Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حميدتي... وأخرجت القبيلة أثقالها

استعملها قائد "الدعم السريع" كقاعدة سياسية وجهادية لمشروعه

جرب دقلو بنفسه لجاجات القبائل بعد إقامته بين جماعات منها في غرب السودان (أ ف ب)

ملخص

كانت القبيلة هي المنظمة الباقية في الساحة للتحشيد السياسي لانتخابات النظم التي وظفتها بسياسة "فرق تسد".

كتب الصحافي عبدالحفيظ مريود أن "الدعم السريع" تهاجم القوات المسلحة "عشائر وعقداء". والعبارة مجاز لنظم قبلية تقليدية. فالعقداء هم قادة أيام البادية السودانية، من حقهم لدى النصر مثلاً أن يعزلوا ما طاب لهم مما غنموه حرباً قبل أي أحد آخر.

ومعلوم أن التجنيد لـ"الدعم السريع" قبائلي في الغالب لا يأتيه الواحد منهم فرداً. فظل محمد حمدان دقلو، قائده، يسعى بين زعماء العشائر المعروفين برجالات الإدارة الأهلية، ليبعثوا بفتية من أهلهم على كل جماعة قائد منهم. وبدا أن لهذه الخطة في التعبئة عواقبها الضارة بعد أن جيشت لها قواته، التي زادت عن الـ100 ألف مقاتل، وشدت رابطة القبيلة من عزائمهم للقتال والموت.

فالقبيلة، كوحدة سياسية، زلقة غير مأمونة. وجرب دقلو بنفسه لجاجات القبائل بعد إقامته بين جماعات منها بغرب السودان، منطقة نفوذه، في شتاء 2022 بعزم ألا يعود للخرطوم إلا وقد سوى خصوماتها، لكنه عاد بعد شهرين ليعترف باستحالة مطلبه في حديث صريح لمؤتمر انعقد وقتها لرجالات الإدارة الأهلية. فاستنكر أمامهم الموت المجاني حول نزاع لا يسوى مثل ملكية قطعة أرض. وطلب منهم مراجعة حساباتهم حول النزاعات في ريفهم لمعرفة السبب من ورائها، كما طلب منهم العودة إلى مناطقهم لحلحلة النزاعات. وأضاف أنه كفاهم دخولاً في السياسة، بينما يقيمون في "فنادق خمس نجوم". وقال للإداريين الأهليين في جنوب وغرب كردفان أن يشرعوا في المصالحات القبلية: "ما دايرين مشكلات تاني". وسمى المنافقين "الذين قال إنهم هم من وراء تلك الصراعات". ونادى زعماء العشائر: "اخرجوا الجراثيم التي بينكم وتقتل في أهلكم".

ولم يلبث حميدتي في الحرب قليلاً حتى خرجت عليه جراثيم القبلية. فافتضحت هشاشة نظمه للتجنيد على وتيرة القبيلة. فجددت قبيلتا بنو هلبة والسلامات، وهما من حلف العطاوة كما سيرد، صراعهما التاريخي حول ملكية الدار. فكانت السلامات طلبت حقاً في دار بني هلبة لا تجيزه أعراف البادية ولا قانون البلاد. وما اصطرعا هذه المرة، وهما جميعاً في "الدعم السريع"، حتى صار للقبيلة المكان الأول عند منتسبيها دونه. فتحول منتسبو "الدعم السريع" في الجماعتين كل إلى قبيلته التي تؤويه. عادوا للحرب مع أهلهم بالأسلحة الثقيلة والسيارات ذات الدفع الرباعي، وغالبه من عتاد "الدعم السريع".

ونجحت "الدعم السريع" بالأمس فقط في الدورة الثانية من مساعيها إلى احتواء قتالهما الدموي الذي دام ثلاثة أشهر بعد فشل الدورة الأولى في سبتمبر (أيلول) الماضي. وليس في وثيقة الصلح ما يشي بأنها خاطبت جذور الأزمة بينهما. وسبقت الحكومات المتتالية في السودان "الدعم السريع" إلى عقد مثل هذا الصلح الذي هو تهدئة لا علاجاً.

المصائب لا تأتي فرادى

ورد في الأخبار منذ أيام قليلة أن ثمة نذر هجوم من "الدعم السريع" على مدينة النهود، حاضرة قبيلة حمر بغرب ولاية كردفان، وأن زعماء الجماعة يبحثون سبل صده، وأن هذه المواجهة ستكون بين قبيلة "المسيرية" وحمر وكأن "المسيرية" و"الدعم السريع" شيء واحد.

ففي فيديو ذاع على النت أنذر قائد لـ"الدعم السريع" الحضور الغزير أمامه ألا يتفرقوا قبائل كـ"المسيرية" والرزيقات وبني هلبة والسلامات وأن يتمسكوا بوحدتهم جميعاً كعطاوة. ومن اللافت أن بولتيكا هذه العطاوة لم تثر انتباهاً مستحقاً على قدمها. ففي 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 نشر تجمع أبناء العطاوة في خارج السودان بياناً يحمل الحكومة المركزية وولاية غرب كردفان مسؤولية الفتنة بين فرعين من قبيلة "المسيرية". واتهم تلك الدوائر الحكومية بمدهما بالسلاح والمال ليقتتلا ليؤمن الساعون بالفتنة حقوقاً بأرض ستنزعها الحكومة لتقيم منشأة نفطية وتعوض أصحابها.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا صح الخبر فلهذه المواجهة المنتظرة بين حمر و"المسيرية" تاريخ يعود أقله إلى 2021. فتعدى وقتها شباب من حمر على سعية "المسيرية" الزرق بالخطف وعلى دورهم بالحريق. وكان ذلك بمثابة احتجاج منهم على إرخاص المسيرية، صاحبة الدار التي يقيمون عليها، بهم. فساءهم أن تفرض عليهم إيجاراً للأرض وتعريفة على المياه أعلى مما يطلبون من غيرهم. وقاد "المسيرية" الحمر، بني عمومة "المسيرية" الزرق، وفداً للصلح مع حمر باسم "أهلك أسيادك" اتفقوا فيه على وجوب ترسيم الحدود بين القبيلتين وفرض هيبة الدولة بارتكاز للقوات المشتركة (الجيش و"الدعم السريع" والحركات المسلحة والاحتياط المركزي) على الشريط العازل بينهما. وتدخل محمد حمدان دقلو، قائد "الدعم السريع"، لاحتواء النزاع في سبتمبر 2022 بالصلح، لكن تكررت المواجهة في ديسمبر (كانون الأول) 2022 بخسائر فادحة في الأرواح والثروة اشتكى بعدها حمر من تحيز القوات المشتركة، التي كان بعث بها حميدتي للمنطقة، لـ"المسيرية"، وطالبوا بقوة عسكرية أمنية من خارج الولاية. ومرة أخرى تواثقت الجماعتان على وقف العدائيات في مايو (أيار) 2023. فإذا صح الخبر الذي بدأنا به بدا منه أن "المسيرية" جاءت لحمر هذه المرة بطاقية "الدعم السريع" الذي يعمل حالياً للسيطرة على كردفان.

وعقدة المسألة من الجانب الآخر هي مطلب حمر منذ 2011 بقيام ولاية جديدة خاصة تجتمع فيها محلياتها الموزعة بين ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان. وتريد من ذلك أن تخرج من ولاية غرب كردفان التي تجمعها مع "المسيرية" والتي اصطرعتا فيها حول حتى ما تكون حاضرتها: النهود لحمر أم الفولة لـ"المسيرية".  

والبادية حبلى لا تنقضي جراثيمها في قول حميدتي.

وفي خبر آخر صدر بيان من مجلس شورى قبيلة دار بتي في الأول من نوفمبر 2023، والحرب قائمة، عن نزاع بين قبيلة الحوازمة، المعدودة في حلف العطاوة الذي تقدم ذكره، وقبيلة دار بتي من جهة وقبيلة الكواهلة وكنانة لإصرار الأخيرين قفل مرحال (وهو الطريق المتعين لرحيل البادية) تقليدي لظعن الحوازمة ودار بتي البادية. ويعود هذا الصراع إلى يونيو 2020 وفشلت مساعي الصلح في احتوائه حتى تلك التي جمعت قادة الإدارة الأهلية من ولايات الخرطوم، ودارفور وشمال كردفان وغربها، كما لم يستمع أحد حتى إلى نداء من عبدالله حمدوك رئيس الوزراء آنذاك، الذي ينتمي لنفس المنطقة. وتكرر القتل وحرق المنازل والتمثيل بالجثث.

أما دور دار بتي في المواجهة فقد حدث في أغسطس (آب) 2023 لدى عودتها من المصايف التي تقضيها جنوباً طلباً للماء والكلأ. وكانت الحركة الشعبية لتحرير السودان، عبدالعزيز الحلو، التي تسيطر على منطقة جبال النوبة في جنوب كردفان، قد أغلقت المرحال الغربي بوجه البادية. فاتصل الحوازمة بقيادة الجيش في المنطقة لتعديل المسار لتجنب المرور بمناطق الحركة الشعبية. وأخطر كل من الكواهلة وكنانة والحوازمة بالمسار المعدل والضوابط التي تقررت لتأمين سالكيه، لكن في أول نوفمبر منعت قوة مسلحة في منطقة للكواهلة ظعن الحوازمة من الحركة. ووقع اشتباك دموي بين المسلحين والحوازمة. ونصب الكواهلة كميناً لظعن دار بتي. واتهمت الحوازمة ودار بتي عسكريين من القوات النظامية من الكواهلة بالمشاركة في الصدام إلى جانب أهلهم.

استعمل حميدتي القبيلة كقاعدة سياسية وجهادية لمشروعه. ورأينا كيف وجدها حاقنة جراء توظيف مركز الحكم لها في غير ما خلقت له. فصارت بالضرورة حاضنة سياسة في نظم الديكتاتوريات المتعاقبة لأنها، خلاف الأحزاب والنقابات والاتحادات، لا تنحل بقرار منها. فكانت القبيلة (بل فروعها وأفخاذها) هي المنظمة الباقية في الساحة للتحشيد السياسي للانتخابات المغشوشة التي تجريها تلك النظم، كما وظفتها بسياسة "فرق تسد" التي تؤلب طرفاً منها ضد طرف تمرد عليها. واستثمرت القبيلة من جهتها دنو المركز منها بنفوذه الكبير لتحقيق مكاسب لها في السياسة المحلية. وصار "النزاع القبلي"، في وصف صحف المركز له، واقعة يومية فادحة في حياة هذه القبائل. وبلغت هذه النزاعات من التواتر والكلفة حتى سماها حميدتي نفسه بـ"الجراثيم".

وبلغت هذه النزاعات حداً من التواتر والفظاظة تصارخت به البادية لعقود تطلب "بسط هيبة الدولة" حتى تأمن إلى حياتها. وجاء حميدتي لا ليجعل القبائل مبلغ سياسته وحربه فحسب، بل ليحل أيضاً الدولة، التي كانت هيبتها ما رغبت فيه القبائل، نفسها. وما لبث أن أخرجت له أثقالها كما رأينا من الحروب القبلية الناشبة من وراء حربه وبإمكاناتها. وقال مالها!

المزيد من آراء