ألف عام؟
نظرياً، إضافة منشآت ثقافية وفنية ضخمة وبتقنيات بالغة التطور، أمر يستحق الإعجاب والتقدير وربما يفوق ما جرى إطلاقه في عهد عبدالناصر، لكنه يثير جدلاً لا ينتهي حول مصير القديم القائم. فبعضهم يرى أنه من باب أولى ترميم وإصلاح المنشآت القائمة من دون حاجة إلى هذا الإنفاق، وعلى رأسهم الكاتب والفنان محمد صالح الذي دعا إلى الالتفات إلى المؤسسات القائمة مثل أكاديمية الفنون التي أنشئت في عهد عبدالناصر، كما شدد على الاهتمام بـ"الكوادر" من مبدعين وفنانين قبل الاهتمام بـ"المباني".
رؤية استثمارية
ثمة جانب مهم في السجال الدائر يتعلق بالرؤية الرسمية للثقافة، فربما كان عبدالناصر الرئيس الأكثر ترسيخاً للثقافة ضمن مشروعه السياسي، وأنشأ في كل مدينة قصر ثقافة، وكان وزيره ثروت عكاشة مؤمناً بأن حق المواطن في الثقافة لا يقل أهمية عن حقه في الخبز، وفق رؤية خدمية تذهب بالثقافة إلى الناس في القرى والنجوع مجاناً، فهل العاصمة الإدارية بكل فخامتها وأناقتها تنطلق من هذا التصور نفسه؟ هل سيذهب العمال والفلاحون والطبقات المهمشة إلى مكتبتها الفخمة ودار الأوبرا الأكبر في الشرق الأوسط؟
قبل أربعة أشهر اجتمعت الكيلاني بمجلس إدارة الشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والسينمائية في العاصمة الإدارية، وأعلنت عن "انتهاء إجراءات نقل الأصول المملوكة للوزارة من سينمات ومعامل واستوديوهات" إلى الشركة ذاتها التي ستلعب دوراً مهماً في حماية التراث والاستثمار في الصناعات الثقافية والإبداعية وستعمل كجسر للتواصل والشراكة مع القطاع الخاص وتهيئة المجال لتدفق الاستثمارات.
بينما أكد رئيس الشركة أيمن إسماعيل أن الرؤية "تهدف إلى تحويل الأصول إلى مراكز ربحية تسهم في الارتقاء بالناتج القومي"، مما يعني أننا إزاء رؤية مضادة لما قدمه عبدالناصر، ونقل الثقافة من "نشاط خدمي" إلى "نشاط استثماري"، وهذا مفهوم في سياق توجه الدولة للتخفف من الأعباء والرعاية المجانية التي ارتبطت سابقاً بتوجهات اشتراكية قومية آنذاك.
الحق في الثقافة
هل سيكتب النجاح للتوجه الجديد؟ ألن يكون منطق "الثقافة والفنون" لمن يدفع أكثر خطراً يؤدي إلى حرمان معظم الشرائح من حقوقها في خدمة ثقافية؟ تبدو الروائية سهير المصادفة منحازة أكثر إلى المفهوم الخدمي والتنويري، وتقول لـ "إندبندنت عربية"، "علّمنا طه حسين أن التعليم والثقافة مثل الماء والهواء، أي إنه من المفترض انتشارهما في كل مكان. وبناء عليه تظل المباني الثقافية مجرد مبان صماء، لا تقوم برسالتها الثقافية إلا إذا حركتها رؤية استراتيجية واضحة وإرادة حقيقية لتثقيف المجتمع"، وأضافت المصادفة التي سبق لها تولي مسؤولية النشر في الهيئة المصرية العامة للكتاب وأسست أحد أهم سلاسلها "سلسلة الجوائز"، المعنية بترجمة الأدب من لغات شتى إلى اللغة العربية، "منذ أعوام والمشهد الثقافي المصري يعاني العزلة على رغم وجود المباني في قلب القاهرة، فالندوات والمؤتمرات الأدبية تقام على عجل واستحياء، فلا يشعر بها إلا ضيوف المنصة، وحفلات التوقيع لا يحضرها إلا أصدقاء المؤلف، ومن الصعب تذكر عنوان ثقافي مهم يحرك المياه الراكدة. بينما كنا في تسعينيات القرن الـ20 نحاول جاهدين أن تصل الثقافة إلى كل ربوع مصر من خلال مشاريع عملاقة مثل مكتبة الأسرة والمكتبات المتنقلة وليالي الثقافة الجماهيرية المسرحية، والجيل الذي من قبلنا كانت لديه مشاريع أكبر مثل مسرح الجُرْن والألف كتاب الأول. وكان ثروت عكاشة وضع آنذاك أعمدة تنفيذ رؤية طه حسين على أرض الواقع، فتم تنوير أبعد نقطة في مصر من خلال الفيلم والمسرحية والأغنية والكتاب. باختصار المشكلة ليست في الأمكنة بل في مَن يقطنها".
تشكيك في النيات
غالباً لا تحظى الأنشطة الثقافية، حتى المجانية، بإقبال واسع، فمعدلات القراءة مثلاً متراجعة ومشروع "القراءة للجميع" يعيش مرحلة احتضار، كما ألمحت المصادفة، وتقلصت صالات السينما والمسرح طيلة عهدي السادات ومبارك، فإذا كان النشاط المجاني أخفق، فهل سينجح النشاط مدفوع الأجر في ظل ضغوط اقتصادية يقر بها الجميع؟
وإذا كانت المؤسسات القائمة وسط التجمعات السكانية في القاهرة بالكاد تقوم بدورها لبضعة أفراد، فهل مع ابتعادها على بعد 60 كيلومتراً سيضمن لها جمهوراً؟ ولماذا أقطع كل هذه المسافة للاستمتاع بحفل في دار الأوبرا بينما لديّ دار قائمة على بعد خطوات مني؟، كذلك ثمة خشية في تعليقات بعض المبدعين من بيع الأصول أو إهدار الأرشيفات وسرقتها في ضوء تجارب سلبية سابقة.
وآراء عدد من المثقفين لا تقتصر على ثلاث أو أربع منشآت، كما أشار سلماوي، فعلى سبيل المثال علّقت الكاتبة عبلة الرويني على إطلاق مبنى إعلامي في العاصمة الإدارية ليكون بديلاً عن مبنى "ماسبيرو" الشهير المطل على النيل، وما قيل عن تحويله إلى فندق أو "مول" تجاري، خصوصاً مع دعوة الإعلامي عمرو أديب إلى هدم المبنى وتأييد نقله، فرأت أن هذه الدعوات بمثابة محو للذاكرة والتاريخ وإهالة التراب عليهما، مستغربة رفض اقتراحات كثيرة لتطوير المبنى والاستفادة منه مع الحفاظ على قيمته التاريخية.
مقابر العظماء
كما تكرر الجدل والسجال بوضوح في ملف إزالة بعض المقابر ذات الطبيعة الثقافية مثل مقبرة عميد الأدب العربي طه حسين، فنشر الكاتب الصحافي مصطفى عبيد كلاماً عن تفكير أسرته في نقل رفاته إلى فرنسا البلد الذي تعلم فيه وتزوج منه، وطاولت المخاوف أيضاً ضريح الزعيم سعد زغلول الذي يقع في قلب القاهرة وأقيم منذ نحو 90 عاماً، وكذلك مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ضوء تلك الأخبار المتداولة استغرب أحمد الخميسي أنهم أخضعوا مدفن طه حسين ليتناسب مع مرور أسمنت الكباري (الجسور)، بدلاً من أن يفعلوا العكس وأزالوا للغرض نفسه مقابر شخصيات تاريخية، بحسب الخميسي، مثل المقريزي والإمام الشافعي والشاعر محمود سامي البارودي و"لا حس لاتحاد كتاب مصر ولا لوزارة الثقافة ولا لأحد. إننا نهدم التاريخ ولا نبني شيئاً للثقافة والذاكرة".
لا شك في أن الصور المتداولة لهدم عدد من مقابر رموز وطنية وثقافية أسهمت في التشكيك في نيات الحكومة، والسعي إلى هدم وإفساد الطبيعة المعمارية والثقافية لمدينة عريقة مثل القاهرة، على رغم أن رئيس الجمهورية أكد إنشاء مقبرة كبرى تكون صرحاً للخالدين كما هو معمول به في كثير من الدول المتقدمة.
ليست مصر أول دولة تغير عاصمتها، أو تنتقل من عاصمة عتيقة ومزدحمة بالبشر والمشكلات، بل فعلت ذلك دول كثيرة منها تركيا والهند، ولا أحد يعترض على التطوير في حد ذاته، لكن ثمة حلقة ثقة مفقودة بين طموحات وأحلام الحكومة ومخاوف بعض المثقفين ألا تفقد القاهرة سطوتها السياسية والإدارية فقط، بل تموت روحها الثقافية وتتحول قصورها ومبانيها العتيقة إلى أطلال في مدينة عجوز لا يعبأ بها أحد.