اختارت جامعة "هايدلبرغ" الألمانية تكريم السير مايكل فرانسيس عطيّة، وهو عالِم الرياضيات البريطاني من أصول لبنانيّة، بكتاب ضاحك يضمّ 21 قولاً مرحاً كان عطيّة [توفي في 11 يناير (كانون ثاني) 2019] يحب أن يردّدها. وقبل أن نعرض تلك المقتطفات الفكاهيّة التي اختارتها الجامعة الألمانية، يحزن القول بأن الإعلام العربي لم يعطِ عطيّة اهتماماً توازي مكانته العلمية، بل أن رحيله جرى في ما يشبه صمت الصحاري. ووُلِد عطيه في أسرة الطبيب اللبناني إدوار سليم عطيّة المتزوج من الاسكتلندية جين ليفنز التي أعطت ابنها مايكل هويتها. وعمل الأب طبيباً في الخرطوم إبّان الانتداب البريطاني على ذلك البلد. ودرس الابن في كليّة فكتوريا في القاهرة التي كانت موئلاً للنخبة الأرستوقراطية والعلمية فيها. وفي تلك السنوات، تألق عطيّة في اللغة وقواعدها، بل نال منحة لدراسة قواعد اللغة في جامعة مانشستر في بريطانيا، ما يذكّر بالتقارب العلمي بين اللغة والرياضيات بوصفهما علمين يعتمدان على الإشارات ومعانيها والعلاقات بينها، مع فارق التعامل مع الإشارات كحروف وكلمات في اللغة، فيما تكون أرقاماً وأعداداً في الرياضيات. واستطراداً، تكون قواعد اللغة أشبه بالمعادلات في علم الرياضيات!
وحرّكت "جامعة مانشستر" حب عطيّة للرياضيات. وفي 1947، انخرط في دراسة جامعية متقدمة للرياضيات في جامعة كامبريدج. وبتألق فائق، تخرج عطيّة في 1952، ثم تزوج بعد ذلك بثلاث سنوات. وانخرط في دراسة متقدمة في جامعة برنستون، ثم عاد الى كامبريدج وتدرج في الرتب الأكاديمية المتنوّعة فيها. وبعدها، انتقل إلى انتاج العلم وصنع المعادلات الرياضية. ووضع عدداً كبيراً من أوراق البحث، إضافة إلى كتب فاقت الخمسة عشرة. ويمكن مطالعة تلك الكتب والبحوث التي صدرت في مجلدات "الأعمال الكاملة لمايكل عطيّة"، عبر مواقع عدة على شبكة الإنترنت.
أقوال وضحك ومرح وفلسفة
حتى في كتاب أقرب إلى الفكاهة، لم يفت جامعة "هايدلبرغ" الإشارة إلى أن عطيّة أحدث ثورة في علوم الرياضيات والفيزياء الكموميّة Quantum Physics التي هي من العلوم الأكثر تقدّماً في الحضارة المعاصرة!
ربما جميل تذكّر من رحلوا بمجموعة من ابتساماتهم، كتلك التي تحملها الأقوال المرحة المأثورة لعطيّة، وفي ما يلي بعض ما ورد في ذلك الموقع الإلكتروني الذي تخصّصه "جامعة هايدلبرغ" للمرجعيّات العلميّة المتألقة:
01- سأكون دليلكم السياحي أثناء جولة على القرن العشرين المنصرم. وأذكّركم بألاّ تصدّقوا كل ما يقوله الأدلاء السياحيّون، لأنهم غالباً ما يبالغون. (إشارة إلى أفكاره التي تذهب إلى أبعد من المألوف بكثير).
02- أعرض الآن شريحة ضوئية فيها صورة لمدينة هايدلبرغ في العام 1904. لا أعتقد أنكم تظهرون فيها!
03- لا شيء يعطيك شهرة أكثر من هذا: أن تحصل على مليون دولار وترفضها (إشارة إلى رفض عالِم الرياضيات الروسي جائزة الألفية الثالثة). يعطيك ذلك شهرة أكثر من مليون دولار!
04- ذات مرّة، قصدني مدير أحد المصارف قائلاً: "هبطت أسهمي 30%! لقد أفلستُ بسببك"! قلت "لا يفعل الرياضيّون سوى إعطاء المعلومات… إنها ليست غلطتنا"!
05- ما هو الحل؟ يعتمد ذلك على نوع الزبون! (مقارنة عن السؤال الفلسفي حول معنى "ماذا يعني التوصل إلى حل؟" مع الإملاءات الفظّة للعمل الفعلي).
06- الأمر أسوأ بكثير من لعب كرة القدم من دون وجود المرمى. إنه يشبه أن تبدأ بلعبة كرة القدم ثم تجد أنك انتقلت فجأة إلى لعب البينغ- بونغ. الصينيون يكسبون دوماً في لعبة الـ"بينغ- بونغ". (تشبيه عن التغيير الذي يحدثه التطّور في علوم الكومبيوتر).
07- لا يوجد شكل كروي كامل في العالم الحقيقي، لكن ذلك لا يعني أن وجودها ليس حقيقيّاً. (عن الأفلاطونيّة).
08- أنت تفعل ذلك يوميّاً من دون أن تنتبه: كسر حدود الزمن والفضاء. (عن قوة المخيلة عند الإنسان).
09- نحن علماء الرياضيات نُحِبُ الاختصار. كَتَبْتُ قصيدة، وهي قصيرة. لا تقلقوا. (عن اختتامه محاضرة في الرياضيات بقصيدة).
10- يحلمون تحت قمر مكتمل. (إشارة إلى دور الخيال في الرياضيات).
فشل مدوّ لكنه يشبه النجاح!
في 24 سبتمبر (أيلول) 2018، أرسل السير مايكل عطيّة تغريدة من الموقع المخصص للحائزين "ميدالية فيلدز" في الرياضيات [وهي توازي جائزة "نوبل" في العلوم الاخرى، لأن الرياضيات ليست مدرجة في "نوبل"]، مشيراً إلى أنه حقّق اختراقاً علمياً كبيراً. وأشار إلى أنه تمكّن من إيجاد حل لـ "فرضيّة ريمان" Reimann Hyposis التي لم يجد العلماء حلاً لها منذ العام 1859. وتتعلق تلك الفرضيّة بصنع معادلة تستطيع أن تضبط وتتعرف إلى الأعداد الأوليّة في الأرقام الكبيرة. وإيضاحاً، العدد الأولي هو العدد الذي لا يُقسم إلا على نفسه [أو على الواحد]، ولا يكون نتيجة ضرب عددين ببعضهما البعض. وبذا، تظهر الأرقام 2 و3 و5 و7 و11 و13 و17 و19، في الأعداد بين واحد وعشرين. ما هي الأرقام الأولية عندما يصل العدّ إلى المليون أو المئة مليون أو المليار أو أكثر؟ هل هناك معادلة رياضية تضبط ذلك الأمر، فتتعرّف تماماً على كل الأعداد الأولية، بل لا يفوتها رقمٌ منها؟
ألقى ريمان بذلك التحدي في وجه علماء الرياضيات منذ منتصف القرن التاسع عشر.
حيّر ذلك التحدي أدمغة المختصين في الرياضيات على مدار عقود طويلة. واهتزّ المجتمع العلمي بتغريدة عطيّة، نظراً للصيت الكبير الذي يتمتع به كمرجع معتمد في الرياضيات. وقدّم عطيّة الحل الذي ارتأه لفرضية ريمان، لكن علماء الرياضيات أثبتوا أنه لم يصب هدفه، والمعادلات التي صاغها لم تكن صحيحة. وعلى رغم الفشل الذي حاق بذلك العالِم عند مشارف تسعينياته، إلا أن تلك الحادثة تثبت أمرين "ناجحين" تماماً. يتمثّل الأول في أن الزمن والتقدّم في العمر لا يعيق عقل الباحث الأصيل عن العلم، ومجرد محاولة عطيّة التصدي لحل فرضية ريمان يعتبر أمراً مهماً. ويتمثل الثاني في أن الخطأ هو في صلب العلم، بل هو سبيله إلى التقدّم. ثمة قول عن الفيلسوف الألماني كارل بوبر يفيد بأن "ما لا يمكن إثبات خطئه ليس علماً". وتقود أبسط قراءة لتاريخ العلم إلى ملاحظة أن كثيراً من قفزات العلم حدثت عند إثبات خطأ نظرية أساسية أو قصورها، وهو ما حدث مثلاً في الفارق بين نظريتي ألبرت إينشتاين وإسحاق نيوتين في الفيزياء.
وتندرج فرضية ريمان ضمن مجموعة من المعادلات المستعصية التي يضمن حلها الحصول على مقابل مادي ضخم، إضافة إلى ميدالية "فيلدز". ولعله من المثير أن عطية حائز فعليّاً على ميدالية "فيلدز" (1966)، وكذلك ميداليات "برويك" (1961) و"رويال" (1968) و"دي مورغان" (1980)، و"كوبلاي" (1988)، إضافة إلى جائزة "آبييل" (2004) ما يعني أنه ظل متألقاً معظم سني حياته. وتعتبر تلك الميداليات والجوائز معقد أحلام علماء الرياضيات. وحصدها عطية مكافأة عن إنجازاته التي أحدثت تطوّرات كبرى في علوم شاقة، خصوصاً الفيزياء الكمومية التي تخرج قوانينها عن كل ما عرفته الفيزياء والرياضيات في تاريخها. ويكفي القول إن الكمومية هي المساهم الأساسي في القفزات الكبرى لعلوم الفضاء والنانوتكنولوجيا والليزر والمعلوماتية والاتصالات المتطوّرة وغيرها.