نادرون هم الأشخاص في عالمنا العربي الذين سمعوا بهيرمان نيتش، على رغم أن الرجل الذي حمل هذا الاسم على مدى 83 عاماً، منذ ولادته في فيينا عام 1938، هو رائد الأداء في النمسا ومؤسس مجموعة ضمّت فنانين راديكاليين استخدموا أجسادهم كركائز وأدوات لفنهم في الستينيات، وعُرفت باسم "فينر أكسيونيسموس". رسام استثمر الدراماتورجيا الدينية لابتكار فن كلّي طوّره عاماً بعد عام، حتى وفاته العام الماضي.
خلال السنوات الأخيرة من حياته، أنجز نيتش لوحات ذات حيوية كبيرة بألوانها النيّرة، حافظت على ارتباط وثيق بأعماله الأدائية وبأماكن حدوثها. ونظراً إلى افتتانه بسلسلة لوحات الرسام مونيه، "زنابق الماء"، التي كان يأتي إلى متحف "أورانجوري" الباريسي بانتظام للتأمل فيها، دعاه القائمون على هذا المتحف إلى محاورة هذه السلسلة فنياً، وهي التي أشار مراراً إلى اقترابها من رهانات فنه: "في أداءاتي، صار رسمي التعبيري والديني دراما منجَزة، دراماتورجيا تحليلية. ما تبقى منه هو فورة ألوان وأشكال تنفصل عن المضمون، مثل نشوة الألوان في "زنابق الماء" لدى مونيه".
ولأن وفاة نيتش حالت دون تحقيقه هذا المشروع، قرر القائمون على المتحف المذكور تكريمه بعد عام على رحيله، بتنظيمهم معرضاً تتحاور فيه مجموعة من لوحاته الأخيرة مع "زنابق" مونيه. مناسبة نغتنمها للتعريف بعمل هذا الفنان الكبير، وكشف كيف أفضى إلى اللوحات المعروضة حالياً.
منذ بداية الستينيات، لفت نيتش انتباه محيطه الفني بجمعه حوله مجموعة صغيرة من الفنانين ثوّرت بسرعة ممارسة الفن عبر إلقاء أفرادها بأجسادهم داخل عملهم الفني، وأيضاً عبر استخدامهم موادّ وطرقاً مختلفة للتشكيك بالأعراف الاجتماعية والأنظمة السياسية والممارسات الفنية السائدة. صحيح أن فنانين أوروبيين وأميركيين فعلوا الأمر نفسه آنذاك، لكن بخلاف الأداءات التحريضية الباهتة لمعاصريه، مثل جوزيف بويز الذي ألقى محاضرة على أرنب ميّت بغية تفسير لوحاته له، أو بيلي أبِل الذي نظّف سقف شقته بالمكنسة الكهربائية، أو يوكو أونو التي دعت جمهورها إلى تقطيع ملابسها بمقص، ذهب نيتش أبعد من ذلك بكثير، مع أوتو مويل وغونتر بروس ورودولف شفارزكوغلير، بإنجازهم أداءات مروعة ودموية، غالباً ما أقدموا خلالها على تشويه أجسادهم.
عنف البشر
وفعلاً، إثر قرفهم من الحرب، من بقاء النازية حيّة بعد هزيمتها، ومن الاهتمام الكبير المعطى لفنانين تافهين في نظرهم، سعى نيتش ورفاقه إلى قدح ادّعاءات الفن والمجتمع عن طريق عروض وحشية غايتها تحرير نزوات دفينة وفضح عنف البشر. عروض كانت تخضع لتصميم وإخراج دقيق، خصوصاً تلك التي ثابر نيتش على إنجازها تحت عنوان "مسرح الغموض والعربدة"، وتطلبت غالباً مئات المشاركين.
وبدمجه في هذه العروض جميع أنواع الفن (الرسم، المسرح، الموسيقى، التصوير...)، تاق الفنان في "مسرح الغموض والعربدة" إلى تجسيد فكرة فاغنر للعمل الفني الكلي، ومن خلالها، إلى تأجيج جميع حواس المشاركين في أداءاته، بغية إيصال كل واحد منهم إلى وعي مختلف لوجودهم: "التجربة الحسّية والحياة هما قاعدة مسرحي"، صرّح نيتش قبل وفاته. وفي البداية، حاول التعبير عن فكرة "العمل الفني الكلي" في الشعر. فنظراً إلى تأثّره باكراً بالتراجيديات اليونانية وجورج تراكل والتعبيرية الألمانية والرمزية الفرنسية وجايمس جويس والسورّياليين، بدأ عام 1956 في كتابة نص درامي طويل، وصفه بـ "نوع من الدراما النموذجية المكثّفة التي تهدف إلى تلخيص صراعات الميثات وكوارثها، كميثة أوديب وميثة "نيبيلونغن" وميثة أتريدس".
ولكن بعد عامين، أدرك أن اللغة لا تملك بمفردها القدرة الكافية على نقل الحدة الانفعالية العميقة والمقنعة المطلوبة، فنقل مسعاه التعبيري إلى ميادين فنية مختلفة وبدأ باستخدام مواد حقيقية في أداءاته، تثير حواس الشم واللمس والذوق، ومناسِبة بالتالي، لتعزيز الانطباعات الحسّية، مثل الحليب والخل والنبيذ واللحم والدم. أما عملية إخراج هذه الأداءات، فكانت غايتها تحرير الفن من مهمة التمثيل، وتفجير الحدود التي تفصله عن الحياة نفسها، وبالنتيجة، جعلِ المشاهدين ــ المشاركين يعيشون واقعه الحسّي بالتزامن مع حدوثه. هكذا استبدل الفنان التجربة الأدبية بالتجربة المُعاشة، مما سمح له بالتحرر من اللغة المنطوقة. وحول ذلك، قال: "ليست اللغة التي تسبر الأعماق، بل تجربة الانتشاء الحسية التي تأتي نتيجة أفعال تهتّكية تقود إلى كشف المكبوت".
وفي هذا السياق، سعى نيتش مطلع الستينيات إلى اختزال وسائل التمثيل إلى حالتها الأولية أو المادية البحتة: اللغة إلى الصراخ، الموسيقى إلى الضجيج، الرسم إلى سكب الطلاء، فعبر من القول إلى الفعل، ومن التمثيل إلى المادة، مؤسساً لعمل تهتكي هدفه الحياة نفسها، بكل جوانبها الإيجابية والسلبية، وتُمكِن مقارنته بـ "مسرح القسوة" لأنتونان أرتو. وانطلاقاً من هذا المرجع، وأيضاً من نظريات فرويد وفلسفة نيتشه، تخيّل "نموذج تصريف دراماتورجي" في عمل مسرحي، شخصيتاه الرئيستان ديونيزوس، إله الخصوبة المدمِّر الذي يجسّد المبدأ الأولي للكينونة، والمسيح الذي ضحّى بنفسه حباً بالبشر. عمل تُشكّل فيه تمزّقات ديونيزوس نموذجاً لآلام الصلب، ويحضر فيه أيضاً فعلا فقء أوديب عينيه وخصي أتيس نفسه، إضافةً إلى قتل حيوانات طوطمية وأكلها. ولأن موضوعه هو الوجود البشري نفسه ــ الولادة، الحياة، الموت والانبعاث ــ وأدواته الميثات والطقوس، يضطلع الفنان والمشاركون فيه بدور البشرية المعذَّبة التي يتوجب إنقاذها عبر استعادة المكبوت فيها. كيف؟ بتجربة حسّية تذهب من العربدة إلى النشوة والتأمل، وتقود إلى إنجاز الذات بتنفيس الانفعالات المقموعة داخلها. عملٌ يهدف كل انحدار فيه، نحو الشاذّ والمقرِف والمرعب إلى تجاوز جميع الحدود والمحرّمات، وتوكيد الحياة، عبر معانقة الكينونة في كليتها.
وضمن "مسرح الغموض والعربدة"، أنجز نيتش أيضاً لوحات عن طريق قذف الطلاء أو رشّها على أقمشة معلٌّقة عمودياً أو أفقياً. فعلٌ غايته التعبير عمّا يعتمل في اللاوعي، وعن الرغبات والنزوات المكبوتة، وما لبث الدم واللحم والأحشاء أن حلّت فيه مكان الألوان، ضمن أداءات وحشية كان ينفّذها الفنان في أماكن عامة، ويعمد خلالها إلى صرع حيوانات وصلبها، أو تقطيعها، قبل أن يعود في نهاية الثمانينات إلى الألوان مجدداً، فيستخدمها بشكل أحادي ثم توليفي، مركّزاً على تلك النيّرة منها، خصوصاً الأحمر، اللون الأكثر حدّة الذي يرمز إلى الحياة والموت، إلى الحب والجسد والدم.
وفي التسعينيات، وسّع نيتش طيف ألوانه بلجوئه إلى ما سمّاه الألوان الطقوسية (البنفسجي، الأزرق، الأخضر والأبيض)، التي كان يغمس ذراعيه داخل سوائلها، كما كان يفعل مع أمعاء الحيوانات، متحسساً مادّيتها، قبل أن يقذفها على سطح اللوحة أو يمرغها بفرشاة أو بيديه. وبالتالي، أدّت الألوان دوراً مركزياً في عمله بقيمتها الحسّية والتصويرية، وبمزاياها الرمزية والتعبيرية. وقد دعا الفنان إلى إدراك حدسي لها، عن طريق ما تثيره من انفعالات داخلنا، وإلى استخدامها بحرّية، وفقاً للحواس والغريزة. وفي هذا السياق، صمم سلّم مقاييس تصطف تدرجات الألوان فيه بتناغم، معزِّزةً بعضها بعضاً، ومشكّلةً توليفات متوازنة تستحضر المدوّنات الموسيقية.
موسيقى الصوت
وهذا ما يقودنا إلى الموسيقى كعنصر أساسي في عمل نيتش، حلّ مكان اللغة المنطوقة. موسيقى بشكلها الأولي، أي كأصوات وصراخ وضوضاء، تنبثق من حالة الإثارة خلال الأداء، وتعزّز مفاعيله. وقد عمد الفنان دائماً إلى إرفاق أداءاته بـ "أوركسترا من ضجيج"، بـ "جوقة صراخ" وبفرقة موسيقية تقليدية، مع مكبّرات صوت. ولتفسير مسعاه، قال: "غاية الموسيقى التهتكية نقلنا إلى حالة حادّة نعثر فيها على كينونتنا".
والموسيقى، كما استثمرها نيتش، هي تفاعُل الصوت واللون، تناغمهما أو تنافرهما، كما يتجلى ذلك في مدوّناته الموسيقية وتعليماته المكتوبة لكيفية إنجاز الأداءات، حيث تحلّ أحياناً خطوط ملوّنة مكان العلامات الصوتية. وفي موسيقاه، كما في نظريته حول الألوان، لا أهمية سوى للصوت والتناغم. أما اللحن والإيقاع، فمهملان كلياً. والغاية من ذلك هي تجاوز الفئات التقليدية للموسيقى لبلوغ شكل تعبيري راديكالي يدعم حدة الأداء وطابعه الانتشائي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومثل المسرح والرسم والموسيقى، يتحلى التصوير الفوتوغرافي والسينمائي بأهمية كبيرة في عمل نيتش. فمنذ بداية مسيرته، عمد إلى تسجيل أداءاته، أو إلى إنجازها كأفعال فوتوغرافية أو سينمائية صافية. وكان مهماً له أن يكون التصوير مرتبطاً بالأداء بشكلٍ محايد، ولكن منجَزاً من وجهة نظر مناسبة، كي يتمكن من عكس مفهوم الأداء ككل.
دموية، وحشية تجاه أجساد الحيوانات والبشر، ليتورجية، لم تثر أداءات نيتش حفيظة جمعيات حماية الحيوان فقط، بل أيضاً رجال دين ولاهوتيين وممثلين عن الأخلاق العامة، وحتى عدد مهم من نقاد الفن. أداءات أثارت بالتالي جدلاً واسعاً في أماكن حصولها، وأدّت غالباً إلى تدخّل الشرطة لمنعها أو إيقافها أثناء حدوثها، وأحياناً إلى توقيف الفنان ورميه في السجن.
لكن بجرأته، وحسّه الابتكاري المدهش، وعمق مغزى عمله، ألهم نيتش أجيالاً من الفنانين الأدائيين، الذين رأوا فيه بطلاً ورائداً في ميدانه، وأثار اهتمام أكبر المتاحف والمؤسسات الفنية الغربية، كما يشهد على ذلك تنافسها على اقتناء أعماله وعرضها.