ملخص
نما "المجتمع الحريدي" في إسرائيل منذ عام 1979 وحتى اليوم بنسبة 509 في المئة
عاش اليهود الأرثوذكس المتشددون (الحريديم) عقوداً طويلة حياتهم داخل إسرائيل وفق التفاصيل الدقيقة للشريعة اليهودية في هدوء، وبعيداً من الأضواء والحداثة. لهم منظماتهم ومؤسساتهم الخدمية ومتاجرهم ومدارسهم الخاصة (الشيفا) في جميع مواقع عيشهم وانتشارهم. واعتبر تكاثرهم المرتفع وسط المجتمع الإسرائيلي خلال تلك العقود الورقة الرابحة لا محالة في التفوق الديموغرافي أمام الفلسطينيين، كيف لا وقد نما "المجتمع الحريدي" منذ عام 1979 حتى اليوم 509 في المئة. وبعد أن كانت نسبتهم آنذاك لا تتعدى 5.6 في المئة من سكان إسرائيل، باتوا اليوم يشكلون 13 في المئة، وجذبوا بسبب وزنهم العددي الكبير اهتماماً جماهيرياً واسعاً جداً، وتحولوا من مجتمع انطوائي هامشي تقليدي إلى المركب الأكثر تأثيراً في صنع القرار بالمشهد السياسي الإسرائيلي، وحجر أساس في الائتلاف الحكومي الحالي، وحليف استراتيجي لا يمكن التخلي عنه عند بعض الأحزاب. ووفقاً للتقديرات سيصل عددهم في عام 2048 إلى 2.86 مليون نسمة، وسيشكلون 21.2 في المئة من مجمل عدد السكان.
ويزعم "الحريديم" (التقاة الخاشعون)، الذين عادة ما يطلق عليهم بالعربية "المتدينين المتشددين" أنهم يسهمون في رفعة الدولة بالحفاظ على التعاليم اليهودية واستجلاب الحماية الإلهية لإسرائيل، إذ يواصلون قدر الإمكان اتباع أسلوب حياة ثابت. وإضافة إلى الالتزام المطلق بالـ"هلاخا" (الشريعة اليهودية) يقابل "الحريديم" الحداثة، وبخاصة التكنولوجيا بعدائية مطلقة، جعلت منهم تياراً متطرفاً يرفض في كثير من الأحيان التسامح والانفتاح على الجوانب الثقافية للعالم من حوله، إذ يحافظون بدقة متناهية على جميع الأنظمة والقوانين الوارد ذكرها في التوراة والكتب الدينية المقدسة، ويعارضون بشدة إحداث أي تغيير فيها. ويعيش أكثر من 40 في المئة من "الحريديم" في مدينتي القدس وبني براك في ضواحي تل أبيب، فيما يتركز سبعة في المئة منهم في بيت شيمش، ومعظم الباقين في بلدات ومستوطنات ذات غالبية "حريدية" مثل "موديعين عيليت" و"بيتار عيليت" و"إلعاد"، أو في جيوب صغيرة داخل مدن كبيرة مثل أشدود، وبيتاح تكفا وحيفا ورحوفوت ونتانيا.
رفض التجنيد
منذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948 عارض قادة "الحريديم" التجنيد بالجيش، معتبرين أن مهمة الرجل المتدين (الحريدي) هي "دراسة التوراة، وليس التجنيد". وعلى رغم أن المحكمة العليا الإسرائيلية رفضت مرتين تشريعاً يرمي إلى إعفائهم رسمياً من الخدمة العسكرية، وعللت رفضها مشروع القانون في عام 2017 بأنه ينطوي على نوع من التمييز في معاملة المواطنين، فإن المحكمة سمحت ببعض الإعفاءات الموقتة إلى حين تمكن الحكومة من إيجاد حل جذري للقضية التي كانت، ولا تزال، تسبب توتراً وجدلاً كبيرين داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي يطالب بتطبيق التجنيد الإلزامي للأجهزة الأمنية والجيش على المجتمع الأرثوذكسي مثل جميع الإسرائيليين الذين يلتحقون بالخدمة العسكرية أو الخدمة الوطنية في سن 18 سنة.
في مقابل تلك الدعوات هدد قادة أحزاب "الحريديم" بأنه في حال عدم تمرير قانون يعفي عناصرهم من الخدمة العسكرية، سيسقطون الحكومة الحالية، ويسعون حالياً مع حزب "الليكود" الذي يتزعمه نتنياهو إلى تمرير تعديلات قضائية تضعف من سلطة المحكمة العليا، شريطة أن تكون "محصنة، وغير قابلة للشطب من المحكمة". وبحسب استطلاع نشره "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب في سبتمبر (أيلول) الماضي، فإن 68 في المئة يعارضون قانوناً يعفي "الحريديين" من الخدمة العسكرية، بينما قال قرابة الثلث إنهم في حال سن القانون سيشجعون أولادهم على الامتناع عن الخدمة العسكرية.
منح حكومية
الخلاف الممتد منذ سنوات بين المجتمع الإسرائيلي و"مجتمع الحريديم" لم يقتصر على مسألة الخدمة العسكرية فحسب، فكثير من الإسرائيليين يرون أن أسلوب حياة "الحريديم" يمثل تهديداً مباشراً لتطور إسرائيل وديمومتها كدولة علمانية ديمقراطية، وإلى جانب ارتفاع معدل المواليد بين "الحريديم"، الذي يبلغ نحو 6.5 طفل لكل أنثى، وما تشير إليه التوقعات بأنهم سيبلغون قرابة ثلث السكان في إسرائيل بحلول عام 2065، فإن نصف الرجال "الحريديم" تقريباً لا ينخرطون في سوق العمل، بل ينكبون على دراستهم الدينية ويعيشون على المنح الحكومية والتبرعات الخيرية والإعانات ورواتب زوجاتهم، ولا يدرسون الرياضيات والفلسفة واللغات والعلوم، كما يمنعون استخدام وبيع الأجهزة الخلوية الذكية وتختفي النوادي ودور السينما والمسارح لديهم، وفي ما ترتدي النساء "الحريديات" الزي الطويل المحتشم، يمتاز الرجال "الحريديون" بإطلاق لحاهم وتتدلى على آذانهم خصلات من الشعر الطويل. وتشير المعطيات التي استعرضتها صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية التابعة لصحيفة "يديعوت أحرونوت" أن الحكومة الإسرائيلية، وحينما كان "الحريديم" خارجها في عام 2022، خصصت موازنة بلغت 1.2 مليار شيكل (315 مليون دولار) للمعاهد الدينية التابعة لـ"الحريديم"، فيما ارتفعت موازنة العام الحالي إلى 1.7 مليار شيكل (447 مليون دولار)، وفي العام المقبل ستكون ملياري شيكل (526 مليون دولار)، أي إن زيادة الموازنات المخصصة لهم زادت بنسبة 67 في المئة مقارنة مع عام 2022.
ويحصل كل شاب يلتحق بالمعاهد الدينية على راتب شهري بواقع 4000 شيكل (1140 دولاراً) طوال مدة دراسته التي قد تصل إلى ثلاثة أعوام كبديل عن الخدمة العسكرية، مما عزز الكراهية بينهم وبين اليهود العلمانيين الذين يعتبرونهم عالة على الدولة لحصولهم على موازنات ضخمة وفي المقابل لا يعملون ولا يخدمون بالجيش.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقر وبطالة
ويشير معهد الديمقراطية الإسرائيلي إلى أن نحو 140 ألف رجل من "الحريديم" يتلقون رواتب ومنحاً للدراسة بدوام كامل في المدارس الدينية اليهودية، وأن الضرائب التي يدفعونها للحكومة أقل بمقدار الثلث من تلك التي يدفعها سائر العائلات الإسرائيلية. ودل آخر تقرير لمؤسسة الضمان الاجتماعي الإسرائيلية على أن نحو 40 في المئة من "الحريديم" يعيشون تحت خط الفقر، وأن 47 في المئة من أطفال "الحريديم" يعيشون فقراء، في حين بلغ معدل البطالة بين الرجال "الحريديم" ثلاثة أضعاف نظرائهم من اليهود. وحذر أكثر من 200 اقتصادي إسرائيلي في مايو (أيار) الماضي من تداعيات الخطة الحكومية المقترحة لزيادة تمويل المدارس الدينة التابعة لـ"الحريديم"، بزعم أن عدم تدريسهم المواد العلمانية ورفع رواتبهم سيحول إسرائيل إلى دولة كدول "العالم الثالث"، لأن أطفال "الحريديم" مستقبلاً سيعجزون عن الانضمام إلى سوق العمل الإسرائيلية، بخاصة أن 300 ألف طالب وطالبة من أبناء "الحريديم" يتعلمون في المدارس الدينية، ويشكلون ما نسبته 18 في المئة من عدد الطلبة اليهود بشكل عام. وتعتقد وكالة الإحصاء الإسرائيلية أنه في ظل الاتجاهات الحالية، سيكون نصف عدد الأطفال الإسرائيليين من "الحريديم" بحلول عام 2065.
تيارات وأحزاب
ينقسم "الحريديم" من الناحيتين الدينية والسياسية إلى مجموعتين، أقلية صغيرة، وتحمل اسم "الطائفة الحريدية"، وغالبية ساحقة أكثر اعتدالاً محسوبة على حزب "أغودات يسرائيل" ومؤيديهم. وتعد جماعة "ناتوري كارتا" (حراس المدينة) من أبرز مجموعات "الحريديم" التي كانت جزءاً من حزب "أغودات يسرائيل" الذي أنشئ في بداية القرن الـ20 لمواجهة الصهيونية، ولكن في عام 1935، ونتيجة تقاربه مع الحركة الصهيونية، انشق عنه قسم من أعضائه لينشئوا فيما بعد حركة "ناتوري كارتا". وسعى أعضاء الحركة بانشقاقهم عن "أغودات يسرائيل" إلى الحفاظ على النهج المعادي للصهيونية، ورفض كل أشكال الانحلال والذوبان في الفكر الصهيوني، لما في ذلك من مخالفة لما يؤمنون به من معتقدات وأحكام الدين اليهودي. وبسبب معارضتهم للصهيونية ووقوفهم إلى جانب الشعب الفلسطيني وإدانتهم إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، فإنهم يتعرضون للملاحقات المستمرة على يد السلطات الإسرائيلية. وتتوزع جماعة "ناتوري كارتا" في حي "مئة شعاريم" وسط القدس ولندن ونيويورك، ويصل عددهم اليوم إلى خمسة آلاف يهودي. ويشمل التيار "الحريدي" المعتدل الذي يمارس تعاطفاً فعلياً مع إسرائيل ومصيرها، وإن كان لا يوليها أهمية دينية بحسب تصنيف بعض الأبحاث، حركة "حباد" وحزب" شاس" في حين أن "التيار المركزي"، كما يصفه معظم الأبحاث، يتبنى مواقف براغماتية في القضايا السياسية من منطلق الحفاظ على التعايش المشترك مع غالبية الشعب الإسرائيلي، ويركز جل اهتمامه في الجهد الثقافي التربوي من خلال تعزيز مؤسساته التعليمية والدينية وتحصينها. ويشمل هذا التيار في الأساس حركة وحزب "أغودات يسرائيل"، وهما حالياً جزء من تحالف "يهدوت هتوراه".
قوة سياسية
ويشارك جميع الطوائف الحريدية، باستثناء حركة "ناتوري كارتا"، في انتخابات "الكنيست" ضمن أحزاب تحالفية، وعلى رغم الدراسات والأبحاث التي تبين أن "الحريديم" فقراء وسريعو النمو مع انكشاف محدود للتعليم العلماني الرسمي، يؤكد الواقع أنهم الآن ذوو ثقل سياسي كبير ومؤثر. وإلى جانب سيطرتهم على "الحاخامية"، وهي الهيئة الحكومية التي يناط بها الإشراف على إجراءات الزواج والطلاق ومنح الهوية اليهودية، ولديهم سيطرة إدارية على أبرز الأماكن المقدسة اليهودية، تمكنت الأحزاب "الحريدية" الرئيسة، مثل "شاس" و"يهودية التوراة"، من الحصول على 18 مقعداً في الكنيست، مما مكنها من توظيف قوتها السياسية للتأثير في هوية إسرائيل برمتها، فهم من يتحكمون في إسقاط الائتلاف أو البقاء عليه، ويحاولون بين الفينة والأخرى فرض شرائع التوراة على المشهد الحياتي في إسرائيل، فبعيد تشيكل الائتلاف الحكومي العام الماضي أصدروا قانوناً يتيح للمستشفيات العامة أن تحظر منتجات الخبز فيها خلال عطلة عيد الفصح اليهودي، وصرحوا بأنهم بصدد تشريع يسمح بفصل الرجال عن النساء في الحافلات والصلوات والأماكن العامة.
وكشفت وسائل إعلام إسرائيلية أخيراً عن رغبة ثلاثة آلاف من اليهود الأرثوذكس المتدينين المتشددين (الحريديم) في الانضمام إلى الجيش للمشاركة في الحرب على غزة. ووفقاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت" فقد أظهرت البيانات الصادرة عن إدارة شؤون الموظفين في الجيش الإسرائيلي أنه منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، طلب نحو ثلاثة آلاف رجل من اليهود الأرثوذكس المتشددين التطوع للخدمة العسكرية، و"منهم 2100 قاموا بملء النماذج بالفعل"، مشيرة إلى أن هؤلاء المتدينين "سيجندون لشغل مناصب إدارية والمساعدة في تسهيل تشييع القتلى والجرحى ومرافقة عائلات الضحايا وملء الأدوار في قسم الخدمات اللوجيستية".
وفيما اعتبر كثر أن الخطوة تعد بمثابة "فرصة تاريخية لدمجهم في أطر الجيش أو الأجهزة الأمنية"، سارع كبير حاخامات مدينة بني براك الإسرائيلية دوف لانداو للتأكيد أن "القيادة الأرثوذكسية المتطرفة تعارض مبادرات مساعدة الجنود والتجنيد في الجيش الإسرائيلي". وأضاف "اتركوا أوهامكم وأفكاركم وخيالاتكم إلى بيوتكم، وارجعوا إلى الله في التوراة للتعلم والوجود والتوبة والصلاة".