ملخص
تلك هي اللوحة التي انتصر فيها بيكاسو لشعبه وللفن على السواء، فما قصتها؟
على العكس مما كان كثر يعتقدون لم يكن بيكاسو مهتماً بالسياسة، وبخاصة بالربط بين السياسة وعمله الفني عشية تحقيقه تلك اللوحة الضخمة التي ستعد منذ إنجازها، أعظم لوحة فنية سياسية بتاريخ الفن في القرن الـ20، وربما في الأزمنة جميعاً. في ذلك الحين، عند بدايات عام 1937 كان همّ الرسام الإسباني الكبير الذي كان نجماً لامعاً بشكل استثنائي في حياة باريس الفنية، والاجتماعية أيضاً، همّين لا ثالث لهما: من ناحية كان يسعى إلى ترتيب علاقته النسائية الجدية مع تلك الفاتنة دوراً مارا التي كان صديقه الشاعر بول إيلوار قد قدمها له في فبراير (شباط) من العام الماضي فاعتقدها أول الأمر إسبانية لسمارها ومرح شخصيتها واندفاعها تجاهه، ليتبين له بسرعة أنها يوغوسلافية تتقن الإسبانية لأنها عاشت مع أبيها ردحاً في الأرجنتين.
دورا مارا. وكانت هي التي بدت عارفة بكل زوايا باريس والحياة فيها، من دبرت له الاستديو الكبير في شارع الأغوسطينيين، حيث كان يزمع الاشتغال على لوحة ضخمة كانت تشكل همّه الثاني، وهو إنجاز لوحة ضخمة لحساب الحكومة الجمهورية الإسبانية تعلق في جناح إسبانيا في المعرض الدولي المزمع إقامته على ضفتي نهر السين في باريس بجوار برج إيفل. وهنا كان همّ بيكاسو تفادي اللوحة أي بعد سياسي قد يطالب به من جراء خوض حكومة الجمهورية الإسبانية تلك الحرب الأهلية ضد فاشيي فرانكو الذين يدعمهم نازيو هتلر وفاشيو موسوليني سياسياً وعسكرياً.
خبر في صحيفة المساء
في ذلك الحين لم يكن بيكاسو راغباً في أن يربط بين السياسة والفن، ولو أن كل أحداث العالم من حوله، وكذلك تعاطفه مع قضايا اليسار وقربه من الحزب الشيوعي الفرنسي واحتضان حكم الجبهة الشعبية الفرنسي له، يدفعه إلى ذلك الربط. وكان هو يقاوم بشدة مفضلاً تطوير تلك العلاقة الفنية التي كان يتطلع إلى تعزيزها بين نمطين فنيين كان يهجس بجمعهما متيقناً من بعدهما عن السياسة: السوريالية والتكعيبية، ولكن بغتة ومن دون مقدمات بالنسبة إليه، حدث ما لم يكن في الحسبان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ففي يوم الأول من مايو (أيار) 1937 وفي وقت كان هاجس الرسام الخمسيني يتمثل في العثور على موضوع للوحته العتيدة. وهو كان يمضي ليله ونهاره خلال الأسابيع السابقة في بحث مضن عن ذلك الموضوع، مقلباً في رأسه شتى الأفكار الممكنة. في ذلك اليوم نشرت صحيفة "سي سوار" (هذا المساء) التي كان يصدرها ويديرها الشاعر آراغون، وعلى أربعة أعمدة في صفحتها الأولى ذلك النبأ الذي لا شك أنه بدل على الفور من حياة بيكاسو كلها، نبأ يتحدث عن غارات متتالية شنتها في اليوم السابق عشرات من الطائرات الحربية الألمانية على قرية باسكية صغيرة تقع في الشمال الإسباني راح ضحيتها عدد من القتلى والجرحى سرعان ما انكشفت حقيقته في الأيام التالية: 1664 قتيلاً ونحو 889 جريحاً. فاليوم الذي شنت فيه الغارات طول ساعات متتالية كان يوم السوق الأسبوعية، حيث يقصد مئات الفلاحين البلدة آتين من القرى المجاورة ليبيعوا محاصيلهم، مما يفسر ارتفاع عدد الضحايا.
أكاذيب فرانكو
يومها حاولت سلطات فرانكو، وأمام هول الكارثة التي راح اللاجئون المتدفقون عبر الحدود الفرنسية يؤكدون أرقامها المرعبة وفظائعها، حاولت أن تغطي على حقائق ما حدث زاعمة أن الباسكييين الجمهوريين هم الذين قصفوا أنفسهم بأنفسهم للزعم أمام الرأي العام العالمي أن قوات فرانكو وحلفاءه هي الفاعلة، لكنها كانت كذبة حمقاء لم تنطل على أحد طبعاً، إذ خلال ساعات انكشف تورط الطيران الألماني في المذبحة، بل عرف كذلك اسم الليوتنان كولونيل الذي قاد العمليات: فون ريختهوفن الذي سيرقى لاحقاً حتى يصل إلى رتبة ماريشال. المهم أن بيكاسو أدرك كما غيره هول الكارثة وأنه لم يعد في إمكانه السكوت. صحيح أنه وجد "موضوعه" الذي سيكون موضوع لوحته الإسبانية التي ستعلق في المعرض الدولي بعد أسابيع قليلة، من دون أي تردد، لكنه قرر في الوقت نفسه أن يبقي على ذلك التضافر الذي يريده بين التكعيبية والسوريالية، ضارباً الصفح بالطبع عن كل المحاذير التي كانت تطالبه بألا يفعل. وحسناً أنه فعل.
100 رسمة تمهيدية
من فوره راح بيكاسو، ومنذ ذلك المساء نفسه يخط بالقلم عشرات الاسكتشات فوق ورق رسائل أزرق إن لم يعثر في محترفه على صفائح من الورق الأبيض، ولسوف يقول إيلوار لاحقاً إن تلك الرسوم التمهيدية لن تقل في نهاية الأمر عن 100 رسمة نفذها الفنان خلال الأيام القليلة التالية (لم يبق منها في نهاية الأمر سوى أقل من 60 محفوظة بعناية حتى الآن)، ودائماً بشكل متكتم بحيث إن ما من أحد تمكن خلال تلك الأيام من الاطلاع على ما يرسم سوى دورا مارا.
أما الخلصاء الآخرون ومن الذين سمح لهم بيكاسو بدخول محترفه ومواكبته في رسم اللوحة نفسها، فإنهم سيشهدون لاحقاً بأن الفنان إنما كان يرسم بسرعة جنونية، وكالممسوس يكاد يكون غائباً عن الوعي. وكان الواحد منهم حين يسأله لماذا يكتفي بالرسم بالأسود والأبيض مع بعض الألوان الشاحبة بين الحين والآخر؟ يكتفي بهز رأسه مدمدماً "سنرى لاحقاً!"، لكنه لاحقاً اكتفى بتلك الألوان السوداء والبيضاء زاعماً لمن يلح عليه بالسؤال أن الوقت قد داهمه، ولم يمكنه من "إضافة الألوان إلى اللوحة".
صحيح أن بيكاسو لم يكن يكذب في زعمه هذا في ما يتعلق بمداهمة الوقت له، لكنه في الحقيقة كان ومنذ البداية مصمماً على أن تكون اللوحة بالأسود والأبيض. كان يريدها أن تأتي أشبه ما يكون بالأخبار الصحافية والسينمائية التي لم تكن تشاهد إلا بالأسود والأبيض. فتلك كانت ألوان الحياة حينها وألوان الغضب وألوان الكوارث، لكن الحجم في المقابل لم يكن طبيعياً. فاللوحة التي علقت بعد خمسة أسابيع من بدء الفنان في رسمها، في البهو الذي يشكل مدخل الجناح الإسباني في المعرض الباريسي الدولي، كانت تزيد مساحتها على 26 متراً مربعاً (أكثر من ثلاثة أمتار ارتفاعاً، ومن سبعة أمتار عرضاً)، بمعنى أنها كانت أضخم لوحة رسمها بيكاسو حتى ذلك الحين، لكنها كانت في الوقت نفسه وستبقى دائماً واحدة من أعظم اللوحات الفنية السياسية في تاريخ الفن.
بريتون يتراجع متأخراً
والحال أن ذلك الجانب فيها، والذي تجلى من خلال تلك المذبحة التي حملتها تفاصيل اللوحة وزواياها وتمثل جنوداً قتلة ونساء مبقورات البطون يحملن صغاراً مذبوحين، وأحصنة تحمل وجوهها غضباً معدياً وكميات هائلة من الأطراف البشرية المقطوعة التي تتنافس على احتلال مكان ما على مسطح اللوحة مع زهور لم يعد فيها من رونق الزهور شيء، ذلك الجانب الذي امتزجت فيه السوريالية بالتكعيبية بشكل لم يكن بيكاسو نفسه يتوقعه، كان هو ما فتن الجمهور العريض وأرعبه في الوقت نفسه ليشكل أكبر إدانة للفاعلين، ولكن أيضاً نوعاً من جرس إنذار ينبه إلى ما هو مقبل على يد النازيين (وهو أقبل بالفعل إلى درجة بات يمكن فيها للوحة "غيرنيكا" أن تستبق في تعبيرها مذابح الحرب العالمية الثانية، بل كل المذابح التي تلتها في القرن الـ20 وبعده، حتى من بعد أن تنسى مذبحة غيرنيكا نفسها)، ذلك الجانب كان هو في الوقت نفسه ما أغضب أندريه بريتون الذي كان قد نصب نفسه زعيماً للسوريالية لا يسمح لأحد بـ"تشويه" نقائها اللاسياسي. وهكذا ما إن علقت اللوحة في المكان المخصص لها، متأخرة أياماً عن موعد افتتاح الجناح الإسباني، حتى أعلن بريتون موقفه المعادي لها بقوة. غير أنه ما لبث أن راجع موقفه بعد ذلك بعامين، وربما أمام الإجماع الذي قوبلت به من قبل كل الذين شاهدوها في عرضها الأول إما منسوخة بعشرات الأساليب أو عبر صورها في الصحف، فقال "لم تعد المسألة مسألة تتعلق بمعرفة ما إذا كان يمكن للوحة فنية أن تصمد أمام مشهد حقل للقمح، بل إن تصمد أمام صحيفة الصباح التي باتت أشبه بالأدغال في أيامنا هذه". والحقيقة أن بريتون حين قال هذا الكلام المتراجع كان قد نسي طبعاً أن تلك التي باتت تعد أعظم لوحة سياسية في التاريخ إنما ولدت من خبر على أربعة أعمدة نشرته صحيفة مسائية لا صحيفة الصباح.