Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تقسيم العالم" لماركو بولو حيث الشرق يوقظ مخيلة أوروبا فهل أيقظه بالأكاذيب؟

في الذكرى 700 لرحيله لا تزال الأسئلة الشائكة مطروحة بين مصدق لما كتبه ومكذب

ماركو بولو (موقع غيتي)

ملخص

الدراسات "المعمقة" نحت إلى إثبات أن ماركو بولو لم يكن صادقاً أو في الأقل دقيقاً في معظم ما ورد في كتابه "تقسيم العالم"

في مثل هذه الأيام قبل 700 سنة تماماً، رحل عن هذا العالم عن عمر يناهز الـ70 رجل من البندقية لم يكن قد فعل طوال حياته شيئاً غير الرحيل، بل ربما أنه لم يدون عن ترحاله ذاك تلك الصفحات الجميلة التي شغف بها العالم منذ نشرت في سنواته الأخيرة، إلا لكي يثبت أنه بالفعل كان رحالة عصره، ومع ذلك، يبقى ثمة على الدوام سؤال لم يحسم جوابه بعد حتى اليوم: هل ماركو بولو، وهو الشخص الذي نتحدث عنه، كتب بالفعل عما شاهد أم تراه كتب عما شاهده آخرون، لا سيما عمه وأبوه، ورووه له خلال فترات متقطعة من حياته؟ ثم ما سر ذلك التشابه إلى حد التطابق، أحياناً، بين ما دونه ماركو بولو في كتابه المعنون "تقسيم العالم" وما يمكننا أن نقرأه بشغف أيضاً في ما كتبه المغربي ابن بطوطة ولا سيما حول زيارات قام بها إلى مناطق الشرق البعيد، المناطق نفسها التي يروي ماركو بولو "وقائع زياراته لها"، وبعد المغربي بعشرات كثيرة من السنين؟ حسناً، ثمة في عالم أدب الرحلات قضية هي "قضية ماركو بولو" نعود إليها هنا لمناسبة الذكرى الـ700 لرحيل هذا البندقي الذي كان من الدهاء ليسجل في التاريخ اسمه بأحرف من نور حتى وإن كان كثر يقولون ويعيدون إنه لا يستحق ذلك!

مجموعة من الأكاذيب؟

مهما يكن لا بد أن نذكر هنا، بداية، أن الدراسات "المعمقة" قد نحت، ومنذ زمن بعيد، إلى إثبات أن ماركو بولو لم يكن صادقاً أو في الأقل دقيقاً، في معظم ما ورد في كتابه الأشهر "تقسيم العالم"، ومن ثم، فإن ما لا بد من التوقف عنده هنا، أنه على رغم شهرة الكتاب منذ اللحظة التي نشر فيها وعرف على نطاق واسع، وحتى قبل أن يترجم خلال القرون التالية إلى معظم لغات العالم، كان هناك من نظر إليه على أنه لا يحمل سوى مجموعة من الأكاذيب، وأن نصه الرئيس لم يكن أكثر من وليد خيال أسير واسع الأفق جلس ذات يوم في سجنه ليروي أموراً سمع عنها وأحداثاً عاشها آخرون مدعياً أنه عاشها وخبرها هو شخصياً، كان كثر في البداية، ومن معاصري ماركو بولو، يرون هذا الرأي: بين من ينحون إلى أن الرجل لم يقم بكل تلك الرحلات كما قال، وآخرين يرون استحالة أن يكون شخص واحد قد عاش حقاً تلك "التجارب" التي يتحدث عنها الكاتب في مئات الصفحات، وثالث كان يرى أن صورة الشرق كما يقدمها ماركو بولو هي "بالتأكيد" أجمل من أن تكون حقيقية! ولكن سواء كان كتاب "تقسيم العالم" صحيح النسب، مبنياً على حقائق معيشة من قبل مؤلفه، أم كان نصاً خيالياً، فإن ما لا شك فيه هو أن هذا الكتاب لعب دوراً أساساً في "تصنيع المخيلة الاستشراقية" لدى أوروبيي العصور الوسطى، ولا سيما في انفتاحهم على العوالم الأخرى. من هنا كانت المسألة بالنسبة إليهم الاستفادة من وجود شرقين لا شرق واحد، ومن المؤكد أن "تقسيم العالم" مثل خير وسيلة لذلك الانفتاح، إذ أخبرهم عن وجود حضارات أخرى غير حضارتهم الملتبسة وحضارة المسلمين التي أقضت مضاجعهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صين قوبلاي خان

مهما يكن من أمر فإننا نعرف، كما كان الأوروبيون يعرفون، أن كثراً زاروا، وقبل ماركو بولو، بلدان الشرق الأقصى، كما كتب كثر عنها، لكن أصوات هؤلاء كانت على الدوام خفيضة، ولم تسهم الظروف في انتشارها، أما ما حدث مع ماركو بولو فكان العكس: انتشر كتابه، الذي سيظهر أنه كتب بالفرنسية أولاً، وقرأه الأوروبيون وتعرفوا من خلاله إلى صين قوبلاي خان، الذي صار منذ ذلك الحين أشبه بالشخصية الأسطورية، وتعرفوا كذلك إلى اليابان، التي راحوا منذ ذلك الحين يسمونها بلاد الشمس المشرقة، والتي كانوا نادراً ما سمعوا بها من قبل، وتعرفوا إلى حياة القصور والشعوب والعادات والتقاليد والاختراعات وضروب التقدم في مجاهل آسيا، وأيضاً في وسطها، وفي الشرق الأدنى وشرق أفريقيا.

ومن المؤكد أن الأوروبيين، بالنسبة إلى هذين الحيزين الجغرافيين الأخيرين الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، سيتلمسون في ثنايا كتاب ماركو بولو صورة مختلفة كثيراً عن تلك الصورة التي كانت لديهم مستقاة من رحالة ومبشرين ورجال دين زاروا المناطق وعادوا منها بانطباعات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها كانت مخيفة تنذر بالأهوال.

وصف لحضارات بعيدة

فما الذي يصفه ماركو بولو في كتابه؟ يصف ذلك العالم، ولا سيما سنوات إقامته هو فيه، وإقامة عمه وأبيه هناك طوال ما يقارب ربع قرن، لكنه أكثر من هذا، وبين السطور، يصف الحياة في أوروبا نفسها، لأنه في كل مرة يبدي اندهاشه بما يراه وبما يسمعه في بلاد الحضارات البعيدة، إنما يعبر عما ينقص موطنه، ولعل في هذه المقارنة بين بلاد التتار والمغول والصين وفارس واليابان وازدهار حضاراتها، وما ينقص أوروبا، تكمن أهمية هذا الكتاب، وتحريك المخيلة الأوروبية، هذه المخيلة التي لم تكف منذ ذلك الحين عن الاهتمام بالشرق، أولاً من موقع الصدمة، وبعد ذلك من موقع التوق الرومنطيقي. وفي هذا الإطار، لم يكن صدفة أن يلعب قوبلاي خان دوراً كبيراً في مخيلة الأوروبيين الاستشراقية، وتصدرت من بعد نص ماركو بولو "الرائد" هذا في مجال التعريف به كتب كثيرة، شعرية ونثرية، تحوله من إمبراطور صيني إلى أسطورة.

زيارة عائلية واستقبال إمبراطوري

قام ماركو بولو بالرحلة إلى الصين عبر آسيا، مع أبيه وعمه بين العامين 1271 و1295، وكان الأب والعم، وهما تاجران من البندقية، قد سبق لهما أن زارا الصين قبل اصطحاب ماركو الشاب إليها، وكان قوبلاي خان، إمبراطور البلاد قد استقبلهما بكل احترام وكلفهما حتى بإيصال رسالة منه إلى البابا، وحين أوصل الرجلان الرسالة يبدو أن البابا أحب أن يجيب عنها بأحسن منها، وقد سرته أن تأتي تلك المبادرة من المكان البعيد، فكلف بإيصال الرد إلى والد ماركو بولو وعمه، اللذين إذ عادا بالجواب إلى قوبلاي خان، اصطحبا معهما هذه المرة ماركو الشاب، في رحلة عبروا خلالها طوال فترة لا بأس بها من الزمن مناطق عديدة في كل من أرمينيا وفارس وصولاً إلى الهند والصين، مروراً ببلدان "مدهشة لم نكن سمعنا بها من قبل"، كما يشير ماركو بولو في إحدى صفحات الكتاب، كما ويخبرنا أنهم كانوا طوال الطريق يتفحصون منتجات البلدان والمدن التي يزورونها ويسجلون انطباعاتهم عنها، عازمين على المتاجرة بها مستقبلاً، وفي الصين، وجد البندقيون الثلاثة أنفسهم في بلاد هادئة ووسط شعب مهذب، وعاشوا في بيوت مرفهة تحف بها طرقات أنيقة مزروعة بالأشجار على جانبيها. باختصار، سيقول آل بولو إنهم إذ ذهبوا أولاً وهم يعتقدون أنهم سيلتقون قوماً همجيين، إنما التقوا بدلاً من ذلك شعوباً متحضرة في شكل استثنائي "شعوباً تفوق أخلاقها وعوائدها ما في بلداننا تقدماً.

المهم أن قوبلاي أبقاهم لديه 20 سنة أخرى، ثم حين أعلنوا عزمهم الرحيل سلمهم ابنته دليلاً على ثقته بهم، وهذه الابنة هي التي سيقول ماركو لاحقاً إنه اصطحبها إلى فارس.

من حكاية الرحلة إلى حكاية الكتاب

إذا كانت حكاية الرحلة تنتهي بالعودة، في عام 1295، فإن حكاية الكتاب تبدأ بعد ذلك مباشرة، إذ تقول الحكاية إنه حين عاد ماركو بولو إلى إيطاليا، وجد نفسه، وهو البندقي، منخرطاً في معركة بحرية ضد سفن مدينة جنوى المنافسة، وأسر خلال المعركة، وفي السجن تعرف إلى أسير يدعى روستيسيان البيزي، وأملى عليه فصول الكتاب، الذي أطلق عليه أول الأمر اسم "المليوني" لسبب لا يزال غامضاً، ثم عرف باسم "تقسيم العالم"، وكذلك باسم "كتاب العجائب"، وكما أشرنا، نال الكتاب، منذ نشره، شهرة كبيرة، وانقسم إزاءه الناس بين مصدق لكل ما فيه، بانياً على ذلك أحلاماً وخيالات، ومكذب رأى أن ماركو بولو اخترع معظم ما يرويه، أو هو، في الأقل، سرق مشاهدات أبيه وعمه. ومهما يكن من الأمر، فإن ماركو بولو عمر عقوداً بعد ذلك، وعاد إلى مدينته على أثر إطلاق سراحه، وعاش حياة هادئة يتاجر بما أتى به أبوه وعمه، ويروي حكايته لمن يحب أن يسمع حتى رحل، في عام 1323، عن عمر يناهز الـ70.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة