Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صورة صادمة لبيتهوفن يحاول راسمها قول ما لم يقل عنه

سيد الموسيقى السيمفونية لم يكن سوى انتهازي تافه رغم عبقريته

موتزارت طريق بيتهوفن للوصول إلى سادة المجتمع ("اندبندنت عربية")

"تنتمي مؤلفات لودفيج فان بيتهوفن إلى التراث الخالد للتاريخ الموسيقي. ولكن من هو في الحقيقة، مبتدع هذه الموسيقى التي قدمت لنا أعمالاً خالدة مثل "فيديليو" و"ميسا سولمنيس" والسوناتات العديدة الرائعة للبيانو ناهيك بالرباعيات الوترية والسيمفونيات البديعة بخاصة منها "السيمفونية التاسعة"؟ في هذه السيرة الذاتية العظيمة، يرسم الموسيقي وقائد الأوركسترا البلجيكي جان كايرز باللغة الألمانية، لغة بيتهوفن بالذات، صورة رائعة وحيوية للفنان. فيقدم لنا المؤلف بيتهوفن كاستثناء في عالم الموسيقى، دون أن يفترض مسبقا أن قارئ كتابه يمكن أن يكون على  معرفة بتاريخ الموسيقى أو حتى بالتكنولوجيا الموسيقية. في هذه السيرة الذاتية المروية ببراعة، يسلط كايزر الضوء على الحياة الإنسانية والفنية لبطل الكتاب من خلال تشابك نشأة أعماله مع التطور الشخصي لبيتهوفن، الذي يتأرجح بين الأريحية والتفاهة، بين الحماسة العظيمة واليأس الذي قد يبدو قاتلاً في بعض الأحيان. وفي الوقت نفسه، بالتوازي مع ذلك كله يتوقف الكاتب مطولاً عند ظروف العمل المزاجية والاقتصادية التي تقاطع معها الزمن الذي أنتج فيه الموسيقي الكبير أعماله الكبرى ليكشف عن الصعوبات التي كثيراً ما واجهته وكثيراً ما كان يجهض تلك الأعمال. كل هذا دون أن يفوت الكاتب أن يتوقف مطولاً عند الحياة الموسيقية والاجتماعية في المقاطعات التي عاش فيها بيتهوفن كما في مدينة فيينا في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر. وفي هذا السياق نفسه يصف كايرز أيضاً تلك القيود المكبلة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، والتي لم يتمكن حتى عبقري مثل بيتهوفن من الهروب منها والتي منعته من تجربة الحب الكبير الوحيد في حياته".

واقعية مريرة

بهذه العبارات التي تنضح بالحماسة والإعجاب كما بالواقعية المريرة، تحدث النقاد قبل دزينة من الأعوام عن واحد من آخر الكتب الكبيرة التي صدرت حتى اليوم عن لودفيغ فون بيتهوفن أحد كبار الكبار في تاريخ الموسيقى العالمية. لكن بعض أولئك النقاد وتحديداً ناقد صحيفة "فرانكفورتر الخيمايني تسايتوغ" قال في خاتمة مقالته أن "ما يستشف من قراءة الكتاب، بشغف حتى سطوره الأخيرة"، أن "بيتهوفن لم يكن بطلاً ولا عملاقاً ولا صرحاً، بل مجرد انتهازي وصولي سخر موهبته، بل عبقريته لشؤون بالغة الدنيوية". والحال أن هذا التلخيص لما يقوله الكتاب لا يبتعد كثيراً عن حقيقته، كذلك فإن الكتاب بدوره لم يبتعد كثيرا عن "حقيقة بيتهوفن" التي بقيت زمناً طويلاً من الأمور المسكوت عنها، أو على الأقل من الأمور التي قد يمكن العثور عليها إذ كتبت وقيلت مرات عديدة، لكنها بقيت غالباً مخبوءة مشتتة في أدغال الكلام التعظيمي الذي كان متوافقاً عليه بصدد إبداع ذلك الفنان الكبير. وهو تعظيم لا ينكره الكتاب على أية حال، بل يزيد عليه، ولكن في مقابل "كشفه" عن حقائق أخرى لا تسيء إلى إبداع بيتهوفن، لكنها تحاول كشف حقيقته كإنسان! ففي هذه السيرة التي وضعها إيان كايزر لبيتهوفن بعد سنوات طويلة من معايشة موسيقاه وقيادة أوركسترات جعلت همها الأساسي تقديم أعمال سيد الموسيقى السيمفونية وأحد مؤسسي فنها هذا، وجد كاتب السيرة أن الوقت قد حان أخيراً لقول كل "الحقائق" التي كان لا بد من قولها. ومن هنا انصرف أشهراً طويلة للتوغل في كل سطر كتبه بيتهوفن أو كتب عنه، وفي كل ما يتعلق بإنتاجه الموسيقي والظروف التي أحاطت بإبداعه، وفي كل السجالات التي دارت في شأنه، ليطلع من ذلك كله بكتاب عنونه "بيتهوفن الثائر المنعزل" صدر في ثلاث طبعات خلال العام الأول من صدوره (2012) على رغم عدد صفحاته الضخم: 832 صفحة من القطع الكبير.

فن التقاط الفرص

ويذكر جان كايرز منذ البداية أن غايته من الكتاب كانت بالتأكيد تقديم صورة رائعة لعبقرية ذلك الأستاذ الكبير الذي "قد يمكننا في نهاية الأمر القول إنه بالتوازي مع تلك العبقرية استطاع بالتقاطه فرصاً وضعتها الصدفة في طريقه كما بانتهازية مبنية على ذكاء خارق، بل حتى بحس تجاري مدهش وشبكة علاقات بناها بشكل خلاق، أن يضع بصمته الاستثنائية على الحياة الموسيقية طوال قرن من الزمن وأكثر، ومن هنا كان تركيزه، كما يذكر كايرز، على كبار أثرياء عصره ورجالات مجتمعه بحيث أن الطابع المركب لألحانه الخالدة إنما كان يهدف إلى إرضاء تلك الأوساط المعقدة "وعلى سبيل المثال، يقول كايرز، لم يكن بيتهوفن معجباً بشعر شيلر ومع ذلك نراه يستخدم شعره في الحركة الأخيرة من سيمفونيته التاسعة. ويقيناً أن هذا ينم بدوره عن عبقرية عملية...".

بدايات عبقري 

وهي على أية حال تختلف عن عبقريته الموسيقية فلا ينكرها الكاتب، بل يؤكد وجودها لدى الفنان الكبير منذ بداياته مستنداً إلى الحكاية المتبادلة حول بدايات بيتهوفن السيمفونية التي تروي لنا كيف أن هذا الفنان الشاب حين كان في سبيله إلى الانتقال من مدينة بون الألمانية، إلى فيينا التي كانت في ذلك الحين عاصمة الموسيقى بقدر ما هي عاصمة النمسا، قال له راعيه الكونت فالدشتاين الذي كان أول من نصحه بالانتقال، "ما أطلبه منك هو أن تتلقى روح موتسارت على يدي هايدن مباشرة لأن علية القوم يحبون ذلك". والحقيقة أن هذا كان ما فعله بيتهوفن تماماً، ومنذ وصوله إلى فيينا. في ذلك الحين كان بالكاد اقترب من الثلاثين من عمره، وكان سبق له أن وضع بعض الرباعيات والقطع الأخرى متأثراً بأجواء ألمانية خالصة تطل على رومانسية ما. لكنه لم يكن قد كتب أياً من سيمفونياته التسع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كأنها خارج الحياة

ومن يهيم اليوم حباً بسيمفونيات بيتهوفن يفوته في معظم الأحيان ربطها، متدرجة بحياة مؤلفها. حيث إن الهاوي ينظر إليها كأنها تقف خارج الزمن، كل زمن، بل يدهشه أحياناً أن لها أرقاماً متتالية. ما ينساه هذا الهاوي هو أن لكل شيء بداية، تماماً كما أن لكل شيء نهاية. وإذا كانت السيمفونيات تبدأ، تراتبياً، بالأولى لتنتهي بالتاسعة، فإن هذا الترقيم ليس عشوائياً. فالأولى هي الأولى التي كتبها بيتهوفن والتاسعة هي الأخيرة. ومحب الموسيقى المدقق يمكنه من أول استماع أن يدرك الفارق الكبير، وهو فارق قد يمكن تلخيصه على لسان الباحث المصري الدكتور حسين فوزي الذي وضع مرة خلال تقديمه السيمفونية الأولى على أثير "البرنامج الثاني" في الإذاعة المصرية، بفرضية تقول إنه "لو كان حدث ومات بيتهوفن بعد تأليفه السيمفونية الأولى مباشرة، لما كان في وسعنا اليوم أن نستمع إلى هذا العمل إلا بصفته عملاً جيداً - لا أكثر - لتلميذ موهوب من تلاميذ هايدن، مع شيء من روح موتسارت". طبعاً، في هذا القول إشارة إلى تحقيق ما كان طلبه الكونت فالدشتاين من بيتهوفن، غير أن استماعنا إلى "الأولى" في ضوء معرفتنا ببقية أعمال بيتهوفن، سيقلب القاعدة تماماً: سيري كم أن السيمفونية الأولى حملت كل نتاج بيتهوفن التالي، خطوة خطوة، في شكل يجعلها تبدو افتتاحية جامعة على نمط افتتاحيات روسيني أو فاغنر الأوبرالية.

صدمة وجرأة
إذاً، في ضوء عمل بيتهوفن الإجمالي، ننسى تماماً حكاية روح موتسارت وتقنية هايدن. ولو فعلنا لكنا، على أية حال، نجاري أولئك الذين كانوا حاضرين يوم الثاني من أبريل (نيسان) 1800 في قاعة المسرح الإمبريالي في فيينا، يوم قدمت سيمفونية بيتهوفن هذه للمرة الأولى، حيث منذ البداية أدرك الحضور أنهم أمام عمل تجديدي، بل أمام عمل يخرق الأعراف. وكانت الجرأة من بيتهوفن يومها مزدوجة في ضوء البرنامج الحافل الذي احتوته تلك الحفلة وتخللته أعمال من موتسارت وهايدن. كان بيتهوفن أمام أول امتحان كبير له في حياته، محصوراً بين الأستاذين الكبيرين. ومن هنا كان من الطبيعي أن يلجأ إلى الصدم وإلى الجرأة، ففعل وأدهش الحضور، وإن كان الأمر انتهى بهم إلى أن يأخذوا على المؤلف الشاب، إفراطه في استخدام آلات النفخ! واللافت هنا هو أن مؤلف الكتاب الذي نحن بصدده يتحدث عن أن "الصدمة التي أحدثها بيتهوفن في تلك الأمسية" لم تكن سوى المظهر الأول من مظاهر انتهازيته التي قامت وستقوم دائماً على حسابات دقيقة مدروسة بعناية. تنم عن عبقرية بالتأكيد لكنها تتناقض تماماً مع صورة الرومانطيقي الحالم... المعهودة!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة