ارتفعت الأصوات المشككة في قدرة السلطات الجزائرية على استرجاع الأموال المنهوبة المهربة إلى الخارج، ما فتح أبواب الطعن في مصداقية حملة محاربة الفساد التي يشنها القضاء منذ استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لكن وزير العدل الجديد بلقاسم زغماتي، وضع حداً للشكوك بعد تصريحه أن "الجزائر لديها الإمكانيات والوسائل القانونية وبالتعاون مع الدول الصديقة والشقيقة، لاسترجاع الأموال المودعة في بنوكها، وأن مكافحة آفة الفساد لن تكتمل إلا باسترجاع الأموال المنهوبة".
بين الحقيقة والخيال
شغل الحديث عن صعوبة استعادة الأموال المنهوبة المهربة إلى الخارج، السياسيين والاقتصاديين، كما الأوساط الشعبية، وذلك لاعتبارات عدة، أهمها غياب اتفاقيات بين الجزائر ودول معنية بالملف، إضافة إلى "الضبابية" في إحصاء المبالغ المهربة بسبب التقنيات المستعملة للتمويه، بدليل اعتراف زغماتي، بأن "استرجاع الأموال المنهوبة يشكل في وقتنا الراهن حجر الزاوية".
وأكد أن "استرجاع ما جرى نهبه من أموال ضروري لأن الدافع من وراء ارتكابهم جرائم الفساد هو في الأساس تحقيق الربح غير المشروع، فيجب تعميق التحقيقات المبدئية بغية كشف الجناة وحصر عائداتهم الإجرامية، وتحديد الأماكن حيث توجد تلك الأموال ومعرفة قيمتها، وذلك بهدف حجزها أو تجميدها، ريثما تُعرض الملفات على الجهات القضائية للفصل فيها، وفقاً للقانون". وأوضح أن "الجزائر لديها الآليات القانونية اللازمة التي من شأنها تمكين السلطات من استرجاع الأموال المنهوبة".
رئيس الحكومة السابق علي بن فليس، دعا من جانبه إلى "الشروع في استرجاع الأموال المنهوبة من الخارج"، مستبعداً إمكانية تقدير حجم الأموال المسروقة، واقترح خطوات لتحقيق هذا الهدف، أولها "ربط اتصالات رسمية مع الدول التي تظهر التحقيقات أنها اختيرت ملجأ للأموال المهربة لإقناعها بالتعاون النزيه، وتفعيل الاتفاقيات الثنائية للتعاون القضائي، واللجوء إلى مكاتب دولية متخصصة في البحث والاستقصاء في مجال تهريب الأموال، وغيرها من النقاط".
إعادة الأموال مقابل تخفيض العقوبات؟
الخبير الاقتصادي حميدوش امحمد، رأى في تصريح لـ "اندبندنت عربية"، أن "مسألة استرجاع الأموال المنهوبة صعبة ومعقدة، وأن إحصاء حجم الفساد والاختلاس وتحديد المبالغ يتطلب تحقيقات تقنية، هذا بالنسبة إلى رجال الأعمال. أما بالنسبة إلى المسؤولين رفيعي المستوى فموضوع آخر، وعليه، فإن تحديد حجم ومبالغ الفساد كلام لا يستند إلى أية مرجعية"، واقترح "إعادة النظر في القانون على النمط الأميركي، أي يستفيد المذنب من تخفيض في العقوبات يجري التفاوض عليها، بعد الإبلاغ عن الأموال كلها، وفي حالة ظهور إخفاء يُلغى الاتفاق بينه وبين وكيل الجمهورية الذي يتفاوض معه، ويستفيد من تخفيض ثانٍ في حال تعاونه في استرجاع الأموال للخزينة، بما فيها الضرائب والغرامات في شروط الحالة الأولى ذاتها، ثم يستفيد من تخفيض آخر في حال الإبلاغ عن كل الأطراف المتواطئة، وهي أمور قانونية ليست حالات استثنائية تتطلب برلماناً جديداً وحكومة جديدة ورئيساً جديداً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعتبر حميدوش أن "تصريحات وزير العدل تعتمد على إجراءات وهي مضمونة قانوناً، لكن اقتصادياً نبحث عن الفعالية، أي هل ضُبطت كل الأموال وما هي تكلفة استرجاعها؟"، وخلُص إلى أن "المهمة صعبة جداً حتى لا نقول مستحيلة، لأن استعمال الحساب في الخارج يعتمد على الرقمنة، ويمكن لصاحبه تفريغه وهو في السجن، إضافة إلى صعوبة التفاوض مع حكومات أوروبية لها قوانين خاصة بالبنوك والمالية".
الملاذات الآمنة وسرية البنوك
من جهته، أوضح الحقوقي بوجمعة غشير أن "حصر عائدات المتورطين في قضايا الفساد وتحديد مكانها ليسا بالمهمة السهلة، على اعتبار أن محاربة الفساد على الصعيد الدولي تحكمها اتفاقيات دولية تضبط كشف الحسابات السرية والعقارات التي يستحوذ عليها المتورطون في قضايا الفساد"، مشيراً إلى أن "بعض البنوك الخارجية تلتزم السرية التامة وترفض في معظم الأحيان كشف المعلومات المتعلقة بزبائنها، ما سيصعّب مهام القضاء الجزائري في استرداد تلك الأموال، خصوصاً تلك الموجودة في البلدان المصنفة في القائمة السوداء للدول التي تمثل ملاذاً آمناً للتهرب الضريبي".
29 مليار دولار... هربت في حين غفلة
وبحسب البنك المركزي الجزائري، فإن كمية النقود المطبوعة التي لم تُضخ في اقتصاد البلاد قُدرت بـ 3441.8 مليار دينار، أي ما يعادل 29 مليار دولار، مقابل النقود التي ضُخت فعلياً والمُقدرة بـ 3114.4 مليار دينار، وهي الأموال المطبوعة في إطار السياسة النقدية غير التقليدية، التي اعتُمدت عام 2017. وقال المستشار السابق في البنك الدولي مالك سراي إن "ثلث الأموال المطبوعة في البنك المركزي الجزائري استُخدمت لشراء الدولار واليورو في السوق الموازية، لتهريبها إلى الخارج".
ويتساءل مراقبون عن حجم الأموال المهربة من قبل شخصيات رفيعة في الدولة ورجال أعمال، مقارنة بأربعة ملايين يورو احتُجزت عبر الموانئ والمطارات الجزائرية منذ بداية عام 2019، كانت بحوزة تجار صغار، يمارسون "تجارة الشنطة".
وقال الإعلامي حكيم مسعودي "لا أتصور شخصاً يملك الجرأة على المجازفة بتقديم تقديرات وأرقام حول حجم الأموال المهربة إلى الخارج"، معتبراً أن "كل ما يجري تداوله، لا يعدو كونه توقعات غير دقيقة بسبب طبيعة العمليات في حد ذاتها وحجم التمويه الذي يشوبها. وبالتالي من الصعب على الأجهزة الرقابية رصدها، إضافة إلى هوية الشخصيات الضالعة في تهريب الأموال ونفوذها الذي أدّى إلى توريط جهات عدة في مواقع ومستويات مختلفة".