ملخص
يعتبر الجيش الإسرائيلي مخيم جنين "بؤرة للإرهاب" ويقول إنه اضطر إلى العمل على نطاق واسع في المدينة الواقعة في المنطقة "أ" الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية منذ أن فقدت الأخيرة سيطرتها في المنطقة
لم يكن "حصان جنين" الحديدي الذي وُضع على مشارف مخيم جنين عام 2003، شبيهاً بالنصب التذكارية الصماء التي تملأ شوارع المدن الفلسطينية، فهو عند أيمن ذياب (33 سنة) ألبوم ذكرياته وطفولته وأحلامه وآماله الساعي لتحقيقها. فحين كان لا يزال طفلاً في 13 من عمره، أسهم مع رفاقه عقب الدمار الذي خلفه الاجتياح الإسرائيلي لمدينة جنين ومخيمها عام 2002، وما يعرف بعملية "السور الواقي"، بجمع مخلفات قذائف وصواريخ إسرائيلية انهمرت على المخيم لبناء مجسم حصان، غير مدرك آنذاك، أن الخردة المعدنية المأخوذة من منازل وسيارات مدمرة جراء القصف، ستغدو قطعة فنية تنبض بالحياة وتنقل معاناة الفلسطينيين وتعكس آمالهم إلى العالم.
ليس مجرد تمثال
وكان الفنان الألماني توماس كبلبر والمختص بصناعة المجسمات الفنية من المعادن، بادر مع نشطاء فلسطينيين عام 2003 وفي إطار مشروع للمركز الثقافي الألماني (غوته)، إلى صناعة تمثال حصان من الحديد يجسد ما حدث في مدينة جنين ومخيمها، يرمز إلى ثبات الفلسطينيين وعنفوانهم أمام الاعتداءات الإسرائيلية. وتعمد كبلبر تشكيل الهيكل الخارجي للمجسم، الذي يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار، من بقايا مركبة إسعاف فلسطينية قصفها الجيش أثناء محاولة طاقمها الطبي نقل مصابين وقتلى من داخل المخيم، الأمر الذي جعل الفلسطينيين طوال السنوات الـ20 الماضية، ينظرون إلى "حصان جنين" على أنه الشاهد على معركة ضارية قتل فيها 58 فلسطينياً مقابل 23 جندياً إسرائيلياً. وما زاد من قيمته لدى كثير من العائلات، أنه ثبت فوق رقعة من الأرض دفنت فيها جثث فلسطينيين قتلوا أثناء المعركة التي استمرت 11 يوماً، مدة أسبوعين بشكل موقت، قبل أن تنقل لاحقاً إلى مدافن ضحايا مخيم جنين.
ويقول سكان المنطقة إن الجيش الإسرائيلي عمد أثناء اقتحام جنين في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، على تحطيم الحصان ومصادرة بقاياه لما له من رمزية وأهمية عند سكان المخيم. ويعتبر الجيش مخيم جنين "بؤرة للإرهاب"، ويقول إنه اضطر إلى العمل على نطاق واسع في المدينة الواقعة في المنطقة "أ" الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، منذ أن فقدت الأجهزة الأمنية الفلسطينية سيطرتها في المنطقة. في حين يعتبر الفلسطينيون أن تدميره استهداف لرموزهم التاريخية وجغرافيتهم السياسية.
يتساءل أحد سكان المخيم "لماذا لم يهدم سابقاً على رغم أن الجيش مر بجانبه مئات المرات أثناء الاقتحامات والاعتقالات؟ يبدو أن السابع من أكتوبر أكد لهم أن حصان جنين لم يكن مجرد تمثال عادي".
وعلق الباحث الفلسطيني إبراهيم أبو علي على الحدث قائلاً "وضع السكان الحصان على مشارف المخيم مرفوع الهامة، ووجهه نحو مدينة حيفا التي شُرِّدوا منها ومن قراها عام 1948 ليجسد الإصرار الفلسطيني، كما يعبر عن الشموخ والصمود، وأيضاً لإبقاء صورة المأساة حية في الذاكرة، وليؤكد أن اللاجئين في هذا المخيم ما زالوا متمسكين بحق العودة إلى أراضيهم".
خسائر فادحة
لم يقتصر التدمير على "حصان جنين" بل طاول رموزاً ونصباً تذكارية أخرى داخل المدينة. ففي الشارع الرئيس الذي يربط المخيم بمدينة جنين، حوّلت الجرافات الإسرائيلية مدخل المخيم المعروف "بأقواس النصر" أو "بوابة العودة"، إلى ركام بعد أن دمرت شبكات المياه والكهرباء، وجرفت الشوارع المؤدية إليه، وهو المكان الذي كان خلفية للفصائل الفلسطينية المسلحة داخل المخيم عندما تلقي بياناتها العسكرية. كما سحقت الآليات الإسرائيلية ميدان "دلال المغربي" و"ميدان العودة" المبني على شكل خريطة فلسطين والمعروف برمزيته للاجئين الفلسطينيين، حيث يضم أسماء القرى والبلدات التي هجروا منها عام 1948، ويقع بالقرب من مدافن الضحايا داخل المخيم. ودمرت الجرافات خلال الفترة نفسها، النصب التذكاري لـ"شرين أبو عاقلة" وآخر لضحايا بلدة يعبد وفلسطينيين آخرين قضوا خلال معارك متفرقة مع الجيش الإسرائيلي.
وأحصت السلطات المحلية تضرر نحو 80 في المئة من المباني في المخيم، ووفقاً لتوثيقات وزارة الأشغال الفلسطينية، فإن 300 منزل في مخيم جنين دمرت كلياً، ونحو 500 جزئياً وذلك في أعقاب العملية العسكرية الإسرائيلية في يوليو (تموز) الماضي التي استمرت 48 ساعة، وخلفت دماراً كبيراً، وهي تعتبر استكمالاً لعملية "كاسر الأمواج" التي أعلنها الجيش شمال الضفة الغربية منذ أكثر من عام، في أعقاب تصاعد العمليات المسلحة التي نفذها فلسطينيون داخل المدن الإسرائيلية. فيما أشارت بلدية جنين إلى أن الخسائر الاقتصادية الأولية جراء العملية على المدينة ومخيمها في مختلف القطاعات لا تقل عن 40 مليون دولار، وهي تفوق طاقتها وإمكانياتها المادية بـ10 أضعاف. وبحسب معطيات رسمية، دمرت الاقتحامات لجنين ومخيمها نحو ستة كيلومترات من خطوط المياه الرئيسة و30 في المئة من شبكات المياه الفرعية، وبيّنت بلدية جنين أن أكثر من 10 محولات كهربائية دمرها الجيش كلياً إضافة إلى تخريب خطوط كهرباء أرضية على طول ما يقارب ثمانية كيلومترات، إلى جانب تدمير شبكة الهواتف الأرضية والصرف الصحي. وذكرت منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية أن مئات العائلات الفلسطينية في المخيم اضطرت لمغادرة منازلها جراء الدمار، وأكدت أن قطاع الصحة في المدينة يعمل في ظروف هشة واستثنائية.
معضلة جنين
ما إن بدأت الحرب بين إسرائيل وقطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، يشهد المخيم، الواقع في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، اقتحامات يومية بأشكال جديدة وواسعة، تركز بشكل أساسي وكبير على تدمير البنى التحتية، والتي يسعى الجيش الإسرائيلي من خلالها، بحسب قوله "لتقويض حالة المقاومة المتصاعدة داخل المخيم ومنع انتشارها إلى بقية أنحاء الضفة الغربية". ومع تصاعد عمليات إطلاق النار وسقوط قتلى إسرائيليين واستهداف آليات عسكرية بعبوات مفخخة، زادت الضغوطات الداخلية وتحديداً من قبل قيادة المستوطنين على الحكومة، لإطلاق عمليات متتالية واسعة في جنين لإنهاك الفلسطينيين، بخاصة مع ولادة تحديات جديدة في المخيم تمثلت بخطر إطلاق الصواريخ محلية الصنع في شمال الضفة الغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، فإن الوضع القائم في جنين "يستدعي الذهاب لتنفيذ هذه العمليات والاقتحامات من وقت لآخر، وإحباط محاولات إعادة إرساء المقاومة في المخيم والحيلولة دون امتلاك الفلسطينيين هناك سلاحاً يكسر المعادلة، مثل إطلاق طائرات من دون طيار وتفجيرها بالجنود". وقالت صحيفة "إسرائيل اليوم" إن الجيش كرر تهديداته بالهجوم على مخيم جنين من دون هوادة، بسبب ما قال إنه "فشل السلطة الفلسطينية وأجهزتها في السيطرة على المكان، ورفضها العمل فيه في بعض الأحيان". ونقلت الصحيفة عن أوساط داخل الجيش، أنه "مقابل كل 100 هجوم يتم إحباطه، هناك هجوم واحد ينجح. وكان العدوان الأخير في جنين مقدمة لسلسلة من العمليات التي ينبغي تنفيذها في الميدان". وأضافت وفقاً للمصدر "في الوقت الحالي، لا يزال الجيش يمنح الأجهزة الأمنية الفلسطينية فرصة لإثبات نفسها، لكن الوقت ينفد".
يرى مراقبون، أن جنين ومخيمها غدت عقدة بالنسبة لإسرائيل والمستوطنين، ومعضلة لكل الأجهزة الأمنية والمستوى السياسي، فهم يدركون أن الفصائل المسلحة هناك لن تتوقف بسهولة، وبإقرار الجيش فإن الهدف اليوم هو "إرجاع" تلك الفصائل إلى الوراء.