ملخص
معرضان فرنسيان يقاربان فنه من خلال مواقفه السياسية وشغفه بالفن الرابع
بعد "الأرض نيّرة" (2007)، "سماكة الأحلام" (2012) و"المصادر الموسيقية"، يتابع القائمون على "متحف مدينة روبيه" الفرنسي قراءتهم لأحد أهم وجوه الفن الحديث، و"مدرسة باريس" تحديداً، مارك شاغال (1887 ــ 1985)، بتنظيمهم له حالياً معرضاً رابعاً بعنوان "شاغال سياسي، صرخة الحرية"، يستكشفون من خلاله الجانب الملتزِم لهذا العملاق الذي أصغى بحساسية شديدة إلى زمنه، وتأمّل ببصيرة، في قضاياه الكبرى ومآسيه، ملهماً إياه برسالته الفنية، الإنسانية إلى أبعد حد. معرض مهم حين نعرف أن شاغال الذي عاش قرناً من الزمن، اختبر حربين عالميتين والنفي من وطنه الأم، روسيا، وقاد عملاً فنياً مدهشاً، رسخه بقوة في تاريخ القرن العشرين.
وفعلاً، يشكّل هذا الفنان وجهاً نموذجياً لتجربة النزوح والهجرة التي طبعت حياة الكثيرين في القرن الماضي، وما زال جرحها مفتوحاً حتى يومنا هذا. فمن طفولته في روسيا، ثم إلى فرنسا، مروراً بألمانيا والولايات المتحدة والمكسيك وبلدان أخرى، اضطر شاغال إلى الترحال داخل العالم وفقاً لعذابات زمنه ومحنه، قبل أن يعرف أخيراً الاستقرار على الشاطئ الغربي من حوض المتوسط. وفنه المصبوغ بإنسانية عميقة، والذي تغذّى من جذوره اليهودية والتجارب التي عاشها، ومن تفاعله الخصب مع الثقافات التي احتك بها، يحمل رسالة التزام نبيل تجاه الإنسان وحقوقه، مهما كان انتماؤه أو لون بشرته، وبالتالي تجاه المساواة والتسامح بين البشر. فنّ ترتفع داخل ثماره صرخة حرية مدوية، تتجلى من خلال وضعه تحت أعيننا، ليس فقط أهوال الحروب التي عاشها شاغال، بل أيضاً المعارك الفنية التي خاضها وارتقى بها، بقوة الشعر والخيال اللذين تجتمع داخلهما المفردات التصويرية للسخرية والدعابة الراسختين في ثقافته الأولى.
هكذا تحوّل القلم والريشة إلى سلاحي سلام في يد هذا الرسام، فتمكن بواسطتهما من تصوير صراعات القرن العشرين الذي "صنعته حرائقه"، مبيناً في رسوم ولوحات باهرة كيف "تلتصق كلمات هذا القرن وأصداؤه في الهواء وتتحجّر أجساداً مدمّاة على بياض الثلج". أعمال تكشف أيضاً، وجهات نظر وحوارات متقاطعة حول تاريخ في طور الكتابة، عن المثالية غير المشروطة لصاحبها. وبتمثيله فيها عالماً يعيش البشر داخله في تناغم ليس فقط في ما بينهم، بل أيضاً مع الحيوانات والطبيعة، تكشف أخيراً عن إيمانه الذي لم يتزعزع طوال حياته في مستقبل مشرق.
باختصار، يقدّم هذا المعرض ثمار فن شاغال في ضوء الأحداث التاريخية التي شارك مجبراً فيها، وكان شاهداً فريداً من نوعه عليها، وفي ضوء قراءته الشعرية ــ السياسية لنصوص ومراجع أدبية كبرى، مثل التوراة و"حكايات" لا فونتين و"النفوس الميتة" لمواطنه غوغول، مشكّلاً في ذلك المقاربة الكاملة الأولى لأعماله من منظور مواقفه السياسية والتزاماته.
أما المعرض المتزامن الذي ينظّمه "مركز بومبيدو" في باريس حالياً تحت عنوان "شاغال ناشطاً"، فيتضمن مجموعة أعمال تلقّاها متحف المركز المذكور العام الماضي هبة من حفيدتي الفنان، بيلا وميريت ماير، وتنتمي إلى ثلاث موضوعات: الرسوم التحضيرية التي وضعها شاغال لإنجاز أزياء – وديكور- باليه "الطير الناري" لإيغور سترافينسكي؛ الرسوم الإعدادية والتصاميم التي وضعها لتزيين سقف صالة مبنى "الأوبرا" في باريس، بعد تكليفه بذلك عام 1962؛ ومجموعة من الخزفيات والملصقات والمنحوتات أنجزها منذ الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات.
ومن خلال هذه الأعمال، يسلط منظمو المعرض الضوء على الدور الأساسي الذي لعبته الموسيقى في عمل شاغال التشكيلي، مبيّنين مدى ارتباطها الوثيق بمزاولته الفن، كما أشار إلى ذلك بنفسه في سيرته الذاتية "حياتي"، ومدى تشكيلها مصدر إلهام وموضوعاً متواتراً داخل لوحاته، وخصوصاً وسيلة جديدة وناجعة للتأمل في الصورة وسبل ابتكارها.
الرسم والصوت
وفعلاً، سواء كتب: "حين أرسم، أصبح أنا نفسي صوتاً، أو قال: "يجب أن نجعل الرسم يغني بواسطة الألوان"، فهو لطالما ربط بشكل حميم، الموسيقى بالفنون البصرية، محافظاً طوال حياته على حوار مستمر مع موسيقيي زمنه وراقصيه. وفي هذا السياق، شكّل إنجازه الديكور والأزياء في باليه "الطير الناري"، فرصة له لاختبار الرسم على ركائز بقياسات ضخمة، تختلف عن الورق والقماش. ومنذ رسومه الأولى لهذا المشروع، عمد إلى استلهام حركة الراقصين نفسها ومحاكاتها في تصميمه الأزياء. وكذلك الأمر لدى رسمه على سقف صالة مبنى "الأوبرا" في باريس، حيث سعى بالطريقة نفسها خلف تناغم مع هندسة "قصر غارنييه"، وتخيّل قبل أي شيء رسوم جداريته على شكل إيقاعات ملوّنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نتلقى صورية هذين المشروعين كتكريم للموسيقيين الكبار الذين رافقوا مسيرته الفنية، ولمدينة باريس التي وفّرت له ليس فقط ملجأ أميناً، بل أيضاً أرضية خصبة لإبداعه. مشروعان أثارا لديه اهتماماً متجدداً بالتلاعب بالمواد وخلطها، كما يتجلى ذلك في المنحوتات والخزفيات والملصقات الحاضرة في الجزء الأخير من المعرض. أعمال تنتمي إلى المرحلة الأخيرة من حياته، وشكّلت بالنسبة إليه ركائز لاختبار مواد جديدة، مثل الرخام والحصى والعظم والجصّ، ولتهجين هذه المواد بقطع قماش ودانتيل ومواد أخرى مختلفة، مع المحافظة على الوجوه والشخصيات والموضوعات المتواترة في عمله السابق، مثل برج إيفيل، العاشقَين، القرية، الحيوانات الأليفة (ديك، حمار، حصان...) والطبيعة.
باختصار، تكمن قيمة هذا المعرض في تشكيل محتوياته خير نماذج عن عمل شاغال بعد الحرب العالمية الثانية، وفي إظهارها انخراطه في العديد من المشاريع التي كان يُكلَّف بها، وبالتالي عدم تردده في تنويع ممارسته الفنية وركائزها المادية وتقنياتها. أعمال تسمح أخيراً في ولوج حميمية محترفه، بوضعها تحت أعيننا سيرورة تطوّر كل واحد من هذه المشاريع، من الرسم الإعدادي الأول الملقى بسرعة على ورقة، إلى الرسم المشغول والنهائي الذي يشكّل عملاً فنياً بذاته، بقدر ما يشكّل المرحلة الأخيرة من عملية التحضير لرسم لوحة أو جدارية أو ديكور.