"النشوة والألم" صراع الفنان والبابا ينتهي بمصالحة الإبداع والإيمان

لم يكن أمراً عادياً أن تخصص شركة هوليوودية في ذلك الزمن سبعة ملايين دولار لمخرج إنجليزي كي يحقق لها فيلماً عن صراع احتدم في عصر النهضة الإيطالية بين حبر الكنيسة الأعظم، وفنان نهضوي كان من أكبر مبدعي العالم في ذلك الحين. كذلك لم يكن أمراً عادياً أن تكسب الشركة رهانها إذ بدلاً من أن يمنى الفيلم بالخسارة كما كان كثر يتوقعون، رد ما أنفق عليه محققاً خلال الأشهر الأولى لعرضه مليوناً من الأرباح. بدا الأمر حينها أشبه بمعجزة صغيرة. معجزة لم يتوان كثر من المؤمنين عن عزوها إلى ما في الفيلم "من نوايا طيبة جعلته يركز موضوعه على المصالحة بين الفن والإيمان" وهو موضوع كان النقاش حوله محتدماً في ذلك الحين ولا يجرؤ على الدنو منه سوى قلة من المبدعين وفي أوروبا وليس في هوليوود طبعاً. صحيح أن المخرج هنا أوروبي ولكن كل ما تبقى في الفيلم بما في ذلك الدولارات التي أنفقت عليه، كان أميركياً. ومن هنا تنفس المنتجون الصعداء وأبدوا استعدادهم على الفور لخوض "مغامرات" مشابهة. ونعرف أن أفلاماً عديدة تنضوي ضمن المسار نفسه والتوجه الفكري حققت في ذلك الحين.

حكاية مسار مهني مؤلم

الفيلم هو "النشوة والألم" الذي اقتبسته السينما من رواية لإرفنغ والاس تحكي سيرة الرسام النهضوي الكبير مايكل أنجلو بوناروتي، لكن الفيلم بساعتيه ونيف لم يتسع لأكثر من فصول من حياة الفنان ومساره المهني تلاحقه حين كان يعمل على رائعته التي لا تزال حتى اليوم تعتبر من أعظم الأعمال الفنية في تاريخ الإبداع "لوحة الخلق" التي تشغل سقف القاعة الرئيسة في كنيسة السكستين في الفاتيكان وسط روما، وتعتبر العمل الفني الذي يزار من قبل أكبر عدد من المشاهدين في تاريخ الفن. ومن هنا لم يعد الفيلم نقلاً للرواية الأوتوبيوغرافية التي كانت مقروءة على نطاق واسع، بل سرد للصراع الذي احتدم خلال العمل على الجدارية الضخمة، بين البابا والفنان، بل لنقل بين نظرتين متعارضتين إلى الفن. كان كل واحد من الاثنين يمثل واحدة منهما ويمكننا أن نقول منذ الآن إن الفيلم نصر نظرة الفنان في نهاية الأمر ولكن انطلاقاً من اقتناع رجل الدين الكبير بها. ويمكننا هنا أن نقول أيضاً إن ذلك الاقتناع كان هو ما فتح أمام الفن آفاقاً لم يكن من السهل فتحها قبل ذلك. وكان الثمن بالطبع تلك المعاناة التي عاشها مايكل أنجلو، والنتيجة تلك النشوة التي أثارها لديه إنجازه لعمله كما تصوره تماماً، النشوة التي لا يزال هذا العمل يثيرها لدى ملايين المشاهدين حتى اليوم. ولعل أهم ما في الفيلم هو تصويره الكيفية التي حدت بالحبر الأعظم إلى مماشاة الفنان في عناده الفني.

مشهد عام لسقف كاتدرائية السكستين في الفاتيكان (أ ف ب)

ضياع بين الفن والحرب

ومع ذلك لم تكن البدايات على مثل تلك السهولة. والفيلم يروي لنا ذلك منذ بداياته عبر جزء يكاد يكون توثيقياً يتضمن متابعة للفنان وأعماله قبل حصوله على "طلبية" تحقيق ذلك السقف. ولقد كان ذلك حين كان مايكل أنجلو يصنع عدداً من التماثيل الضخمة بالقرب من كاتدرائية القديس بطرس والتقاه البابا جوليوس الثاني الذي كان معروفاً بتنويريته وقوة شكيمته. عند اللقاء طلب البابا من الفنان أن يتولى تزيين السقف الفسيح لكنيسة السكستين، لكن الفنان تملص من دون أن يبدي السبب وفي الأقل دون أن يصرح للبابا بأن السبب الحقيقي لرفضه هو أن المخطط الأولي الذي فوتح به يتعلق بمشاهد من حياة الرسل لا يجد فيها الفنان أي إلهام حقيقي له. غير أن رفضه لم يكن مقبولاً واضطر إلى الموافقة على القيام بالعمل. غير أنه ما إن بدأ التنفيذ بالفعل حتى شعر أن الإلهام يخونه وأنه غير قادر على البدء بالفعل فهرب إلى منطقة كارارا ومنها إلى مناطق الجبال المحيطة بها. وهناك وقد غرق في الطبيعة متأملاً بهاءها السماوي، وجد نفسه فجأة في قلب المشروع وقد راحت الأفكار والصور تتزاحم في رأسه. أحس كأن معجزة ما تحركه، فعاد مسرعاً إلى روما وانطلق وقد وافقت السلطات الكنسية على أن يرسم ما يخطط له من مشاهد مستقاة من الكتاب المقدس مباشرة، من دون تدخل منها، عندها شعر بأنه يمتلك الآن قسطاً كبيراً من حرية الحركة مما بعث فيه حماسة غير مسبوقة، وانكب على العمل ليلاً ونهاراً وحتى في الأيام التي تقام فيها القداسات وتمتلئ الكنيسة بالمؤمنين. كان يتحرك غير متنبه إلى ما يدور من حوله. والحقيقة أن عمله كان متعباً إلى درجة أنه سقط ذات لحظة مريضاً منهكاً، مما أتاح الفرصة للفيلم كي يدخل في الحكاية امرأة - ونعرف أن لا بد أن تكون ثمة امرأة دائماً في هذا النوع من الأفلام! - وهذه المرأة وهي ابنة حاكم فلورنسا وصديق مايكل أنجلو، لورنزو دي مديتشي، تتولى العناية به فيما هو يغرق هذه المرة في الهيام بها ليمعن في وقوفه خارج العالم ومجرياته بين فنه وقلبه.

دور المستشارين السلبي

ولكن إذا كان الفنان قد بقي غير عابئ بمجريات السياسة والحرب التي باتت على وشك الاندلاع بين الجيوش البابوية والحلف الذي تجمع ضده محارباً فيه رجل التنوير، فإن ما راح يهمه في المقابل إنما كان التضييق الفني الذي راح يمارس عليه ولا سيما من قبل مستشارين لجوليوس الثاني كانوا ينصحون هذا الأخير بتشديد الضغط على الرسام خوفاً من الدعاية التي يشنها ضدهما أزلام الحلف المعادي في غمرة معارك لم تكن أول الأمر في صالح البابا. ولما بدأ هذا الأخير يضعف أمام ضغوط المستشارين ولمس لدى الفنان تعنتاً بدأ يوحي إليه بأنه قد ينتزع استكمال المشروع منه وإسناده إلى منافسه الرئيس رافائيل، لكن رافائيل نفسه بدا على الفور من أكثر الناس، في الفيلم في الأقل، تأثراً بعمل زميله وإعجاباً به، ومن هنا كان هو الذي سيضغط عليه هذه المرة للوصول إلى تسوية مع البابا تنقذ العمل من الضياع والبابا من الوقوع في شرك مستشاريه من أعداء الفن، ولا سيما في وقت كان البابا قد جرح خلال القتال وبدت قواه وقوى جيوشه تخور!

نهاية حتمية وانتصار أكيد

والحقيقة أن موقف رافائيل كان حاسماً بل أثر حتى في البابا الذي سيستأنف مد مايكل أنجلو بالمال الإضافي الذي يبتلعه مشروع كان مقدراً له أن ينجز خلال أشهر وها هي ذي السنوات تمضي الآن من دون أن ينجز، ثم في ذات ليلة سيزور البابا مكان عمل الفنان ليتأمل ما يفعل ويقول معلقاً إن ما يراه إنما هو الدليل القاطع على وجود الإيمان. ويبدو أن ارتياحه لتلك الفكرة قد ضغط على أعصابه على رغم أن تلك الأعصاب كان يجب أن تكون هادئة بالنظر إلى أن الحرب كانت قد بدأت تنقلب لصالحه. بدا من الواضح أنه يعيش أيامه الأخيرة. وكان ذلك ما دفع بالفنان إلى التعجيل وإنجاز العمل بالفعل وهو يرجو البابا أن يعيش حتى يرى عمله مكتملاً. وكان ذلك ما حصل بالفعل إذ ما لبث مايكل أنجلو أن أعلن أن السقف قد اكتمل في وقت كان قد بدأ يصمم فيه قبراً للبابا سيطلع بدوره تحفة فنية من طراز بالغ السمو. وقبل ذلك كان مشهد رائع يصور البابا والفنان يتأملان معاً ذلك السقف المدهش ليتركه البابا سائراً نحو نهايته بينما الفنان يتأمل الجدار الشاهق خلف المذبح. الجدار الذي سيبدأ قريباً برسم أعجوبة فنية جديدة عليه سيكون موضوعها هذه المرة "يوم القيامة" ويعتبر رسمها تكريماً للبابا المتنور، الذي لولا حسه الفني الرفيع وتسامحه لما خلف مايكل أنجلو للبشرية ذلك السقف الذي ما مثله سقف في العالم.