تعاني الأمم المتحدة أزمةً سرية من التدفق النقدي لم تشهد مثيلةً لها منذ زمن رونالد ريغان، عندما علّق المساهمات الأميركية لكسب النفوذ السياسي في الثمانينيات. والآن رغم كون الميزانية "آمنة"، فإن المانحين الرئيسيين – بمن فيهم الولايات المتحدة - يمتنعون عن صرف مساهماتهم، ما يتسبب في ضغوط سيكون لها تأثير يتجاوز بكثير المراكز الأممية الرئيسية.
تحصل الأمم المتحدة على ميزانيتها بطريقة بسيطة للغاية، حيث يدفع الجميع نسبة مئوية من ناتجهم المحلي الإجمالي، ولا تدفع الولايات المتحدة إطلاقا أكثر من 22 في المئة من الميزانية. ومنذ تأسيسها في عام 1945، عمل هذا النظام إلى حد كبير. وتشكل جميع دول العالم تقريبًا "الدول الأعضاء" في الأمم المتحدة، وبما أن قوس التنمية البشرية ينحني إلى حد كبير نحو السلام، فإن الجمود الذي أوجده تَساوي 193 من الدول الأعضاء في التصويت يدفع البلدان إلى تسوية الخلافات بالحوار. وبالتالي إذا أردت أن يكون لك صوت، فأنت بحاجة إلى دفع ثمنه، لكن بإمكانك عدم الدفع لمدة عامين دون أن تفقد صوتك.
ورغم كونها مأساوية، فإن الحروب والاضطرابات منذ عام 1945 كانت تحدث إلى حد كبير بسبب اضطرابات وتغيرات داخلية (رواندا وجنوب السودان وإيران) أو من خلال غزو أو عمل عسكري مباشر بين طرفين (الولايات المتحدة / فيتنام والمملكة المتحدة / الأرجنتين). لكن الأمم المتحدة وحلف الناتو قد مكّنا البلدان من تسوية المشاكل التي تطرح نفسها بشكل جماعي. وعلى العموم، فإنه ما دام لا يتم إسقاط الأسلحة النووية ولا توجد هناك حروب عالمية، فإن المنتدى الأممي يعمل بشكل جيد في التخفيف من حدة المشكلات والتوصل إلى كيفية حلها عندما تطرح.
لقد تطلبت نهاية الحرب العالمية الثانية، بنفس الطريقة التي انتهت بها الحرب العالمية الأولى، بحثا في عمق الذات عن كيف يجب أن يكون عليه النظام العالمي الجديد. تم استخلاص الدروس المستفادة من فشل عصبة الأمم وتضاعفت الجهود من أجل إنشاء نظام يعزز الدبلوماسية العالمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن مع اقتراب الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الأمم المتحدة، يبدو أن الدروس المستفادة أخذت تختفي من وعينا العام. والآن هناك حاجة إلى هذه الدروس أكثر من أي وقت مضى، لكن الأمم المتحدة تقع تحت تهديد كبير. يمكن أن يؤثر تعليق المساهمات على العديد من الأجزاء في المنظمة الدولية، لكن التأثير الأكبر يظهر فيما يسمى "الميزانية الاعتيادية" التي تدفع مصاريف الأمانة العامة.
هذا الأسبوع، تم تبليغ تلك الرسالة بوضوح تام في اجتماع للموظفين، حيث تمت الإشارة إلى أن التدفق النقدي بلغ حد استنزاف رأس المال المتداول والاحتياطات، وأن الأمور تتجه نحو الأسوأ وليس الأفضل.
لقد كانت الولايات المتحدة في الماضي "زعيم العالم الحر". لكن الآن، مع بدء الولايات المتحدة في التصرف مثل طفل مشاكس، بدأ آخرون في انتهاك حقوق الإنسان في الأماكن التي لا تتوقعها، مثل هونغ كونغ. وبالإضافة لهذا، تحوم أطراف بديلة مثل الطيور الجارحة تدعو إلى وضع حد للهيئات الأممية.
من جانب الولايات المتحدة تبقى الرسالة بسيطة، وهي أنها ستتراجع إلى الخلف. وبينما يتطلع زعيم العالم الحر إلى تسليم الشعلة، تنشغل المملكة المتحدة بـ "بريكست"، وتتجه ألمانيا نحو الركود، وتنفجر إيطاليا من الداخل، وتواصل فرنسا مواجهة المشاكل مع السترات الصفراء. على الجانب الآخر، عادت روسيا إلى الظهور مع شبه جزيرة القرم، وتلعب الصين بخشونة مع هُونْغ كُونْغ.
أي نوع من العالم نريد؟ إذا كنا نريد السلام والاستقرار والأمن، فعلينا أن ندفع لأجله. بالنسبة للولايات المتحدة، يصل هذا المبلغ إلى 35 دولارًا تقريبا للفرد. ويبدو هذا المبلغ صغيرا جدًا لتحقيق السلام والتنمية في العالم. لكن إذا بدا هذا المبلغ مرتفعا أكثر من اللازم، فمن تريد أن يقود العالم؟ الولايات المتحدة أم الصين؟ أنا أعرف من أختار.
(أمين باشا هو اسم مستعار لدبلوماسي في الأمم المتحدة في نيويورك)
© The Independent