لا جدال في أن للحيوان الأليف تاريخاً سحيقاً يمتد نحو 30 ألف عام من العلاقة المتفاوتة الألفة مع الإنسان، وأقصد بالضبط الكلب على اختلاف أنواعه، وتسمياته وأصوله. ولا غرابة، بعد ذلك، أن يصير للكلب مكانته البارزة في فكره وأساطيره ونظراته الماورائية، لخمسة آلاف سنة خلت، وفق ما رسمت الحضارة المصرية في أنوبيس، الكلب بهيئة نصف الإنسان ونصف الإله، إبان الحضارة الفرعونية القديمة، ورفيق الموتى إلى مثواهم الأخير.
وجرياً على هذه الصلة القديمة والدائمة بين الإنسان والكلب، وصولاً إلى عصر الكتابة والتدوين والسرد، نفذت قصص الكلاب إلى صميم أساطير البشرية وخرافاتهم، بدءاً بكلب عوليس، في ملحمة الإلياذة الذي ما إن تعرف إلى جثة صاحبه ميتاً، حتى فارق الحياة، إلى خرافة الكلب العملاق المدعو باسكرفيل بقلم السير أرتور كونان دويل، الذي جعله يلتهم أهل ناحية من إيكوسيا، فإلى ما لا يحصى من الروايات والقصص عن الكلاب ومغامرات أصحابها وعن دواخلها ونظراتها إلى الحياة والوجود والعلاقات البشرية.
ثم إننا، لو عددنا بعض الروايات التي جعل فيها الكلب بطلاً، لكان طال حديثنا. ومع ذلك نورد بعضاً منها على سبيل المثال، نذكر اعتباطاً ما كتبه جاك أتالي في "عيد ميلاد كلب"، وبيو كازاريس في "النوم تحت الشمس"، وفون أرنيم في "كل الكلاب في حياتي، ومايل ب، في روايته "حياة كلب"، وبول أوستر في "تومبوكتو"، وبعضاً من الروايات التي اقتبست أفلاماً، مثل "كروك بلان" من تأليف جاك لندن، والكلبة الأمينة "لاسي" العائدة إلى موطنها الأول في يوركشاير بعد بيعها لعائلة أساءت معاملتها، ولقائها بصاحبها الفتى جو كراغلوف، ورواية "تومبوكتو" الشهيرة للكاتب الأميركي بول أوستر، وفيها مناجاة طويلة في ذات الكلب بعد موت صاحبه، وانتهاء بكتاب الشاعر يوسف الخال "يوميات كلب" الصادر عن دار النهار عام 1987، الذي أودعه رؤيته المتشائمة إلى الحياة، من خلال تقمصه ضمير الكلب، واعتماده اللغة المحكية نسيجاً لأفكاره وبثه.
قلب الأدوار
أصدر الشاعر والكاتب عقل العويط، كتاباً بعنوان "السيد كوبر وتابعه" (دار نوفل، 2023)، وفيه نفثات ويوميات، وخبرة الفة جميلة مع الكلب الذي أدخله ابنه أنسي إلى حياته، فاستطاب وجوده وروى وعلق وأنشأ أوركسترا بأصوات وصرخات وأناشيد مصحوبة بأنات زمنه ووحشته وتلاشي معاني وجوده الهش، وفق ما نرى لاحقاً. في هذا الكتاب السردي نقاط اختلاف عديدة عن الكتب السابقة، ومنها أن الشخصية المحورية لدى عقل هي الكلب كوبر، والموثق حقيقة من قبله، في حين أن شخصية الكلب لدى بعض الكتاب افتراضية، وتعكس رؤية تشاؤمية بالوجود والحياة تقربها من صورتها الدنيا والموحشة والجديرة بأن تتمثل في العيشة الكلبية، ثم إن الكتاب عند عقل، وإن اتخذ قالب الرواية الصغيرة (نوفيلا) وأي رواية مشوقة وولادة تساؤلات وزوبعة مشاعر سوف نقف عندها وقوع أحداثه في إطار زمني معلوم (بين خريف عام 2017 وربيع عام 2023)، وإطار مكاني متغير (من منطقة يسوع الملك، إلى الأشرفية في مدينة بيروت)، فإنه ينطوي على قدر لا بأس به من السيرة، باعتبار المتكلم لا يخفي كونه المعني بالكلام، وكونه واقعاً أول الأمر في ورطة تبني كلب يدعى كوبر، أدخله فيها وحيده أنسي، قبيل سفره إلى لندن للتخصص في الرياضة. ولا تلبث هذه الورطة أن تنقلب إلى نعمة، كلما انكشف للراوي جانب إنسي في الكلب الرفيق، وازداد اندفاعاً وراء حدوس كوبر وحاسة شمه، في مشاوير التفريج عن حاجاته البيولوجية، وأتاح له اكتشاف دواخل كانت لا تزال طي لا وعيه، أبداً كما تحسنه المرآة العميقة.
يقول، "الاستغراب كان لا بد من أن يصل إلى أقصاه، عندما تورطت بلا وعيي الدفين، في استدراج هذا الكائن ليقيم معي، فأصير أنا نفسي متعهده وأباه وأمه وصديقه الوحيد" .
استبطان وتحديات وخصال
وفي السياق عينه، تصير الكتابة السردية، الآخذة بناصية السيرة واليوميات الكثيرة اللصوق بالواقع أو هي النسخة المكتوبة عن الواقع، نوعاً من تعرية الذات، واستبطاناً لحال الكائن وتحولاته النفسية وردود فعله حيال حياة أخرى سقطت بين يديه، هي حياة الكلب كوبر. فمنذ أن أصر أنسي على والده بأن يتخذ له كلباً جرواً، المسمى كوبر، وهو لا يزال في شهره الثالث، خريف عام 2017، وينزل في بيته كائناً تام الحضور، والاهتزازات في كيان الراوي لا تني تتوالى، ومعها الأسئلة الداعية إلى تقبل التحديات أو التخلي عنها. فهو الضائق بأبوته، على الرغم من حبه الجارف لابنه أنسي، ما كان ليتحمل مزيداً من المسؤولية. أو ليس هذا أول الحافز إلى الفعل، إلى السرد، ويأتي بعده الحراك؟ "من أين لي أن أتقمص هذه الشخصية الأمومية، وأن آخذ على عاتقي تدبير العيش لهذا الطفل المقتلع بطريقة قاطعة من طفولته؟" .
ومع ذلك، تراه ينساق مع مجرى الحياة الجديدة التي أعطيت له، وعندئذ فقط تتكشف للراوي ملذات ومسرات أعظمها الحب، وأوفاها صفات لم تكن فيه. يقول، "ذلك كله كان يغمرني بحال غير مسبوقة من اللذة، في وقت كنت أتساءل من أين لي أن أضطلع بهذه المهمة التي تتطلب سعة الصدر والرحابة والمعرفة والصبر والتأني".
مدائح وآلام
من النادر أن يقع القارئ العربي، في الآثار السردية والروائية العربية، على هذا القدر من الدفق الشعوري الوجداني -الغنائي أحياناً- الذي يجده في هذه الرواية الصغيرة للشاعر العويط، مشاعر غبطة لاكتشاف الراوي لغة يخاطب بها كلبه الأليف، بل ظله الذكي والعطوف والمندفع غيريا، هي لغة العينين، الضامرتين والسعيدتين والعميقتين والذائبتين، حيناً بعد حين. ومشاعر الحنان حيال كوبر المألوم، التي يستعيدها الراوي لدى مرض صاحبه -نعم صاحبه وليس تابعه- واضطراره إلى إجراء عملية له، على الرغم من الانهيار المادي المريع الذي حل بالراوي، ونجاحه، آخر الأمر، في مداواته بفضل تدخل طبيب من معارفه ومحبيه، واكتشافه أنه لا يزال قادراً على الحب، ما دام قادراً على حب كوبر وبذل كل المستطاع والمستحيل في سبيل خلاصه من مرضه وضعف في قائمتيه. وعندئذ، تحلو المدائح لكوبر لجماله الروحي ولعينيه وجاذبيته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"هو على قدر من الجمال، لا يضاهى ولا يقاس لا سيما إذا قيس الجمال بمعايير العيون، إذ كيف لعينين كعينيه ألا تخترقا السدود والجدران والقلوب المفعمة بعبثية الشرط البشري؟ كيف لأي راء أو رائية، أن يظلا لا مبالين حيال عينيه هاتين؟ يجب أن أحصي عدد النساء اللاتي صرن في عداد معارفه (معارفي!) من جراء النظرات التي يرشقهن بها" .
لا تقتصر حسنات كوبر على ما حكاه الراوي آنفاً، وإنما تتعداها إلى إنقاذه مرتين على التوالي، واحدة لتنبيه البستاني سائقا سيارته من دهس الراوي في لحظة غفلة، والثانية بتنبيه "تابعه" نفسه من وجود أفعى في غرفته الجبلية، وإجهاز شابة مقدامة عليها بعصا غليظة، اتبعتها بطلق ناري وحيد. وبالطبع، يسرده الكاتب كله بقدر من التشويق والرشاقة اللغوية والتدفق الشعوري، على ما عهدناه في مقالاته وشعره ونقده الفني في آن معاً.
ولئن كنا تجاوزنا الكثير والكثير مما انطوت عليه هذه الرواية الصغيرة، أو النوفيلا، على أن العويط تابع لكوبر وراوي أفضاله، في معاكسة واضحة للثنائي الروائي "من دون كيخوته وتابعه سانشو"، فإننا نكتفي بالإشارة إلى بعض الاهتمامات الكبرى التي ظهرت في خطاب العويط السردي، ومنها بوحه الصارخ بحبه المرأة، بل شوقه الشديد إلى الحب القادر عليه، ورأيه في الانحطاط القيمي الذي نحن العرب واللبنانيين في أتونه، وأسفه المرير على انتحار الصداقة وتفرق شمل المحبين، وغيرها من الشواغل الخليقة بالشاعر المستوحد والمنغرس في الواقع، بوجدانه الحي ولغته الدفاقة.