ملخص
عندما فضحت اللغة الفرنسية كاتب الحرب الباردة فكشفت جزءاً من ماضيه لمتفرجي "آبوستروف".
حدث ذلك في واحدة من حلقات البرنامج الثقافي الأشهر بتاريخ التلفزيون الفرنسي "آبوستروف" الذي كان يقدمه برنار بيفو مرة في الأسبوع، واشتهر عنه أن كل كتاب يتم الحديث عنه في حلقة البرنامج ترتفع مبيعاته خلال الأيام التالية عشرات ألوف النسخ.
كان ذلك في آخر الأزمنة السعيدة التي عاشتها الثقافة على الشاشة الصغيرة في خريف عام 1989 حين استضاف البرنامج الكاتب الإنجليزي الشهير جون لوكاريه، الذي كان لا يزال معروفاً كواحد من أفضل الذين كتبوا روايات تجسس تتعلق بالحرب الباردة.
لوكاريه أتى إلى برنامج بيفو يومها ليتحدث عن أول رواية له أصدرها بعد انتهاء تلك الحرب بانفراط الاتحاد السوفياتي وهزيمة المعسكر الاشتراكي، "بيت روسيا"، وهو للمناسبة يومها ولأنه يقدر دائماً جمهوره الفرنسي العريض، قرر أن يتحدث في البرنامج بالفرنسية التي كان يتقنها إلى حد ما.
يومها كان من بين حضور الحلقة الكاتب الأميركي روبرت ليتل الذي كان يعمل مراسلاً جوالاً لمجلة "نيوزويك" ويجرب حظه في كتابة روايات تتحدث بدورها عن الحرب الباردة، متتلمذاً في ذلك على الزميل البريطاني الكبير، حتى وإن لم يكن مثل هذا الأخير قد عاش تجربته نفسها كعميل لأجهزة الاستخبارات التابعة لبلاده، "مما جعل مواضيع رواياتي وهمية مخترعة، على عكس روايات لوكاريه المستمدة من واقع عاشه بوصفه عمل زمناً في جهاز ’أم-16‘ البريطاني".
خيانة واحدة
من هنا فحين قررت مجلة "ماغازين ليتيرير" الفرنسية تخصيص لوكاريه بملف خاص عام 2016، أسهم ليتل في الملف بمقالة استعاد فيها ذكرى تلك الحلقة التلفزيونية الشهيرة، ليروي بشغف كيف حدث خلال الحلقة أن طرح واحد من الضيوف على لوكاريه سؤالاً يبدو أن هذا الأخير لم يفهمه تماماً، فانحنى في جلسته إلى الأمام متأملاً بشيء من الشحوب ليقول، "أجل لقد خنت شخصاً ما في حياتي، لكن ذلك حدث مرة واحدة، وكانت مرة طبعتني طوال حياتي وحتى الآن".
وفي مقالته يؤكد ليتل الذي يتقن الفرنسية بدوره أن السؤال الذي يبدو أن لوكاريه قد فهم أنه يتعلق بما إذا كان قد خان أحداً في حياته العملية، لم يكن يدور في الحقيقة حول هذا الموضوع، بل أخطأ لوكاريه في فهمه، والذي حدث حينها أن صاحب البرنامج برنار بيفو ما إن سمع اعتراف لوكاريه حتى انتفض مذهولاً، وقد اعتقد أنه قد حصل على سكوب يتضمن اعترافاً خطراً من ضيفه، فصرخ وهو يحدق فيه متى؟ كيف؟ وفي أية مناسبة حدث ذلك؟ "لكن هنا اعتدل لوكاريه في جلسته وصمت من دون أن يزيد حرفاً على ما قاله"، وربما كان أدرك سوء التفاهم الذي وقع فيه، بل ربما كانت تلك هي الحدود القصوى التي أراد لاعترافه أن يصل إليها وقد قصد ذلك بالفعل.
بحث غير مجد
المهم أن ليتل يتابع هنا في مقالته التي نشرت على أية حال قبل سنوات من موت لوكاريه، مما يعني أن من المحتمل أن يكون هذا الأخير قد قرأه، لكن المؤكد أنه لم يعلق عليه أبداً، مما يرجح فرضية أن يكون قد تعمد يومها الإدلاء بـ "ذلك الاعتراف المنقوص"، ويتابع حكايته ليقول إنه من فوره راح ينقب في سيرة حياة لوكاريه ثم في رواياته التي كانت قد صدرت حتى ذلك الحين، باحثاً عن أثر ما لتلك الخيانة التي تحدث عنها الكاتب، وستكون دهشته كبيرة حين يعثر ليس على خيانة واحدة، بل على خيانات تملأ معظم الروايات مما جعله يعنون مقالته بالعبارة الفصيحة التالية: "الخيانة هي اسم اللعبة".
لقد عثر ليتل إذاً على خيانات كثيرة، "لكني كما كتب لم أعثر على واحدة محددة تستجيب للوصف المبتسر الذي فاه به الكاتب الكبير"، بل الأكثر من هذا والذي يفوق الأمر أهمية وربما جذرية أيضاً، هو أن ما رصده ليتل من خيانات في أدب لوكاريه بدا له فقط كمجرد صدى غامض لتلك الخيانة الحقيقية التي أشار إليها صاحب "الجاسوس الآتي من الصقيع" و"الخلد" وغيرها من روائع ذلك النوع الأدبي الذي كان واحداً من كبار سادته لا ينازعه على اللقب فيه سوى قلة من بينهم طبعاً غراهام غرين وسامرست موم والاثنان إنجليزيان مثله، وكتبا انطلاقاً من تجربتيهما في العمل مع أجهزة استخبارات بلدهما، بصورة تجعل من الصعب اعتبارها خيانة، بقدر ما يمكن النظر إليها كجزء من ضرورات اللعبة، لكن كيف؟
حكاية شطرنج
ولكي يوضح روبرت ليتل ما يريد قوله، يلجأ إلى حكاية تتعلق بلاعب الشطرنج الأسطوري بوبي فيشر حين لجأ في مباراة مذهلة خاضها منتصراً حين كان في الـ 13 من عمره وجابه فيها بطل العالم الذي كان أسطورياً بدوره، دونالد بيرن في نيويورك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حينها كما يروي ليتل تمكن فيشر من تحقيق الفوز في نقلته الـ 17، لكن بفضل تضحيته بالملكة "التي كان تسليمها تسليم اليد إلى خصمه طعماً مده إلى هذا الأخير فمكنه من إسقاط الملك بالضربة القاضية".
فأين "خيانة" لوكاريه من هذه الحكاية؟ إنها في صلبها تماماً، يجيب مراسل "نيوزويك" مفسراً كيف أننا إن قرأنا، خصوصاً روايات لوكاريه التي تسمى روايات الحرب الباردة، وتشغل سنوات كتابتها النصف الأول من مساره المهني، وبدءاً بالطبع من "الجاسوس الآتي من الصقيع"، سنجد أن ما يعنيه لوكاريه باقترافه الخيانة يتعلق بما يحدث، بل حدث تحديداً في هذه الرواية من فضح عميل للإنجليز مرسل إلى بلاد السوفيات لمجرد أن تمكين هؤلاء من إمساكه والقبض عليه يلهيهم عن متابعة عميل كبير آخر، أكثر أهمية من ذلك المفتضح بكثير.
الحقيقة أنه إذا كان لوكاريه قد كرر إيراد حكايات هذا النمط من "الخيانة" التي لا شك في أنها كانت توظف بصورة جيدة لخدمة الهدف الأسمى الذي يقوم، كما أشرنا، من تغطية العميل الحقيقي الذي سيكون هو من يقوم بالمهمات المطلوبة، فما هذا إلا لأن المسألة برمتها تتطلب ذلك، وبالتالي يمكن النظر من الناحية المهنية البحتة إلى تلك الخسارة الجانبية باعتبارها ثمناً يدفعه عملاء صغار يلقون نهاية لا يتوقعونها ولا يمكنهم إبداء أي احتجاج عليها.
السر إلى عتمة القبر
لعل الأمر المهم الذي طلع به روبرت ليتل من دون أن يوصل بحثه إلى نهاية تكشف علاقة ذلك البعد الكتابي الذي يتكرر حضوره في الروايات، بالبعد الحياتي الحقيقي الذي أشار إليه لوكاريه خلال برنامج برنار بيفو التلفزيوني، والأمر المهم هو أن أحداً لن يتوصل إلى معرفة الواقع الكامن في خلفية تلك الحكاية، وكل ما في الأمر أنه يمكننا في النهاية أن نفترض أن لوكاريه حين أدلى بذلك التصريح الذي بدا حينها لا إرادياً وناتجاً من خطأ في فهم سؤال ما طرح عليه، كان يتعمد الوقوع في ذلك الخطأ، ليس لفضح نفسه بل بالتحديد لإراحة ضميره.
كان الأمر بالنسبة إليه على الأرجح نوعاً من الاعتراف بما حدث، تاركاً لمن قد يهتم بالأمر متابعة البحث حتى يصل إلى إجابات شافية على الأسئلة المتلهفة التي طرحها صاحب البرنامج، وقد خيل إليه أن ضيفه الكبير على وشك أن يدلي باعترافات خطرة.
نعرف أن هذا الأخير لم يفعل، وأنه إن كان قد تقصد الوقوع في ذلك الخطأ فلمجرد أن يدلي باعتراف غير مكتمل يريحه شخصياً ولا يضر أحداً، ويبدو أن هذا الواقع الذي أدركه روبرت ليتل، كما يلوح من ثنايا كلامه، هو الذي جعله يتراجع عن استكمال البحث والتنقيب، وفي الأقل في انتظار أن يصدر لوكاريه مذكراته ليكشف فيها الوقائع الحقيقية التي تتعلق بتلك "الخيانة".
ونعرف طبعاً أن جون لوكاريه (1931 – 2020) عاش سنوات بعد تلك الحلقة التلفزيونية الشهيرة وكتب مذكراته ورحل عن عالمنا مكتفياً من الاعتراف بما ذكره حينها، آخذاً معه سره أو بقية السر إلى مثواه الأخير.