ملخص
حتى وإن كانت النظرية معقولة فإن التأكيدات غائبة والقنبلة الفكرية لم تنفجر
لم يكن من قبيل الصدفة أن يقر جورج برنارد شو وهو واحد من أذكى أذكياء الأدب الإنجليزي خلال النصف الأول من القرن الـ20، بأنه إذا كان له من معلم كوّنه في الأقل في مجال اللغة الساخرة بمعانيها المتهكمة المضمرة، فإن هذا المعلم ليس سوى ذاك الذي حين أراد آخر حياته أن يكتب مذكراته لم ير أفضل من "هذا مآل كل جسد" عنوانا لها، وهو بالطبع الكاتب صمويل بتلر الذي قد يبدو منسياً بعض الشيء اليوم، لكنه كان ملء السمع والبصر في الجيل السابق مباشرة على جيل برنارد شو، الجيل الذي طبعه العصر الفكتوري بتلك الروح المشاكسة المرحة التي كان اللؤم جزءاً من كينونتها والتنوع في ممارسة عدد كبير من أنواع الأدب والنشاطات الإبداعية عموماً لزوم ما لا يلزم بالنسبة إليها. وكان بتلر (1835 – 1902) في الوقت نفسه وعلى قدم المساواة تقريباً، روائياً وفيلسوفاً ومترجماً وصاحب أقوال مأثورة يعد المعروف منها بالآلاف وتجمع في مجلدات، وكذلك كان موسيقياً ورساماً وناقداً فنياً دون أن ننسى كونه عالم نباتات هاوياً ورحالة لا يهدأ، وإلى هذا كله كان مترجماً. ونحن بهذه الصفة تحديداً نطل عليه اليوم، ولكن ليس للحديث عن فنه في هذا المجال وإنما لاستعادة بحث له قدمه لترجمة قام بها، ولا تزال معتمدة حتى اليوم لواحدة من الملحمتين المنسوبتين إلى الإغريقي هوميروس، اللتين تعتبران مؤسستين لكل الآداب التي كتبت باليونانية. فما الذي يدفعنا هنا إلى التوقف عند بتلر؟
ضجة ضائعة
نظرية طلع بها في ذلك النص التقديمي يقول فيها إن مؤلفة واحدة من الملحمتين، على الأقل، وهي الأوديسا، لا بد أن تكون أنثى لا ذكراً. ولئن كان بتلر قد توقع حين نشر ترجمته مع هذا التقديم لها أن تحدث انفجاراً ودوياً في الحياة الأدبية فلا شك أن أمله قد خاب. وذلك بالتحديد لأن أحداً لم يصدقه أو يوافق على نظريته ومرت الحكاية مرور الكرام لا تلفت نظر أحد منذ صدور الطبعة الأولى من الترجمة عام 1897 وحتى صدور طبعة تالية منها في عام 1923، فكانت الضجة كبيرة هذه المرة، وربما يعود الأمر بعد ربع قرن تقريباً من رحيل الملكة فكتوريا ومعها الجمود الذي طبع عصرها، ويقظة الحركات النسوية عند نهايات الربع الأول من القرن الـ20، يعود ذلك التجدد في الاهتمام بكل تلك العوامل وفي مقدمتها العامل الأخير، النسوي الذي راحت فيه مناضلات كثيرات يشتغلن على مثل الموضوع الذي اشتغل عليه بتلر، إذ وجدنه متماشياً مع تفكيرهن معيداً للمرأة حقوقاً كانت قد سلبت منها منذ زمن بعيد، وها هو بتلر يساعدها على استعادة هذا الحق من تلك الحقوق! ولكن كيف اشتغل بتلر على هذه الفكرة ووجد لها من المبررات ما كان كافياً زمن إطلاقها لإقناعه هو نفسه بها دون أن يتمكن حقاً من إقناع الآخرين؟
عزباء ومن سلالة ملكية!
الحقيقة أن بتلر لم يكتف يومها بإطلاق الفكرة، بل بدا أكثر تحديداً مؤكداً أن مؤلفة الإلياذة كانت "صبية في مقتبل الشباب، عزباء وذات عزم لا يلين". بل راح يفترض أنها "يمكن أن تكون متحدرة من سلالة ملكية". ويقول بتلر في "دراسته التقديمية تلك" إن "هذه الآنسة، ولنسمها مس هوميروس، عاشت على الأرجح بعد أجيال من الزمن الذي يفترض أن هوميروس قد عاش فيه". وهي عاشت بحسب فرضية بتلر، تحديداً في صقلية وعلى الأرجح بجوار منطقة تراباني، الموصوفة في النص بشكل دقيق بالنسبة إلى تضاريسها كما تبدو اليوم، "بل حتى يمكن أن تكون قد قدمت صورة ذاتية لها هي نفسها في الملحمة من خلال وصفها الدقيق والودود لشخصية نوزيكا التي تهتم اهتماماً خاصاً بثياب أوليسيس في النشيد السادس من الملحمة".
فرضيات ذاتية الجذور
ولكن من أين أتى بتلر بكل هذه المعلومات الثورية، التي حتى وإن لم تكن قد أثارت عاصفة الضجيج التي كان الكاتب يتوخى إثارتها، تمكنت على أية حال من زعزعة مكانة السيد هوميروس في التراتبية الإبداعية العالمية وتاريخها، كما تمكنت من إزعاج كوكبة علماء الإغريقيات في الجامعات الإنجليزية في أقل تعديل؟ لقد أتى بها كما يقول المدافعون عنه وعن فكره، من تبحره الفكري العميق ومن المعلومات الدقيقة والمتشعبة التي اعتاد جمعها في رحلاته ومن خلال قراءته، ولكن أيضاً من خلال استنتاجاته تبعاً لمنطق تحليلي جدلي كان دائم التمسك به واللجوء إليه... ولكن بخاصة من خلال قراءته النبيهة مراراً وتكراراً للقصيدة الطويلة نفسها قبل ترجمته لها ثم خلال وبعد ذلك، ولقد أوصله ذلك إلى تركيز سيبدو أكثر وأكثر إقناعاً مع مرور الزمن، على أن في الأوديسة من التفاصيل الدقيقة (على عكس ما في الإلياذة علماً بأن الملحمتين منسوبتان إلى مؤلف واحد بالطبع) ما لا يوجد عادة إلا في الكتابة النسائية بل حتى النسوية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر أن مربية أوليس في الأوديسا تساوي 20 بقرة، بينما لا يزيد ثمن أية أنثى من طبقتها، في الإلياذة عن أربع بقرات أي أقل بنسبة الثلثين عما يساويه ذكر عجوز! وإلى ذلك ما يلاحظه بتلر من انتشار رائحة "زنخة السمك" على ظهر السفن التي يتنقل أوليسيس على متنها وهو أمر لا يمكن أن يلاحظه أحد سوى المرأة عادة!
شاعرات الإغريق الكبيرات
اليوم بعد قرن ونصف القرن من الزمن الذي أورد فيه صمويل بتلر تلك النظرية، التي لم يستطع إثباتها بشكل يقيني على أية حال، يبدو من المؤكد إلى حد كبير أن نظرية أخرى تفترض أن الملحمتين قد كتبتا في زمنين بعيدين كل البعد عن بعضهما بعضاً ومن قبل مؤلفين مختلفين تماماً، جديرة بأن تكون منطقية ومقبولة بالتالي بالنسبة إلى أعداد جادة ومتزايدة من الباحثين، ولكن في المقابل ليس ثمة كثر من هؤلاء يغريهم أن يوافقوا بتلر على نظريته المتعلقة بكتابة آنسة من نسل الملوك لنصف ذلك الإرث الإنساني الإبداعي العريق، ومع هذا ينسى كثر ما يقوله هذا الكاتب على هامش دراسته من أن اليونان القديمة كانت مليئة في عصورها الذهبية بكاتبات بل حتى بشاعرات من الطبقة الأولى، حين يذكرنا بخاصة بسافو شاعرة تلك العصور الكبيرة كما باثنتين من منافساتها هما غورغو وأندروميد، "ولكل من هؤلاء الثلاث نتاج شعري رائع، بل نفترض أنه لا يقل في قيمته عن الملحمتين اللتين نبجلهما كل التبجيل دون أن يكون لدينا في نهاية الأمر ما يكفي من المعلومات الحاسمة لنسبهما إلى مؤلف معين، سواء كان سيداً يدعى هوميروس أو آنسة لسنا ندري حقاً ما هو اسمها؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الفرضيات إلى الكلام المأثور
في النهاية لئن كان يبدو على بتلر أنه في مثل هذا الكلام يحفظ نوعاً من خط رجعة عن "تأكيدات" أطلقها يوماً ليثير بها صخباً، فإن كثراً من محبي أدبه لا سيما من الذين يعودون دائماً بشغف إلى المأثور من كلامه، لا يجدون مغبة في نصحنا بالتعامل مع تفاصيل نظريته حول أنوثة كتابة الأوديسا بود وتفاعل تعاملنا مع بعض أجمل ذلك الكلام المأثور الذي "قد لا نملك ما يمكننا من اعتباره يقيناً" لكننا نستمتع به ولن يضيرنا أبداً أن نعود إليه وإلى "معانيه العميقة والبسيطة" بين الحين والآخر كما حين يكتب "ما الحياة سوى سيرورة طويلة من التعب" أو "أفضل الكذابين هو ذاك الذي يمكنه أن يجعل أقل قدر من الكذب يقطع أطول طريق" أو "من الأفضل أن تحب وتخسر من ألا تحب ولا تخسر أبداً" أو حتى "ما القَسَم إلا كلام، وما الكلام إلا ريح"، ناهيك بأن "الحفاظ على الذات هو قانون الطبيعة الأول".