ملخص
صبحي موسى يسترجع الانجازات الثقافية بدءا من الستينيات وما اعتراها من ازمات
ماذا كان مصير كتاب طه حسين الشهير "مستقبل الثقافة في مصر"، الصادر عام 1938؟ أسأل وأجيب بأنه من أكثر كتب عميد الأدب العربي التي يعاد إصدارها من هنا ومن هناك بين وقت وآخر، وخصوصاً من جانب هيئات تابعة لوزارة الثقافة. ويدعوني ذلك إلى طرح سؤال آخر، وهو: لماذا يحدث هذا بينما لم يتح مطلقاً لمضمون هذا الكتاب أن يرى النور في زمن سابق، وحتى بعد أن تولى صاحبه وزارة المعارف المعنية أساساً بتحويل ما احتواه "مستقبل الثقافة في مصر" إلى واقع ملموس؟ ثم هل لا يزال هذا المحتوى المعني بالتعليم بالدرجة الأولى باعتباره جزءاً من كل، هو الثقافة، قابلاً لأن يطبق في وقتنا الراهن، الذي تطغى عليه الرقمية متسارعة التطور؟ أسأل مستفسراً، لا مستهجناً أو مستنكراً، وقد حرضني على ذلك كتاب "تحولات الثقافة في مصر"، الذي يستدعي إلى الذهن، بداية من العنوان، كتاب طه حسين. ويؤكد في أحد مواضع متنه، الذي جاء في نحو 200 صفحة، ما معناه أن صاحب "دعاء الكروان" أقر قبل نحو عام من رحيله، بأنه حاول، حين طرح ما ينبغي أن يكون عليه مستقبل الثقافة في بلده، معالجة داء لا دواء له ما دام التعليم، في مختلف مراحله، لا يحظى بما يستحق من اهتمام، واختتم إجابته عن سؤال في حوار أجراه معه الكاتب الصحافي محمود عوض، بقوله، إنه يرى والحال كذلك أن "المستقبل زفت".
ثم إن مؤلف كتاب "تحولات الثقافة في مصر"، الشاعر والروائي صبحي موسى، يؤكد، بعد ما أدرك أن هذا الاستدعاء أمر وارد تماماً، أن الفضل في طرح فكرة كتابه الصادر قبل أيام عن داري "بيت الحكمة" و"النسيم" في القاهرة، يعود إلى كتاب طه حسين، على رغم من الإحباط الذي أصاب صاحبه في ختام حياته، موضحاً أنه منذ أن قرأه (لم يذكر متى كان ذلك على وجه التحديد) وهو يفكر في أننا في حاجة إلى إعادة قراءة ما حدث من تحولات ثقافية وسياسية واجتماعية في مصر. ومن ثم فإن صاحب رواية "أساطير رجل الثلاثاء"، يحيل في السياق ذاته إلى كتاب آخر صدر بعد كتاب طه حسين بعدة عقود، وهو "ماذا حدث للمصريين؟" لجلال أمين (1935 – 2018) الأكاديمي الذي انطلق في كتابه هذا، من خلفيته كأستاذ للاقتصاد، وكمفكر مهموم بواقع مجتمعه سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وجلال أمين هو بالمناسبة نجل أحد مفكري زمن طه حسين البارزين، وهو أحمد أمين (1886 – 1954) صاحب الرؤى المستنيرة فيما يخص التاريخ الإسلامي، وقد كان العميد ممن ساروا على الدرب نفسه، بما يشبه مراجعة الذات أو بالأحرى مراجعة ما ورد في "مستقبل الثقافة في مصر"، في شأن الهوية المصرية، على وجه الخصوص، قبل أن ينفض يده مما ورد فيه إجمالاً، تحت وطأة شعور أليم بالإحباط واللاجدوى.
دائرة ضيقة
أما كتاب صبحي موسى، الذي يتصدره الإهداء التالي: "إلى المبصر دائماً طه حسين"، فقد حصره صاحبه في دائرة ضيقة، على عكس كتابي طه حسين وجلال أمين، بحيث ركز من بدايته إلى نهايته على وزارة الثقافة وهيئاتها، باعتبارها اللاعب الذي ينبغي التعويل عليه بصفة أساسية في نشر الثقافة في ربوع مصر، وكأن ما اختبرناه واختبره صاحب رواية "قلب النظام"، في كتابه الذي نتحدث عنه هنا أو خلال سنوات عمله في أكثر من قطاع ثقافي حكومي، من فشل ثقافي ذريع على المستوى الرسمي، لا يكفي لتحويل دفة الرهان بعيداً من إرث كل من ثروت عكاشة وفاروق حسني على حد سواء. فهذا الإرث يكرس للحظيرة الثقافية التي يعتقد أنها من اختراع الوزير الفنان، مع أنها ارتبطت باختراع وزارة الإرشاد القومي، في نوفمبر 1952، وكانت تمزج بين "الثقافة" و"الإعلام"، وكأن هدف المجالين رسمياً هو "غسيل الأدمغة"، عبر إرشاد الشعب، وكأنه لم يبلغ بعد سن الرشد، إلى ما فيه المصلحة، وحثه على الابتعاد عما يمكن أن يضره!
ولا يمكن هنا إنكار حسنات ثقافية حكومية زاغت في ظروف ما عن الخط الرسمي وهدفه الأساس، سواء في عهد عكاشة أو عهد حسني، على أن يكون ذلك في سياق الاستثناءات التي لا تنفي القاعدة. وهو ما أظن أنه كان نهج صبحي موسى في كتابه الذي يعد الأول له خارج نطاق الإبداع، شعراً ورواية. و"خطة" صبحي موسى المتضمنة في هذا الكتاب تقترح نقل تبعية المجلس الأعلى للثقافة إلى رئاسة مجلس الوزراء، "كي تكون لقراراته القوة الملزمة لشتى عناصر المجموعة الثقافية". وتلك المجموعة التي تضم إلى وزارة الثقافة وزارات أخرى وكيانات المؤسسة الدينية، لا تنفي حصر العمل الثقافي في دائرة ضيقة يطغى عليها الطابع الرسمي. وهنا أود أن أسأل: ألم يكن في مصر ثقافة قبل أن يتولى تنظيم "الضباط الأحرار" حكمها. لم تكن هناك لا وزارة إرشاد ولا وزارة إعلام، فكيف كان حال هذا البلد ثقافة وتعليماً، عندما أصدر طه حسين كتابه عن "المستقبل"، الذي لا بد أنه كان يطمح من خلاله إلى حال أفضل؟
ناصر والسادات ومبارك
أسأل ولا أجيب، مفضلاً العودة إلى كتاب صبحي موسى والتوقف عن بعض ما ورد فيه مكتفياً باستعراضه من دون مناقشته قدر الإمكان. يذهب صاحب رواية "الموريسكي الأخير" إلى أن عبدالناصر قرر أن ينشئ نظاماً يجمع بين الشيوعية والإسلامية. ويضيف أن الجناح الشيوعي زال، وبقي الجناح الإسلامي. وبالطبع فإن الناصريين ينكرون ذلك تماماً لدرء أي اتهام لزعيمهم بأنه وصل إلى الحكم أصلاً عبر تحالف مع تنظيم "الإخوان المسلمين"، قبل أن ينقلب عليهم ويلقي برموزه في السجون ويحاكم بعضهم "عسكرياً"، لتصدر ضدهم أحكام بالإعدام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال حكم عبدالناصر تحولت "الجامعة الشعبية" إلى "الثقافة الجماهيرية" (هي الآن قصور الثقافة)، وأقام وزيره ثروت عكاشة "خطته" على النزول إلى القرى والنجوع، وصناعة ثقافة مدنية حديثة لدى هؤلاء الذين لم يخرجوا من قراهم من قبل، فحمل رسالة التنوير إليهم، من خلال الشعر والقصة والرواية والمسرح والسينما وفرق الفنون الشعبية (الكتاب ص 71). ثم جاء السادات فتراجعت وزارة الثقافة من المتن إلى الهامش، وتقدم الإعلام، لكن يحسب له (أي للسادات) أنه أحيا المجلس الأعلى للثقافة. "خطة" فاروق حسني كانت في بدايتها "أمنية"، كان يتمنى أن يستكمل الدور نفسه الذي قام به منذ الوزارة الثانية لثروت عكاشة، فاهتم بتفعيل فكرة الحظيرة (بمعنى احتواء المثقفين أو تحييدهم خصوصاً في تعاطيهم مع الشأن السياسي)، كما اهتم بالإيهام بالتنوير ومواجهة الإرهاب. وهكذا –يقول صبحي موسى- كانت الدولة تخسر ملايين الجنيهات، "في لقاءات ودية بين أعضاء الحظيرة هنا وأعضاء حظائر في بلدان أخرى" ص 83.
مكتبة مدبولي
هكذا نجد أن صبحي موسى يركز على السياق الرسمي، تاركاً سواه، "لبديهية دوره"، كما يقول في أحد مواضع كتابه أو لأن الاعتماد على المجتمع المدني في إنتاج الثقافة، غير مسموح به في الوقت الراهن، كما ورد في موضع آخر. عن نفسي، أتذكر أن المثقفين المصريين والعرب كانوا –مثلاً بمناسبة الجدل في شأن السياق غير الرسمي للثقافة- يصفون "الحاج مدبولي"، بأنه "وزارة ثقافة تمشي على قدمين". لم يتلق محمد مدبولي (1938 – 2008) أي تعليم رسمي، ويقال إنه لم يكن يعرف لا القراءة ولا الكتابة، وعرف بيع الصحف والكتب منذ أن كان طفلاً، ثم صار صاحب أشهر مكتبة في العالم العربي، وهي المكتبة التي لا تزال في مكانها في وسط القاهرة حتى الآن وتحمل اسمه. لقد سبق أن قامت خطة الثقافة على الفكرة ذاتها التي يطرحها صبحي موسى اليوم في كتابه. وهو للأمانة يذكر ذلك في كتابه الذي بذل فيه جهداً بحثياً وتحليلياً يستحق عليه أعلى تقدير. يقول موسى: "يمكن القول إن هذه الانتخابات (يقصد انتخابات البرلمان عقب ثورة 2011 مباشرة) كانت حصاد الخطة الثقافية التي اعتمدها مبارك طوال 30 عاماً، والتي قامت أجهزة الدولة على تنفيذها طوال هذه الفترة، وكانت في مقدمتها وزارة الثقافة المعنية برسم التوجهات الثقافية للدولة، والعمل على تنفيذها بالتعاون والتوافق مع بقية المؤسسات والوزارات الأخرى، التي كان من نتائجها تهيئة الأرض لصعود الإخوان والسلفيين وبقية التيار الديني إلى سدة الحكم" ص 172.
ومع ذلك، تقوم اقتراحات موسى في كتابه هذا على دمج خطتي عكاشة وحسني، "بعد تلافي أخطائهما"، في إطار إعداد خطة جديدة، أو "بديلة"، لمستقبل الثقافة في مصر. وقد يرى البعض في ذلك أننا هنا بصدد استنساخ بديل للقديم من القديم نفسه! أو يراه دعوة إلى الإبقاء على الهيمنة الحكومية، على رغم ما يلاحظه الجميع من انسحاب مصري رسمي من العمل الثقافي، ولذلك كثير من الأمثلة التي يضيق المقام هنا عن ذكرها. أليس الدافع الأساس لوضع هذا الكتاب هو أننا وصلنا بسبب تلك الهيمنة إلى طريق مسدود؟ لماذا إذن نصر على أن نبدو كالمستجير من الرمضاء بالنار في الوقت الذي نجد الحكومة ذاتها زاهدة في الهيمنة وتنسحب ببطء من التزاماتها، ليس في الثقافة وحدها، بل وفي التعليم والتشغيل والصحة والإعلام أيضاً؟